إنّ من أعظم أضرار ضعف الأخلاق وانحطاط الـمناقب، فساد الـحقيقة وذهاب الرجولة وفقد الأهلية وتفكك الاجتماع وتهدّم القضايا وركوب العار.
وليس أسوأ عاقبة من الـحنث باليمين وفسخ العهود ونقض البيعة التي بها قيام القضايا والاطمئنان الأكيد بالتضامن في الـحياة.
القضايا العامة تتحقق بالـمجهود العام. فاليمين التي توجب التضامن الوثيق في الـمجهود العام تصبح القاعدة اللازمة لهذا الـمجهود، والشرط الذي لا يـمكن قيامه إلا به. وكسر اليمين خرق لـحرمة الـمجهود العام، وتعريض لهذا الـمجهود لأخطار غير منتظرة، مع ما يلزم ذلك من إمكان وقوع العذاب والتعذيب على الأوفياء الثابتين على إيـمانهم بسبب فشل ضعيفي الأخلاق وتزعزعهم. وإذا تركنا احتمال وقوع العذاب والتعـذيب، ونظـرنا فقط في الآلام والـمتاعب التي يورثها تقلقل الصفوف من جراء تزعزع ضعفاء الأخلاق، لكفى ذلك مجالاً للتمعن في بعض نتائج خرق اليمين السيئة.
ولكن الـجيل السوري الـحاضر لم يتعود مناقشة النفس في الأضرار التي يـمكن أن تلحق الأمة أو الـحزب أو القضية من جراء شذوذ الأفراد عن قواعد الـمجهود العام. ولذلك يندر أن تـجد أفراداً مدركين هذه القواعد ومهتمين لها وعارفين مقدار ارتباط الشخصية بها في الـمجتمع أو في نظام الاجتماع.
الـحقيقة أنّ خرق اليمين من أسوأ جرائم الاجتماع الـمناقبية. فإذا بليت به أمّة دكّ عمرانها إلى الـحضيض، وإذا شاءت أمّة عاثرة النهوض كان الـحنث باليمين وخفر الذمة ونكث العهد في صدر الأدواء التي يجب معالـجتها لكي يـمكن أن تعمّر نهضة، وأن يثمر مجهود عام، وأن تتحقق قضية. فوجود الـمبادىء والتعاليم الأساسية للقضية القومية لا يكفي وحده لتحقيقها. فلا بد من العزائم الصحيحة للعمل العظيم. والعزائم الصحيحة لا توجد في النفوس التي غلبت مثالبها مناقبها.
وإنّ داء نقض العهد وخفر الذمة والـحنث باليمين هو من أروع الأدواء التي كشفت عنها مجهودات التنظيم السوري القومي الاجتماعي في الـجيل السوري. فإن السهولة التي ينقلب بها غير واحد من الناس على يـمينه وينقض بيعته، لأتفه الأسباب أحياناً، وأحياناً لدى أول الاصطدامات بين النزعة الفردية ومقتضيات النظام الإداري والعملي، لهي من الظواهر الـمخيفة الـمرعبة، التي تهدد كل محاولة من محاولات الـمجهود العام الـمنظم لبلوغ بعض الأهداف القريبة أو البعيدة. وإنّ أقلّ نتيجة عامة من نتائج هذه الظاهرة السيئة هي: فقد الثقة بصحة العزائم وضياع الأمل في الإرادة القومية العامة.
إصطدم الـحزب السوري القومي الاجتماعي بهذه العقبة وتعرّض لهذا الـمرض النفسي الـمتفشي في الـجيل السوري الـحاضر. وفي كل فرع تأسّس جديداً للحزب كانت قضية نكث العهد والـحنث باليمين بكل سهولة من القضايا الأولية التي لم يكن بد من معالـجتها ومن الاحتياط لها. والـمؤسف أنّ حوادث كثيرة من حوادث الاستهتار باليمين لم يـمكن تلافي انتهائها بسقوط عدد من الأفراد، كان يـمكن أن يفيدوا القضية القومية الاجتماعية، فريسة هذا الداء النفسي الوبيل. وأخوف ما في هذا الـمرض أنّ الذين يفتك بهم ويحوّلهم من أشخاص قابلين للتنظيم الاجتماعي والسياسي إلى أفراد لا يعوّل عليهم في العمل القومي الـمنظم يسيرون، بعد ارتكاب جريـمة نكث العهد، باختيال وكبر كأنهم قاموا ببطولة باهرة تستحق الإجلال والتعظيم!
إنّ عدداً من الذين قتل قواهم النفسية داء الاستخفاف بالبيعة واستسهال الـحنث باليمين، وسقطوا من صفوف الـحزب السوري القومي الاجتماعي لهذا السبب الـجوهري، يرفعون رؤوسهم في الـمجالس والـمجتمعات باعتزاز ويطلقون ألسنتهم في القدح في نظام الـحزب السوري القومي الاجتماعي الذي حاول شفاءهم من مرضهم الهدام للمجتمع، كأنهم حائزون على الـمؤهلات الأخلاقية والـمناقبية والـحقوقية للحكم على الـحزب ونظامه!
وغير نادر أن تصغي الـمجالس والاجتماعات الـخالية من الشعور بالـمسؤولية ومن تقدير النظام إلى «أحكام» أولئك الـمارقين بشيء كثير من الـموافقة ومن القبول! فإن تعوّد الناس انعدام النظام والـمراجع الـمحاسبة، السائلة، ومـمارستهم الانفلات من القيود النظامية ومن الـمسؤوليات ومن القوة الـمناقبية جعلاهم يجدون خرق النظام ونكث العهد شيئاً اعتيادياً وقاعدة مألوفة لا غبار عليها! فالذين ينكثون العهد وينزعون اليمين التي في الأعناق بالسهولة عينها التي ينزعون بها الأُرَبة (الكرافات) أو يفكون بها رباط الـحذاء حين يخلعون ثيابهم للنوم، يفعلون ذلك بكل دم بارد وبخلوّ تام من الشعور بعظم الفضيحة الأخلاقية والـمناقبية التي يرتكبونها، معتمدين على قبول الأوساط الرافضة النظام، الـجاهلة خطورته الأساسية في التعمير الاجتماعي وفي التخطيط السياسي، هول الفضائح وحسبانها أعمالاً غير مخلّة بقواعد الشرف وبحياة الوجدان.
إنّ القواعد الـمناقبية الأولية لكل مجتمع متمدن، بل لكل مجتمع متوحش أيضاً، ترفض مجرد الكذب والبهتان والإخلال بالوعد، فكم بالـحري يكون رفضها لنكث العهد الـمقطوع والقَسَم الـمشهود.
أجل، إنّ نكث العهد والـحنث باليمين يعدّ، عند الـمتمدنين وعند الـمتوحشين على السواء، خيانة يأباها الوجدان وجريـمة ضد الـمجتمع وغدراً بالـجماعة التي ارتبط بها الناكث بـموجب اليمين التي حنث بها. فلليمين خطورة عظيمة جداً في علاقات الـمجتمع الإنساني وروابطه. وهي بطبيعتها تصبغ الأمور الـمقطوعة لها بصبغة الواجب الذي لا مفر منه، إذ اليمين توضع للأمور العظيمة دون الصغيرة وللقضايا الأساسية الـجوهرية دون الـمسائل السطحية العرضية. فالإنسان لا يحلف يـميناً على أنه سيأكل كل يوم، لأن طلب الغذاء من طبيعة الـحياة، ومقتضياتها تدفع الإنسان إلى الأكل من غير الاحتياج إلى عزيـمة نفسية خاصة. ولا على أنه سيتاجر أو يتخذ حرفة يكسب رزقه منها. ولا على أنه سيتزوج. ولا على أنه سيركب سيارة إذا أمكنه، ولا على أنه سيلعب بالنرد أو التنس، ولا على أنه سيراسل من يراسله ويقاطع من قاطعه، وغير ذلك مـما شاكله. ولكنه يحتاج لـحلف يـمين للانقطاع عن الأكل حتى الـموت، مثلاً. ويحتاج لليمين للتضامن في طلب ثأر، أو في بلوغ مكرمة، أو في دفع عدو عن الوطن أو في قلب حكومة وإنشاء نظام جديد، وغير ذلك مـما شاكله من الـمطالب والأحداث الـجليلة الـمتعلقة مباشرة بعزائم النفوس في ما يختص باعتقادها في ما هو الأفضل والأسمى والأعز من حالات الـحياة ومراميها. ولذلك كانت اليمين من الـمسائل النفسية العظيمة الـخطورة. فهي تتعلق بالإدراك والعقيدة وصدق العزيـمة في ابتغاء تـحقيق الـمطلب ضمن النظام أو التدبير الـمقرر.
لا يـمكن، إلا في حالة الـجهل الـمطبق، إعتبار اليمين أمراً هيناً الدخول فيه والـخروج منه. لأن القَسَم لا يطلب إلا في أمر جلل، ولا يُعطى إلا في ما يُبتغى به تـحقيق ما لا تـرى النفوس مندوحة عنه ولا ترضى إلا به. وفي الأعمال الـمجموعية تُعطى اليمين تثبيتاً لعزيـمة لا رجوع عنها ولارتباط لا انفصام له إلا بزوال الـمطلب العام أو بسقوط النظام الذي يبتغي به تـحقيقه.
وإننا نرى تقدير الزعيم لـخطورة اليمين، وعظم أهمية العمل القومي الـمنظم لتحقيق العقيدة القومية الاجتماعية ولـما يقتضيه ذلك من صحة العزائم، في طلبه من كثيرين مراجعة نفوسهم قبل الإقدام على حلف اليمين ليكون حلفهم بوعي وإدراك تام لـخطورة الـموقف وما يترتب عليه. ومع ذلك لم يـمكن شفاء بعض الـمرضى من داء الاستهتار وضعف الأخلاق والعبث بالـمبادىء العامة.
لا حجّة لـمن يحنث بيمينه في الـحزب السوري القومي غير ضعف الأخلاق والاستهزاء بالقيم الـمناقبية، ولا عذر له غير الـجهل وفقد الإدراك. ففي الـحزب السوري القومي الاجتماعي شرع يضمن لكل فرد حقه كفرد في النظام والعمل والرأي، ولكل فرد يحسب نفسه مظلوماً في أمر أن يطلب الـمحاكمة العلنية إذا لم تـجرِ محاكمة علنية لأغلاطه. فيكون أميناً على أنّ قضيته لا يُبتّ فيها بالـخفاء بطرق لا يقرها الـمجموع. ولكن الذي ينظر في قضيته أمام نحو ستين أو ثلاثين عضواً من رفقائه أو أمام أكثر أو أقل من هذا العدد، على نسبة اتساع البيئة، وتصدر في حقه الأحكام الـمبينة أغلاطه القانونية والقاضية بفرض قصاص محتمل عليه، ثم يثور ثائره، لأن أنانيته تأبى إلا أن تكون فوق النظام وفوق الـحق وفوق القانون وفوق اليمين، وينكث عهده مفضلاً اتّباع أهوائه على اتّباع النظام والـحق، أي شيء يـمكن أن يقال فيه أقل من وصفه بضعف الأخلاق والعبث بحرمة الـمبادىء العامة وخيانة الـحركة ونظامها وأهدافها؟
أحد القوميين في الوطن حكم عليه بالفصل من الصفوف أثناء وجود الزعيم في السجن الأول. فلما خرج الزعيم من سجنه جاء إليه مستأنفاً دعواه إليه، ووضع أمام الزعيم كيساً صغيراً فيه قطع نقود معدنية يبلغ مجموعها كل الـمترتب على ذلك الفرد من الاشتراك الشهري في الـمدة التي كان موقوفاً فيها، وقال للزعيم: «لقد حكم عليّ، يا مولاي، بالفصل عن العمل النظامي ومفارقة صفوف الـحركة. ولكني لست براجع عن يـميني، وإني أرفع قضيتي إلى أعلى مرجع في الـحزب. فإذا أيّد حكمه حكم الفصل السابق فقد قضي الأمر. وإذا نقضه وأعادني إلى الصفوف عدت طائعاً ومحافظاً على يـميني.» إنّ أمانة ذلك الـجندي ليمينه ومتانة أخلاقه أنقذتاه من الظلم وشرّفتا يـمينه.
ولكن كم هو عدد الذين لـمجرد أنّ شيئاً بسيطاً لم يكن على خاطرهم قالوا: «ننسحب من الـحزب ولا يهمنا ما يصير»؟ فيرتكبون جريـمة خيانة العهد وقطع الرباط النظامي الذي به قيام القضية.
إنّ النظام يضع الـحدود للأفراد ليمنع استبدادهم ويلوي عنادهم ويخضعهم للإرادة العامة الـممثلة في النظام ومؤسساته. والفرد الواعي، الذي منه خير، هو الذي يحافظ على يـمينه مهما حدث مـما يعكر مزاجه ويصد بعض رغباته. أما الذي يظن أنّ كل حكم يصدر في النظام ويكبح رغباته ويطلب إجراء الأمور على غير رأيه، أو غير ذلك مـما لا يوافق هواه، هو سبب كاف لإهمال يـمين أدّاها في موقف مهيب أمام قضية عامة مقدسة فهو ناكث مفسد. فإن كان يعلم ذلك فهو خائن مجرم يجب احتقاره. وإن كان يجهل ذلك يؤدب، فإن رفض التأديب فهو ساقط مكابر فضلاً عن أنه مجرم.
حافظوا على أيْـمانكم التي في أعناقكم تفلحوا!