(كل أرض من العالم خصتها الطبيعة ببقعة صغيرة امتازت بصفاء سمائها وجودة مناخها ولطف هوائها وعذوبة مياهها. فكما أعطت لسورية لبنانها واختصته بماء زلال وهواء عليل وجو صافي الأديم، هكذا أعطت لكوردبة، إحدى ولايات هذه الجمهورية، سلسلة من الجبال شبيهة بجبال تلك البقعة السورية الجميلة، يؤمها الناس من كل حدب وصوب طلباً للراحة من جهاد الحياة وانتجاعاً للصحة والعافية.
وقد بوغتت الجالية في هذا الصيف بزيارة حضرة الزعيم لجبال كوردبة متخذاً له مركزاً هادئاً يتغلغل في قلب الغاب، بعيداً عن الضوضاء وازدحام الأقدام وعجيج هذه المدنية التي تسير على دواليب. فلم يتح إلا لبعض الجمعيات ولقليل من أبناء الجالية زيارته والاستعلام عن صحته، إذ كان معراجه قصير المدة. فزارته الجمعية الخيرية الأرثوذكسية للرجال، وجمعية السيدات، وروضة الآداب للتعرف به شخصياً. وطالما طلبت الشبيبة دعوته لهبوط المدينة والمكوث بها ولو بعض أيام. إنما صحة الزعيم كانت بإشارة من الأطباء تحتاج إلى راحة تامة وتدعو إلى الابتعاد عن كل عمل يتطلب جهوداً عقلية وجسدية.
وهكذا مرَّ شهر ونصف شهر على وجود سعاده معتصماً بالجبال وغابه، طالباً من شمس كوردبة الساطعة وهوائها البليل استرجاع بعض ما كان قد سلبه من جسمه الجبّار كفاحه في سبيل إعادة السيادة القومية لبلاده وكرامة أبناء بلاده.
وبين ليلة وضحاها إذا بالرجل الغيور الوجيه القومي السيد عبود سعاده، يبلّغ الأصحاب والرفقاء بأن الزعيم يحل ضيفاً كريماً في منزله وأنّ أبواب قصره مفتوحة لكل من يريد زيارته. فتدفقت الناس من كل أرجاء المدينة وضواحيها للسلام على الزعيم وغصت دار السيد عبود بالوفود من الشخصيات البارزة في التجارة والأدب، يتقدمها الشباب الذي هو أمل الأمة السورية وقلبها الحساس. وإننا لنخص برسالتنا هذه وفد الجمعية الإسلامية الذي أتى مؤلفاً من السادة رئيس الجمعية السيد إبراهيم أحـمد صالح ويوسف رحمون، يصحبهما الأديب حسين سكرية. فقد أتى هذا الوفد للسلام على الزعيم وتهنئته برجوعه بصحة تامة من مصيفه، ومن ثم لدعوته لحضور حفلة مدرسية يقوم بها تلاميذ المدرسة السورية لأبناء الفاكهة، قضاء بعلبك.
فقبل حضرته الدعوة، وفي يوم 12 ديسمبر/كانون الأول أقيمت الحفلة في دار الجمعية السورية ــــ اللبنانية للإسعاف المتبادل حيث مثلت رواية «فلسطين الشهيدة» تأليف السيد سكرية. وما كاد يصل الزعيم برفقة بعض وجهاء الجالية حتى دوّت أرجاء الدار بالتصفيق.
وفي الحال ابتدأ دور التمثيل الذي كانت تقاطعه خطب وأدوار مطربة. فتكلم أثناءها مدير المدرسة والسيد سكرية الذي رحّب بالزعيم الجليل، وذكر الشرف الذي نالته الجمعية والمدرسة بحضوره. وختم بتحية الزعيم وبالهتاف بحياة سورية والأقطار العربية. وحنّا وهبه ونادر كفوري وكلهم كانوا يفتتحون كلامهم بالترحيب بالزعيم. وقد قدم الأديب كفوري باقة من الأزهار للتلاميذ مكافأة على براعتهم وحسن إلقائهم. وأنشد قطعاً المطرب الأديب توفيق حلاّق، وألقى قصيدة وطنية معلم المدرسة الإسلامية في روساريو توفيق حاطوم، حيّا بها الزعيم ووجّه نداءً إلى الشعب للالتفاف حوله لإنقاذ سورية والعالم العربي.
وحين انتهاء الرواية، وما كاد يسقط الستار حتى أخذت أصوات الجمهور تدوي في القاعة طالبة إلى الزعيم أن يتكلم. فرقي المنبر السيد سكرية وبلّغ الزعيم رغبة الجمهور. فلبى الزعيم طلبه. كيف لا، وهو الذي يعرف نفسية شعبه أكثر من سواه. ألـم يجاهد ويكافح في سبيل شعبه؟ ألـم يضحِّ ويحتمل آلام السجون مراراً عديدة حبّاً بأمته. ألـم يُنفَ ويحاكم غياباً لأنه قام يطالب بتحرير بلاده وحياة شعبه؟ فلا عجب إذا ما رأيناه في ساعة متأخرة من الليل في جو حارّ شديد الوطأة على الجسم، ساعة يودُّ الإنسان أن يصل إلى فراشه ليرتاح من ثقل قيظ الليل في هذه الأيام ــــ يلبي صوت الواجب ونداء شعبه الذي تجسّم تلك الليلة في هذا الجمهور الذي قام يعبّر عن نفس تريد الحياة، وقلب ينبض بعزم طالباً حرية بلاده وتحرير أمته من سلطة الأجنبي.
وهكذا اعتلى سعاده المنبر بين وجوهٍ باشة ورؤوس مشرئبة وأيادٍ تصفق وأفواهٍ تهتف. حتى إذا ساد السكون قال مخاطباً الجمهور المحتشد ما خلاصته):