6 - إقتصاد، إدارة، قضاء
يترك غبطة البطريرك ميدان السياسة، تاركاً السامعين والقراء في حيرة بين الاستقلال والحكم، ويتقدم إلى معالجة المطلب الثاني من المطالب التي يتناولها خطابه وهو: الاقتصاد.
والعلاج الذي يصفه غبطته في هذا الباب لا يتناول نقطة فنية واحدة، بل كل الكلام في هذا الشأن عمومي معتاد من النوع الذي يتعرض الإنسان العادي لسماعه في أي مجتمع عائلي أو أي ناد عام أو خاص. ومنه ما قد تكرر طرقه الآذان لكثرة ما تردد في الخطب السياسية وغير السياسية حتى أصبح وقراً في المسامع كقوله: «أما تكثير موارد الشعب فيكون بتحسين الزراعة وتنشيط المشاريع الوطنية»، وقوله «فتحسين الزراعة يكون باستخدام المياه، التي تجري إلى البحر دون فائدة لري الأراضي البعلية»، وقوله «ويكون بفتح مدارس زراعية، الخ.» وكل الكلام الذي في هذا الباب لا يتناول مسألة اقتصادية واحدة بالمعنى الصحيح. فتحسين الزراعة مثلاً له علاقة وثيقة بالسياسة الاقتصادية العامة وبمسائل السياسة القومية العامة، وغبطته لا يبدي ما يدل على الشعور بوجود هذه العلاقة. وفتح مدارس زراعية يتعلق بموازنة الدولة ونظام الجباية وتعيين الموارد والنفقات. فإرشادات غبطته في صدد الأمور الاقتصادية هي من باب الكلام الجميل السهل، الذي لا ينطوي على درس عميق لأية معضلة اقتصادية وعلى كيفية حلها.
ثم ينتقل غبطته إلى موضوع الأمن العام الذي هو من مواضيع الإدارة، فيشير إلى أنّ من واجبات الحكومة الأولية المحافظة على أرواح الشعب وأمواله من الاعتداءات الداخلية والخارجية «والضرب على أيدي الأشرار والمقلقين.» وينتهز غبطته هذه الفرصة أيضاً لرمي الحزب السوري القومي بأشياء كانت يجب أن تترك لأعمال المفترين. فإننا نفهم أنّ غبطته يريد تأييد التقاليد الكنسية وتقاليد المقام البطريركي الماروني بالمحافظة على السلطة الزمنية أو على النفوذ الزمني، وهو أمر يتضارب مع تعاليم الحزب القومي، وأنه يريد اتباع سياسة الاحتفاظ بالحالة الراهنة التي كان للمقام البطريركي الماروني شأن كبير في إقرارها ونفي كل عقيدة وكل أمر يتضارب مع هذه السياسة ومع وجهة نظر المقام البطريركي في معالجة القضية القومية.
وكان الأفضل أن يشير غبطته إلى هذا الأمر الواقع ويتناول مسائل الخلاف بين وجهة نظر المقام البطريركي الماروني المستمدة من تقاليده القديمة والمبنية على أساس مصلحة هذا المقام ومصلحة الجماعة الدينية السياسية، ووجهة نظر الحزب القومي المستمدة من المبادىء القومية والمبنية على أساس وحدة الأمة وعدم ترجيح وجهة نظر دينية في المسائل السياسية على أخرى، ولو أنّ غبطته فعل ذلك لكان ألْيَق به وبالمقام البطريركي من رمي الحزب بما هو براء منه.
لا يطيل غبطة البطريرك الكلام على الأمن العام، فما هي إلا لمحة سريعة حتى ينتقل إلى دائرة القضاء فيتناول المحاكم ومدة بقاء بعض الدعاوى نحو ثلاثين أو أربعين سنة قبل البتّ فيها. ويشير على الحكومة أن تحتذي في هذا الصدد حذو الكنيسة الكاثوليكية فلا تتجاوز الدعوى الواحدة حد السنتين.
ولا يصعب علينا فهم معالجة غبطته مسألة المحاكم القضائية وإغفال مسألة المحاكم الشرعية أو المذهبية وما فيها من غبن وتسويف وهدر منافع وإساءة حكم، لأنه أيسر جداً أن ينتقد الإنسان أعمال غيره قبل انتقاد نفسه، ولأنه أسهل على الإنسان غير الآخذ بالحزم أن يعالج القذى الذي في عين أخيه من أن يعالج الخشبة في عينه.
ثم لا يلبث غبطته أن يعود إلى الإدارة تحت موضع «توزيع الوظائف والمنافع العامة» فيتكلم في هذا الباب كلاماً عادياً لا يتناول سوى الطلب من «أرباب السلطة»، الذين هم من نتائج المدرسة السياسية العتيقة التي لا يرى غبطته وجوب تغييرها، ومن النفسية والعقلية القديمتين اللتين يؤيد غبطته بقاءهما بمحاربته الحزب القومي وتعاليمه، أن يعدلوا في «توزيع المنافع والخدم دون مراعاة الحزبية أو الطائفية» أي دون تحيز كل واحد منهم لحزبيته أو طائفيته، وهو ما لا يتم إلا بنفي الحزبية الشخصية والطائفية السياسية، ونفيهما لا يتم إلا بواسطة التعاليم القومية التي جاء بها الحزب القومي.
أما قول غبطته: «نظراً للتعصب الديني والطائفي عند أغلب الناس لا يرتاح لبنان إلا إذا أعطيت كل طائفة حقها من الوظائف والمنافع العامة بموجب نظام مفصّل»، فإرضاء للتعصب الديني والطائفي لا يؤمّن الإدارة ولا يفيد الشعب.
وتحت باب «توزيع الوظائف والمنافع العامة» يعرض غبطته لشيء من نظام الدولة المالي والضرائب وجبايتها فيقول بتعديل فيه لمصلحة الفقراء والإيرادات التي لا تتجاوز القيام بأود العائلة. ومحصّل هذا الكلام قليل غير واف.
7 - الحقوق المدنية والسياسية
ينتقل بنا غبطة البطريرك من المسائل الإدارية والمالية الواردة في باب الوظائف والمنافع إلى باب «الحرية» الذي يتناول فيـه الحقـوق المدنيـة والسياسيـة وشيئاً من النظـام الاقتصـادي.
يبتدىء غبطته الكلام في هذا الباب بالخروج عن دائرة الدولة إلى فضاء المطلقات فيقول «الحرية هي حق طبيعي للإنسان.» وبعد كلام قليل على هذا الحق المطلق، الذي يتخذ الفرد أساساً له، يعود إلى دائرة الاجتماع والاقتصاد فيقول:
«فلكل إنسان أن يختص بثمرة أتعابه وجهوده ويستفيد منها وله حق الاستملاك بما جنت يداه وأيدي والديه وذوي أقربائه. فعلى الحكومة أن تمنع العبودية وتصون الأملاك الخاصة.»
ولسنا ندري تماماً ما يقصد غبطته بقوله «الأملاك الخاصة» وهل يدخل في بابها الإقطاع المدني، كقرى الأمراء والشيوخ والبكوات، والإقطاع الديني، كالأوقاف المترامية الأطراف؟
إنّ نظرية أنّ الفرد أساس في المجتمع وأنّ النظام الاجتماعي السياسي هو عبارة عن مقاولة أو اتفاقية اجتماعية نظرية عتيقة من التفكير الأولي. ولسنا نريد هنا أن ندخل في موضوع علم اجتماع بحت أو فلسفة اجتماعية عامة، فنقتصر على هذه اللمحة لنتناول المسائل القريبة التي عرض لها غبطته في باب الحرية ولها مساس عظيم بالمجاري الفكرية السياسية والوضع الراهن الذي يتصدى غبطته لمعالجته وبالقضية القومية عامة التي نعمل لها. نبتدىء بقول غبطته: «والإنسان حر أن يعتقد بما يشاء، ولكن ليس له أن يرغم غيره على اعتناق ما يعتقد به هو ولا أن ينشر مبادىء فاسدة تعود بالضرر على الآخرين.» ونريد أن نأخذ أولاً الجزء الأول من هذه العبارة المتعلق بحرّية الاعتقاد وعدم إرغام الغير على اعتناق المعتقدات.