مـما لا شك فيه أنّ الـحالة الـحربية في سنة 1943 وما يتبعها من الـحسابات والتقديرات تختلف كثيراً عنها في السنتين السابقتين. ولا خلاف في أنّ قوة الـمحور الكلي الـحربية فقدت قسماً كبيراً من زخمها في الـمعارك الكبيرة التي استمرت سنتين كاملتين بلا انقطاع في سهول روسية الشاسعة.
إنّ عدم إمكان سحق الـجيش الروسي سحقاً تاماً وانتزاع موسكو ومنطقة الدونتس منه في الهجوم الأول سنة 1941، مع قدوم برد الشتاء باكراً فسح الوقت للروس للقيام باستعدادات جديدة وتـجييش جيوش أخرى ونقل مراكز صناعية إلى أماكن بعيدة عن متناول الألـمان، وخوّلهم الاستفادة من الاختبارات الـحربية وإتقان وسائل الدفاع ضد الـمعدات الألـمانية، وكيفية استخدامها، وضد طريقة القيادة الألـمانية في الهجوم وتـحريك الـجيوش والقوات الـجوية.
عاد الألـمان إلى الهجوم في صيف سنة 1942 فقطعوا الدونتس وبلغوا الدون وعبروه ووصلوا إلى البلغا عند ستالينغراد وامتدوا إلى القفقاس، إستولوا، بعد رسطف على نوبورسيسك وعلى منطقة مايكف الغنية بالنفط. وفي هذه الأثناء نزلت الـجنود الأميركية والبريطانية في شمال أفريقية. والظاهر أنّ ظهور هذه القوات في أفريقية واستيلاءها على مراكش والـجزائر وسنغال، أوجب اهتماماً في القيادة الألـمانية وتعديلاً لبعض خططها. فقد لاحظنا أنّ هجومها في القفقاس وغير أماكن هدأ نوعاً باستثناء حركات هجومية مكانية.
لم يطل الأمر على توقف الهجوم الألـماني في خريف 1942 حتى ابتدأ الهجوم الروسي الشتائي فارتدّت أمامه القوات الألـمانية في القفقاس وفي منطقة البلقا والدون ثم في منطقة الدونتس واضطر، إلى إخلاء مراكز هامة كرسطف وورونيج وبيازمه وخركوف التي كانت آخر نقاط امتداد الهجوم الروسي الشتائي. ولكن الألـمان كروا على الـروس في خـركـوف واستعـادوها بعد نحو ثلاثة أسابيع من خسارتها. وثبتت القوات الألـمانية في رأس كوبان وهو منطقة زراعية غنية جداً. واستعادت مراكزها على مجرى نهر الدونتس وثبتت الـخطوط من الـجانبين.
هدأت الـحركات الـحربية الكبيرة في الـجبهة الروسية إلى أن كانت معركة أوريل - بيلغورد - كرسك، التي لم تعطِ أحد الـجانبين أرجحية حربية، فتوقف الألـمان عن توسيع حركات الهجوم بعد النجاح القليل الذي كسبوه في منطقة بيلغورد وعوّلوا على الدفاع.
ولعل إنزال الأنكلوسكسون قواتهم في جزيرة صقلية بعد أيام قليلة على ابتداء معركة أوريل - بيلغورد - كرسك في روسية كان ذا تأثير على الـجبهة الروسية وعلى خطط القيادة الألـمانية. فإن ألـمانية اضطرت إلى إنـجاد حليفتها. والظاهر أنّ الروس قرروا الاستفادة من الـحالة الـجديدة التي خربت مدناً كثيرة وعطّلت مراكز صناعية عديدة ومن استئناف العمل، فابتدأوا أعمالاً هجومية في منطقة أوريل اضطرت الألـمان لإخلاء هذه الـمدينة الهامّة، ويتجه الهجوم الروسي نحو خركوف من جديد.
هذه الـحالة الـحربية في روسية لم تقتصر فوائدها على الاستعدادات الروسية، بل شملت بريطانية وأميركانية أيضاً، خصوصاً الأولى. فقد تـمكنت بريطانية بين سنة 1941 و1943 من ترميم الشيء الكثير مـما هدمه الألـمان بحملاتهم الـجوية الهائلة، التي خربت مدناً كثيرة وعطّلت مراكز صناعية عديدة، ومن استئناف العمل الصناعي، بينما القوات الألـمانية الـجوية منشغلة كل الانشغال في الـحملة على روسية. وانشغال ألـمانية في روسية لم يسمح لها بتوجيه القوة اللازمة إلى معركة الأطلسي. وهذه الـحالة مكّنت الولايات الـمتحدة من إيصال الـجيوش والطيارات ومراكب النقل والـحراسة إلى بريطانية، حيث تـجمعت قوة أميركانية كبيرة أصبح في إمكانها، بالاشتراك مع القوة البريطانية التي تـمرنت وتـجهزت بأحدث الـمعدات، القيام بالـحملة علـى شمـال أفريقيـة - تلك الـحملة التي نـجحت كل النجاح بفضل الدور الذي لعبه أمير البحر الفرنسي درلان وعدم وجود قوة حربية تصد الـمهاجمين.
كان من نتائج احتلال شمال أفريقية أنّ الـمحور البريطاني - الأميركاني اكتسب مناطق كبيرة صالـحة لـحشد قوات كبيرة، وموانىء كافية لـجميع الـمواصلات ولـخطط الـحركات الـحربية في البحر، ومطارات كثيرة تفسح مجال السيطرة الـجوية في أفريقية والبحر الـمتوسط، وتهدد شبه الـجزيرة الإيطالية وجزر البحر الـمتوسط. ولم تكن إيطالية قادرة على مواجهة هذه الـحالة في الـمتوسط وحدها. فأوجب الـموقف إنسحاب قوات رومل من مصر ومن ليبية إلى تونس، لأن ألـمانية لم تـجد إمكانية إرسال مدد جديد لـمقاومة الـحركات الهجومية الـمعادية من مصر ومن مراكش والـجزائر من غير تعريض جيوشها في روسية والـجهات الأخرى التي لا بد لها من حمايتها كنروج وبلجيكة وهولندة وفرنسة لـخطر كبير.
رأى الأنكلوسكسون، بعد استيلائهم على كل أفريقية الشمالية، أنّ الفرصة سانحة لضرب الـمركز الضعيف في الـمحور الألـماني - الإيطالي ضربة قد تكون القاضية. فتقرر إنزال حملة قوية في جزيرة صقلية وتشديد الـحملات الـجوية على إيطالية في الوقت الذي تـحتشد فيه قوات روسية كبيرة أمام الـخطوط الألـمانية فتمنع سحب قوات كبيرة من تلك الـجبهة لنجدة إيطالية.
كانت الـخطة جيدة وكادت تعطي النتيجة الـمرغوبة، فتزعزع الـحزب الفاشستي في إيطالية وفشل فشلاً كبيراً فاضحاً، فاستعفى موسوليني وحكومته وتسلّم الـحكم الـمارشال بدوليو. كما وصفنا في العدد السابق (ص 498 أعلاه) وامتدّ الفشل من الدوائر الفاشستية العليا إلى جميع الـحزب والشعب الإيطالي فحدثت فوضى عامة. وقامت الإذاعة الأنكلوسكسونية العظيمة تستغل البلبلة الإيطالية إلى أقصى حد، فخُيّل لكثير من الناس أنّ الانهيار الإيطالي التام صار مسألة أيام، بل ساعات معدودة. بيد أنّ الـحكومة الإيطالية الـجديدة استعادت رباطة الـجأش ووصول إمداد ألـمانية إلى إيطالية، مع إعلان الإنكليز والأميركان أنهم لا يقبلون بغير التسليم بلا قيد ولا شرط، جعل الطليان يوطدون النفس على متابعة الـحرب.
تـجاه التطورات السياسية الـحربية الـجديدة يحسن أن نثبت حديث الزعيم مع أحد أساتذة جامعة كوردبة في صيف 1941 - 1942. ففي اجتماع على «أسادو» في «تكية سعاده» حضره الزعيم وجمهور من الأساتذة والأطباء والـمحامين، سأل أحد الأساتذة، الذي كان عميداً لكلية الـحقوق والعلوم الاجتماعية، الزعيم عن رأيه في سير الـحرب، ولـمن يكون النصر الأخير. فقال الزعيم إنّ قوات الـمثلث الألـماني - الإيطـالي - اليابـاني قد أحرزت انتصارات كبيرة وأدخلت في حوزة هذا الـمثلث مناطق كبيرة غنية بالـمواد الأولية الصناعية والزراعية ولكن لا بد من الانتظار قبل إعطاء الرأي الأخير. فقال الأستاذ الـمشار إليه إنه يرى أنّ بريطانية قد خسرت الـحرب نهائياً، وإنه لا يرى إمكانيات إنقاذ الـجبهة «الديـموقراطية» من الانكسار الأخير. فقال الزعيم «إنه لا تزال في حوزة الـجبهة الديـموقراطية إمكانيات كثيرة ولا تزال هنالك دول محايدة يجب معرفة موقفها الأخير. قد تخسر بريطانية وأميركانية الـحرب إذا تـمكنت ألـمانية من سحق روسية وإخراجها من الـمعركة، ولكن ذلك ليس شيئاً أكيداً. فالـمعارك الـجارية في روسية تكلف كثيراً، واتساع نطاق الـمناطق الـمحتلة يستدعي وقف قوات كبيرة للمحافظة عليها، وليست مسألة مهاجمة الـجزيرة البريطانية أو أميركانية أمراً هيناً يؤكد فوز الـمهاجم. ولا بد من انتظار نتائج الـحرب في روسية وأحداث أخرى قبل إبداء الرأي الأخير، فحرب كهذه تحتمل تقلبات كثيرة غريبة.»
وجرى مؤخراً مجلس عند الزعيم تـحدّث فيه بعض الـحضور عن الانقلاب الأخير في إيطالية بـما يدل على الاقتناع بأن انكسار الـمحور الألـماني - الإيطالي الأخير وتسليمه أصبح مسألة أيام قليلة أو أسابيع، على الأكثر. فذكر الزعيم جوابه لأستاذ كوردبة وقال «إنّ رأيي في هذه الـحالة الـجديدة يشبه رأيي في الـحالة السابقة الـمخالفة. يـمكن أن يخسر الـمثلث الألـماني - الإيطالي - الياباني الـحرب، ولكن لا يـمكن القول إنه خسرها نهائياً. إنّ الـحالة الـحربية قد تغيرت وحصلت للمثلث البريطاني - الأميركاني - الروسي إمكانيات الهجوم وبلوغ إيطالية، ولكن انتصارات هذا الـمثلث الـحديثة ليست فاصلة، فلا بد من الانتظار ولا ننسى أنّ حظوظ الـحرب لا توافق دائماً التكهنات والتقديرات.»
كان الهجوم الأنكلوسكسوني على صقليــة بعد مرور نحو ثلاثــة أشهر على زيارة تشرشل لواشنطن. وحملت إلينا أنباء أوائل الشهر الـحاضر خبر وصول تشرشل إلى كنـدا، وعـزم روزفـلت على موافاته هناك لـمقابلة جديدة. وعلى أثر هذه الأخبار وردت أنبـاء حصـول محـادثـات ومؤتـمرات في طـوكيـو إشتـرك فيهـا وزيـر خـارجيــة اليابان وسفيرا ألـمانية وإيطالية. وتقول برقيات هذا الـجانب إنّ الدول الثــلاث الـمشتركــة في الـمحادثــات تثبت الـمعاهــدة الثلاثيــة وتضامن هذه الدول في الـموقـف الـحربي.
ولا بد من انتظار أحداث خطيرة في الـمستقبل القريب. فأحد مراسلي الصحافة الأسوجية في برلين أوصل إلى جريدته في مطلع هذا الشهر، يقول إنّ في ألـمانية شعوراً عاماً بأنه تـجري فيها استعدادات عظيمة لهجوم هائل صاعق يصدّ العدو وينزل به خسائر كبيرة. ونظنّ أنّ هذا الكلام ليس بعيداً عن الـمعقول. وهناك أسباب كثيرة لـحسبان اليابان قائمة باستعدادات من هذا النوع. إنّ هذه الـحرب ستكون عنيفة في الـمستقبل، كما كانت في الـماضي وستجري معارك عظيمة قبل إمكان التحدث عن النصر الأخير بـمستند غير عاطفي.