يقف موسيقيو العالم على درجات سلّم طويلة يعلو أحدهم على الآخر، أما فاغنر فإنه يقف على سلّم أخرى على حدة، ليس لها سوى درجة واحدة في أعلاها، وحتى هذه الساعة لم يتح لـموسيقيّ آخر أن يكتشف سر بلوغ تلك الدرجة العالية!
في اليوم الثالث عشر من فبراير/شباط لـخمسيـن سنة خلت مات في البندقية ريخارد فاغنر، بعد أن صرف عمره في حياة مُرَّة وأنفق نفسه في الشعر والفلسفة والـموسيقى، فخرج من الـحياة شاعراً نادراً وفيلسوفاً كبيراً وموسيقياً فذاً. أما مرارة حياته فقسم عظيم منها يعود إلى ما كابده من شوقٍ إلى حب مثالي يـملأ نفسه الواسعة ويشعر معه أنّ قلبه غرق به، وإلى فشله في بحثه عن ذلك الـحب. والقسم الآخر يعود إلى ما عاناه من اضطهاد أبناء وطنه الذين لم يفهموه ولم يحترموه. فلقد قامت قيامة كثيرين من نقّاد الـموسيقى عليه وكان أدباء عصره ضده، ورماه عدد غير قليل منهم بكلام قارص وسمّاه أحدهم، فريدرخ فون شبيلهاغن، «لاقط جرذان بيرويت النشيط» وشبَّه باول هيزي موسيقاه بـ «الـجعجعة الـمفجعة ودخان الـحشيش».
تعلقت نفس فاغنر بالأساطير الـجرمانية، خصوصاً «النيبلنغن» ومنها استمد مثاله الأعلى في الفلسفة. ويقف فاغنر من الـموسيقى موقف أبي العلاء من الشعر، وكما وصل أبو العلاء بيـن الشعر والفلسفة على كيفية بديعة، كذلك وصل فاغنر بيـن الـموسيقى والفلسفة بطريقة باهرة، ومن هذه الـجهة لا يتقدم على فاغنر إلا الـمعري.
أما في الـموسيقى نفسها فقد ابتكر فاغنر أسلوبه الـخاص الذي يسمّونه أحياناً «أسلوب السباحة بالـموسيقى». ولقد كان لهذا الأسلوب تأثير كبير ووقع عظيم حتى ملك على القلوب نبضاتها وعلى العقول تصوراتها، وحاول بعض الـموسيقييـن الـمتأخرين الاقتداء به، ولكنهم قصّروا عن مداه ورجعوا عنه مخفقيـن وبقي سر الانتصار على الأمواج الـموسيقية الـمتتالية من مـميزات فاغنر الدالة على نبوغه.
يلاقي الأسلوب الفاغنري الآن معارضة شديدة في العالم الـموسيقي. ولكن ذلك لن يزعزع مركز هذا الـموسيقي الـخالد، بل إنّ الـمحل الذي تـحلّه موسيقاه سيبقى خاصاً بها. وإذا كان لم يقم حتى هذه الساعة موسيقي آخر يتمكن من اقتفاء خطوات فاغنر وطلب الـمثال الأعلى الذي طلبه هذا، فموسيقى فاغنر ستظل من أبدع ما عمل في هذا الفن.
ستكون هذه السنة في ألـمانية سنة فاغنرية كما كانت سنة 1927 سنة بيتهوفنية فيكون لـمؤلفاته الـموسيقية، الشأن الأول في برامج الأوبرا والـحفلات الـموسيقية. والذين يعنون بدراسة فن هذا الرجل يجدون في الـمعارضة الـحالية ما يضحك، لأنه مهما كانت حجج هذه الـمعارضة قوية فهي تتلاشى وتضمحل أمام أنغام فاجعة «ترستان وإيزلده، وبرسيفال، والرنغ» وفي هذه الأوبرا جعل فاغنر العناصر تتكلم. ولم يقف عند هذا الـحد، بل إنه تخيّل مثال الله الذي صبت إليه نفس الإنسان منذ القديـم، ولكنه في الوقت نفسه، كان يرى الـحيوانية كما هي فمثّلها لنا في أشخاص فوتان وبرونهيلده وألبرخ وميمي.
أوجد فاغنر عالـماً غنياً بعناصره وعوامله، غنياً بحالاته النفسية ومراميه الفكرية، غنياً ببواطنه وظواهره. وحريّ بنا ونحن نطلب ما هو سام وجميل، أن نعير أذناً صاغية إلى ما توحيه إلينا موسيقى هذا الـمتفنـن الـخالد، وأن نفتح قلوبنا للروح التي أجراها على أنغامه.