أوهمت الدعاوات المغرضة جانباً عظيماً من الشعب السوري في الوطن والمهجر أنّ هنالك «قضية عربية» عامة تعمل لها جماعات العالم العربي عملاً موحَّداً واضح الخطط والأهداف، سيجعل العالم العربي أمة واحدة ودولة واحدة. وأنّ الحزب السوري القومي قام يحارب هذه القضية لأنه لا يريد أن ينهض العالم العربي، الذي تكرّموا وسموه منذ الآن «الأمة العربية» وابتدأوا يتكلمون عن «القومية العربية» كأنها شيء موجود جاعلينها القطب المعاكس للقومية السورية التي بعثها الحزب السوري القومي من تحت أطباق تاريخ مجرم ومثالب عصبيات دينية هدامة.
صدّق جـانب عظيم من الشعب السوري في الوطن والـمهجر هذه الدعاوات لعدة أسباب أهمها:
1 - جهـل العلوم الاجتماعية التي توضح ما هي الأمة وما هي القومية لعدم وجود مؤلفات في اللغة العربية، قبل ظهور كتاب نشوء الأمم، تعالج هذا الموضوع معالجة علمية.
2 - جهل تاريخ سورية ومدنيتها.
3 - الدور الذي تلعبه المؤسسات الدينية من مسيحية وإسلامية في توليد نفسيات متناثرة وعقليات متضاربة، وتهديم المناقب القومية وإقامة المثالب الدينية - السياسية مقامها. فأنشأت التعليم الديني - السياسي، الذي فسّخ المجتمع السوري تفسيخاً جعل معظم مسلميه الموجهين بتوجيه المؤسسات الدينية الإسلامية يعتقدون أنّ الحل الوحيد للحالـة الـراهنـة السيـئة هـو في التمسـك بالـجـامعـة الـدينيـة، عن طـريق «العروبة» وحمل معظم مسيحييه الموجهين بتوجيه المؤسسات الدينية المسيحية على الاعتقاد بالانعزال اللبناني، ووضع أنفسهم تحت حماية دولة أجنبية مسيحية.
4 - نشوء حركة سياسية سعى القائمون بها لإحراز استقلال سورية الإداري مع بقائها عضواً من أعضاء السلطنة العثمانية (راجع المقالة الأولى من سلسلة «سورية وفرنسة أثناء مؤتمر الصلح» بقلم الدكتور خليل سعاده، الجريدة في 12 أغسطس/آب 1926) وهي التي عرفت باسم «الحركة العربية». وتخيل عدد من أعضائها إضرام ثورة في الأقطار العربية وإيجاد «اتحاد عربي» يقوّض سلطة تركية، الأمر الذي أدى إلى التحدث كثيراً عن «الحركة العربية» و«القضية العربية» و«الثورة العربية»، الخ.
5 - حسبان انتقاض شريف مكة الحسين على الأتراك، بناءً على اتفاقات بينه وبين بريطانية بواسطة السر مكمهون، «الثورة العربية» التي جاءت تتمّم «الحركة العربية».
6 - إنتهاز خصوم الحزب السوري القومي فرصة انهماكنا في الحرب العنيفة مع السلطة المنتدبة وحلفائها في لبنان والشام من حكوميين ورجعيين، لإثارة حملة إشاعات يمنعون بواسطتها اتساع حركته المحررة المهددة زعاماتهم الإقطاعية والدينية بالزوال. فطبعت بعض المؤسسات الفردية كراريس دعاوات ضد الحزب دفعت أجرة طبعها وثمن ورقها من أموال تجمع من الشعب باسم «الدفاع عن القضية القومية». وهنالك مؤسسات دينية ومؤسسات أجنبية كالشيوعية اشتركت في هذه الحملة على الحزب السوري القومي. فانتشرت الإشاعات المشوهة لحقيقة الحزب وحقيقة المسائل التي يواجهها الشعب السوري، ولحقيقة مبادىء النهضة السورية القومية التي هي المبادىء الوحيدة التي أوجدت الحل النهائي لهذه المسائل.
إنتشرت الدعاوات المعادية للحزب السوري القومي والإشاعات المختلقة التي روّجها أهل الـمنفعة المستمدة من الحالة الراهنة والعقلية الفاسدة الموروثة من عهد الانحطاط والبلبلة. وابتدأت هذه الدعاوات في زمن سجني الأول تنسب بعضها إلى الـحزب السوري القومي نشـأة أجنبيـة، على الرغم مما أظهره التحقيق الدقيق الذي أجرته دوائر الأمن العام والمستنطقون من أنّ الحزب نشأ نشأة سوريّة مستقلة. ولـمّا خـرجت من السجـن وجـدت أنّ «الـحكومة اللبنانية» كانت قد أمرت الصحف بالامتناع عن نشر أخبار الحزب أو مقالات أو ردود لأعضائه وأطلقت للصحف المأجورة عنانها لتسترسل في اختلاق الإشاعات. فانطلقت صحيفتا المساء والرابطة الشرقية في حملة الافتراءات الأولى، وتمنعتا وتمنعت غيرهما من الصحف عن نشر التكاذيب والاحتجاجات التي قدمتها مؤسسات الحزب وأفراده، حتى ضاق الأعضاء ذرعاً بأكـاذيب هـاتين الصحيفتين فـدبر عدد منهم مـؤامرة لتأديب محرريهما. فضربوا محرر الرابطة أولاً وأشعلوا النار في مطبعتها. ثم داهموا بيت صاحب المساء ليلاً وأخرجوا الرجل من سريره وضربوه ضرباً مبرحاً. وهو الأمر الذي فتح سبيل الاعتقالات الثانية. وكنت قد وضعت في هذه الأثناء بلاغي الأول إلى الرأي العام في صدد المفاوضات لعقد معاهدة، وهو البلاغ الذي عرف بالبلاغ الأزرق، فرأت السلطة في هذا البلاغ تنويراً للرأي العام ليس في مصلحتها فأمرت بمصادرته. ورأت «الكتلة الوطنية» أنّ الحقائق التي يعلنها هذا البلاغ تعجل انفضاح سياستها الخرقاء فشنت غارة عليه. فأوعز الدكتور توفيق شيشكلي في حماه إلى بعض الرعاع الذين يسيطر بهم على الموقف فهجموا على المخزن المودعة فيه نسخ البلاغ فنهبوها وأخذوها إلى الساحة العامة وأحرقوها! وفي دمشق أتلفت نسخ وصودرت، وفي بيروت قبض على الطابعين والموزعين وصودر قسم عظيم من نسخ البلاغ!
لم يكن للحزب جريدة تنطق بلسان حاله وكانت النشرات القليلة التي تمكن من طبعها توزع سرّاً بصورة إفرادية أو تصادر حين يصير توزيعها علناً. فكان الحزب السوري القومي محروماً من وسائل الإذاعة عن مبادئه ومواقفه، وردّ افتراءات الخصوم من «وطنيين» متكتلين وغير متكتلين ومؤسسات دينية وغيرها. وكانت الحرب مع الحكومة لا تعطي الحزب وقتاً للنظر في جميع ما قيل وكتب في صدده. كانت الفرصة ثمينة وقد عرف خصوم النهضة القومية قيمتها فلم يضيعوا دقيقة واحدة فطبعوا الكراريس بعشرات الألوف ووزعوها باجتهاد كثير في الوطن والمهجر. ومن طبيعة هذه الكراريس وطريقة توزيعها يستدل أنها من عمل شركات لها مصلحة في مقاومة حركة الحزب السوري القومي. فهي ليست مقالات قليلة نشرت في بعض الصحف المحدودة الانتشار، بل كراريس طبعت خصيصاً بقصد الطعن في الحزب السوري القومي ومبادئه واستغلال النعرات...
(1) مخطوطة غير كاملة وليس لها تاريخ محدد ولكن الأرجح أنها كتبت عام 1939.