5 - سياسة الروحية الزمنية
لا اعتراض على اهتمام غبطة البطريرك بمصلحة البطريركية في الشؤون التي يكون منها نفع أو ضرر. فالشؤون البطريركية عائدة إلى غبطته يسهر عليها ويصرّفها بحكمته ودرايته. أما أن تكون مصلحة البطريركية أساساً أو أحد الأسس التي يقوم عليها ادعاء وجوب التدخل الديني في شؤون الدولة، فمما لا مندوحة عن الاعتراض عليه.
ولسنا نتمكن من تصور أنه قد يخفى على غبطته ما في التشبث بجعل الرئيس الروحي مرجعاً للشؤون الزمنية من الخطر على سير الأمور الزمنية التي تصبح في هذه الحالة معرضاً لتنازع السلطات الروحية السلطة الزمنية أو الشؤون الزمنية، إذ ليس للشعب سلطة روحية واحدة، بل سلطات يؤيدها التعصب الديني والطائفي الذي يعترف غبطة البطريرك في خطابه بوجوده عند أكثر الناس في لبنان. كما وأنّ الاستمرار في تأييد كون الممثل الديني ممثلاً سياسياً لا يفيد سوى تأييد الاستمرار في اعتبار الجماعة الدينية جماعة سياسية، فيظل الشعب مقسماً إلى جماعات دينية تقسيماً يمنعه من الأخذ بالقومية التي هي وحدها تؤمن وحدته السياسية والاقتصادية.
بعد الفراغ من إعطاء المبررات اللاهوتية لتدخّل غبطته في شؤون الدولة الزمنية ومن الكلام على وكالة رئيس المقام البطريركي الماروني عن الشعب، التي نظرنا آنفاً في مبلغ أهميتها، يتقدم غبطته إلى معالجة الشؤون الزمنية فيقسم حاجات الشعب إلى ثمانية مواضيع: منها ما هو أصلي كالاستقلال والاقتصاد، ومنها ما هو فرعي، كالأمن العام والمحاكم.
ولـمّا كان غبطة البطريرك قد ابتدأ بمعالجة الاستقلال رأينا أن نتابعه في ترتيبه وننظر في ما بدأ غبطته بمعالجته.
يقول غبطته في باب الاستقلال: «من أهم الأمور التي تتطلبها الشعوب الاستقلال» فيعدّ الاستقلال من جملة أمور هي أهم ما تتطلبه الشعوب، لا أهم الأمور التي تتطلبها الشعوب على الإطلاق. أي أنّ غبطته لا يعدُّ الاستقلال شرطاً أساسياً لكل مطلب قومي أو شعبي أو الحالة السابقة المفترضة لكل مطلب قومي، التي لا يصح بدونها افتراض مطالب قومية أو شعبية. وهكذا نرى أنّ غبطة البطريرك يعالج الاستقلال الأصلي معالجة المسائل الفرعية.
ويتابع غبطته الكلام في الاستقلال فيقول إنه كان للبنان «شبه استقلال» أما الآن «فقد مُنِح الاستقلال التام بعناية جامعة الأمم وفضل الدولة الكريمة فرنسة المحبوبة.»
هنا يقرّ غبطته مبدأ «منح الاستقلال» من قبل صاحب سيادة مستمدة من بعض الاتفاقات الإنترناسيونية حلّت، بحكم الظروف السياسية، محل السيادة الأصلية العائدة إلى الشعب نفسه. ولا يرى غبطته في «منح الاستقلال» عدم حصول الاستقلال الصحيح، وأنّ المنحة لا تقوم مقام الحق الأصلي، وأنّ ما يجيء منحة قد يذهب منحة وقد يتعرض لإنكار أنه حق أصلي وللنزاع.
ثم إنّ غبطته يفترض أنّ المعاهدة التي منحت للبنان ولا تزال معلقة على القبول أو الرفض من قبل الجانب المانح وجمعية الأمم قد صارت «استقلالاً تاماً» بالفعل ويثبت افتراضه هذا بالقول الجازم المتقدم، حتى ليتوهم السامع أو القارىء أنّ لبنان قد غدا مستقلاً «استقلالاً تاماً»، أي حائزاً على جميع شروط الاستقلال التام، وهو غير الواقع؛ إذ البلاد لا تزال خاضعة لنظام الانتداب إلى أن تُصدَّق المعاهدة. وبعد تصديقها تظل البلاد خاضعة لثلاث سنوات تجربة ولشروط سياسية وحربية لا تسمح مطلقاً باستعمال تعبير «الاستقلال التام» الذي يستعمله غبطته من غير إحاطة بدقائق الأمر أو تدقيق في القول.
وبدلاً من أن نجد في معالجة غبطته الاستقلال تشخيص الاستقلال الحقيقي وأسبابه الأساسية وعوامله الأصلية، كما كان يكون الأمر لو كان المتكلم خبيراً بالعلوم الاجتماعية والسياسية، نجد غبطته يذهب بعيداً جداً عن الأسباب التي تؤمّن الاستقلال وعوامله الرئيسية المستمدة من الاجتماع والاقتصاد والسياسة والحقوق فيدخل قضية الحكم بدلاً من قضية الاستقلال، إذ يقول:
«فكان على الذين استلموا (يريد تسلموا) مقدّرات البلاد باسم الشعب اللبناني أن يقوموا حق قيام بالمهمة التي وكلت إليهم ويبذلوا الغالي والرخيص في سبيل المحافظة عليه ويبرهنوا للشعب وللملأ أجمع أنهم كفؤ للحكم وأهل للثقة التي وضعت فيهم.»
وغبطته يعني بالذين «تسلموا مقدّرات البلاد» الحكومة، فما شأن الحكومة في مقدّرات البلاد أو في «تسلم» هذه المقدّرات؟
إنّ الحكومة، في الشعب المستقل، لا تتسلم «مقدّرات البلاد»، بل تُختار من قبل أصحاب الشأن في هذه المقدّرات لتسير على سياسة ومنهاج يرضى عنهما متسلمو مقدّرات البلاد الذين هم أعضاء الدولة الممثلون، في الأنظمة الديموقراطية البرلمانية، بواسطة البرلمان. فالذين يتوجب عليهم «بذل الغالي والرخيص» في سبيل حصول «الاستقلال التام» وتأمين هذا الاستقلال هم الأمة، لا الحكومة. أما الحكومة فتنشأ من الأمة للأغراض التي تريدها الأمة أو تقبلها الأمة.
أما قول غبطته «الذين تسلموا مقدّرات البلاد باسم الشعب اللبناني» فبعيد عن الواقع لأن مقدّرات البلاد لا تزال في عهدة الانتداب، الذي إليه يعود القول الفصل في مصير هذه المقدّرات. وإنها لمسؤولية خطيرة أن يقول ذو مقام عال، كغبطة البطريرك، إنّ لبنان قد نال «الاستقلال التام»، وإنّ هنالك من «تسلموا مقدّرات البلاد باسم الشعب اللبناني.»
ثم إنّ غبطة البطريرك، بعد أن يحلّ قضية الحكم محل قضية الاستقلال، يعطف الكلام على «الحكام» فيتكلم فيهم بما لا يتفق مع النظرة العصرية في الحكومة وبما يتفق مع صورة «الحكام» القدماء، أمثال دبشليم الملك وبكلام يذكرنا كثيراً كلام بيدبا الفيلسوف ونصائحه وإرشاداته التي قالها بنفسه أو أجراها على لسان الحيوانات. فمن ذلك قوله «وآفة الحكام حب الاستبداد، الخ.» وقوله «وكم من ملوك أضاعوا عروشهم لقلة اهتمامهم بمصالح الجمهور»، وقوله «فالذي يحكم الشعب يجب أن يكون فوق الشعب بصفاته الأدبية، الخ.» فيرينا في مبدأ الحكومة العصرية صورة الحكام الأقدمين الذين كانوا يدّعون أنهم فوق الشعب وأنّ سلطتهم مستمدة من الله. ولكنه يعود فيعطينا صورة أخرى من «الحكام» في باب «توزيع الوظائف والمنافع» فيقول: «إنّ الحكام هم مؤتمنون على مصالح الشعب تحت أجرة معينة»، فيترك السامع أو القارىء يتخبط في ديجور من الصور الغامضة عما هي الحكومة وما هم الحكام، في الوقت الذي يقرّ فيه مبدأ يتضارب مع أساس الحقوق الدستورية والمبادىء الأساسية للدولة، هو مبدأ كون الحكومة حكاماً فوق الشعب وظيفتهم حكم الشعب.
ويعود غبطته إلى الاستقلال فيخصص «الاستقلال اللبناني» الممنوح ويتأسف «أن يتكون فريق من اللبنانيين وأحزاب تحت سيطرة الأجانب كالحزب القومي السوري والحزب الشيوعي ضد الاستقلال اللبناني.» وهذه كل العوامل السلبية المقوضة أركان الاستقلال. أما العوامل الإيجابية، التي تعمل على المحافظة على الاستقلال الممنوح فهي «المنظمات اللبنانية التي أنشئت بمعرفة الحكومة وإجازتها وتنشيطها للدفاع عن استقلال لبنان ولم يبدُ منها ما يضاد تلك الغاية النبيلة.»
أما قول غبطته «وأحزاب تحت سيطرة الأجانب كالحزب القومي السوري والحزب الشيوعي» ففيه خروج عن الحقيقة لا نظن إلا أنه من عمل المغرضين المتحاملين، الذين خلطوا بين الليل والنهار وكان النور في أعينهم ظلاماً، فسمع غبطته صوت الخورأسقف لويس خليل ولم يبلغ أذنيه صوت الخوري بولس مسعد لكثرة الأصوات المضجة حوله. والخروج هو فيما يختص بالحزب السوري القومي الذي اتهمه خصومه بالعمل لإرادة أجنبية، لأن الحزب الذي قام ينقض الإرادات الأجنبية في تقرير مصيرنا ويعمل لإيجاد الأساس الوحيد لقيام الاستقلال التام الحقيقي، الذي هو وحدة الأمة ووحدة مصالحها ووحدة إرادتها فوضع الحزب القومي إلى جانب الحزب الشيوعي القائم بإرادة أجنبية والمسير برغبات أجنبية، مع أنّ تاريخ نشوء الحزب القومي والعوامل الأصلية العاملة فيه تدل دلالة صريحة على أنه الحزب الوحيد في البلاد الذي أوجد أساس وحدة الأمة ووحدة مصالحها وعمل على تعيين أسباب الاستقلال التام الحقيقي وتحقيقها.
ولا بد لنا من القول إنه في كل التحقيقات المباشرة والمداورة التي أجريت مع الحزب القومي بقصد الوقوف على حقيقة الأمر بصدد الإشاعات المختلفة، التي أشاعها عنه عبيد الإرادات الأجنبية، لم يجد المحققون العلنيون ولا المحققون السريون مثل هذا التصريح الخطير، الذي يفوه به غبطة البطريرك نفسه لمصلحة دولة أجنبية «فهذه دولة إيطالية أنجح دول العالم» في الوقت نفسه الذي يشيد فيه غبطته بفضل «الدولة الكريمة فرنسة المحبوبة.»
أما وضع غبطته الحزب القومي ضد الاستقلال فهو غير مبني على معرفة صحيحة لحقيقة الحزب القومي.
وأما جعله «المنظمات اللبنانية» في جانب العوامل الإيجابية المؤيدة الاستقلال وقول غبطته «ولم يبدُ منها ما يضاد تلك الغاية النبيلة» فالجواب عليه هو أنه إذا كانت الانقسامات الطائفية والدينية تكون من عوامل تحقيق الاستقلال وتثبيته، «فالمنظمات اللبنانية» تكون من هذه العوامل بدليل حوادث الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1936 وحادث بنت جبيل وغيره. وهي هذه الحوادث ما ينقض عبارة غبطته «ولم يبدُ منها ما يضاد تلك الغاية النبيلة.»
والحقيقة أنّ «المنظمات اللبنانية» كان يجب أن ترِدَ في خطاب غبطة البطريرك في عداد العوامل، التي تعمل لتفكيك الأمة وإبطال إمكانيات استقلالها التام. فتضاف إلى العوامل الأخرى التي من أهمها مزج الدين بالدولة وتدخّل رجال الدين في شؤون السياسة والقضاء القوميين.
وأما شكر غبطته للحكومة مقاومة الحزب السوري القومي، فإذا كان الباعث عليه مصلحة البطريركية فهو شكرٌ في محله. أما إذا كان الباعث عليه الغيرة على مصلحة الأمة واستقلالها، فهو في غير محله، لأنه يعني تهديم الحزب الذي أنشأ عقيدة القومية الصحيحة وحوّل الأمة عن الانقسامات الدينية والطائفية إلى الوحدة القومية التي هي أساس كل استقلال صحيح.