قلنا في مقالنا في العدد الفائت (ص 473 أعلاه)، إنّ زمن الـمفاجآت العظيمة قد مضى، وإنّ الـحرب دخلت في طور الـمطاولة والاقتصاد في الرجال والـمعدات وتـحيّن الفرص. وجميع الـحوادث الـحربية منذ بضعة أشهر إلى الآن تؤكد هذا التقدير.
كم تطول مدة هذه الـمطاولة؟ سؤال لا يـمكن إعطاء جواب نهائي عليه. فإن دول الـمثلث الألـماني - الإيطالي - الياباني قد أنفقت مقادير عظيمة من العدد والذخائر في هجومها الأولي وفتوحاتها الكبيرة، خصوصاً الدولتان الأولى والأخيرة من الـمثلث الـمذكور. فإن الـحرب ضد بولونية واكتساحها، ثم الانتقال إلى نروج وهولندة والدانـمارك وبلجيكة وفرنسة وفتحها جميعها في معارك شديدة أوجبت استنفاد مستودعات عظيمة من الأسلحة والذخائر والزحافات والدبابات والوقود والعلوفة، عدا عن القتلى والـجرحى من الـجيش. وتلا ذلك الغارات الـجوية على بريطانية التي ألقيت فيها ألوف أطنان القنابل، عدا عن الطيارات التي سقطت. والانتقال إلى صقالبة الـجنوب واليونان، ثم اختراق البلاد السوفييتية في هجوم هائل، واستمرار الـحرب في روسية ومرور عامين عليها من غير وصول إلى نتيجة أخيرة، كل ذلك أوجب على ألـمانية نفقات ضخمة وتضحيات كبيرة. وإيطالية أيضاً تـحملت نفقات وأعباءً وتضحيات على نسبة قوتها. واليابان بذلت مجهوداً حربياً عظيماً في مهاجمة بيرل هاربر، ثم في مهاجمة جزائر الفيليبين وجزائر الهند الشرقية وشبه جزيرة ملكة وهونغ كونغ وسنغافورة وبورمة، حتى استولت عليها جميعها، وعلى جزر عديدة قرب أسترالية وفي أماكن أخرى، عدا عن حربها في الصين وعن الـمعارك البحرية والـجوية التي خاضتها. وبذل مثل هذا الـمجهود لا يـمكن أن يذهب بدون أثر في حالة الـجيش وسلاح الطيران والـمعدات.
في هذه الأثناء كانت أميركانية وبريطانية تشمّران عن ساعد الـجد في التعويض عن الـخسائر الـحربية، وفي صنع الـمعدات الـمتنوعة والسفن الـحربية والشاحنة والطيارات والدبابات، فبينما ألـمانية مشتبكة في روسية الـمجهزة جيداً للحرب، واليابان منشغلة في الصين وفي فتوحاتها في الهادىء، كانت الولايات الـمتحدة تزيد اعتماداتها الفلكية الأرقام وترفع معدل إنتاجها الصناعي الـحربي شهراً بعد شهر، وبريطانية تبذل كل قواها ومواردها في هذا السبيل، حتى تـمكنت هاتان الدولتان من حشد قوة كبيرة قادرة على الهجوم وتهديد بعض جبهات الـمثلث الـمذكور آنفاً. وهكذا تسنّى لهما إنزال جيوش في شمال أفريقية والقيام بهجوم من خطوط العلمين في مصر إنتهى بإخراج قوات الـمحور الألـماني - الإيطالي من أفريقية كلها وتهديد إيطالية.
وروسية أيضاً تـمكنت في شتائين من تعويض بعض خسائرها في الـمعدات والرجال بإيجاد مراكز صناعية جديدة بعيداً وراء خطوط القتال، ومن تهيئة أفواج جديدة من الرجال. وعضدتها كثيراً الإمدادات الصناعية من أميركانية وبريطانية، حتى تـمكنت من تنفيذ خطة هجوم عنيف واسعة في الشتاء الـماضي ومن استعادة ستالينغراد وتـحرير منطقة النفط في القوقاز.
تغيّرت الـحالة العامة في مجرى الـحرب. ولكن هذا التغيّر لا يعني إنقلاباً كلياً. فيجب الانتظار لـمعرفة مبلغ الـجزر في خطوط الـمحور الألـماني - الإيطالي - الياباني، ومدى الـمد في خطوط الـمحور البريطاني - الأميركاني - الروسي، وكيف تصير الـحالة بعد أن يبذل هذا الـمثلث أو الـمربع، بإضافة الصين، مثل الـمجهود الذي بذله الـمثلث الأول في هجوم يستغرق نفقات ضخمة وتضحيات كبيرة.
من الـمؤكد أنّ الـحرب لا تنتهي بالقتال في هذه السنة ويصعب كثيراً التسليم بإمكان انتهائها في السنة القادمة. لأنه بينما يقوم الـمثلث البريطاني - الأميركاني - الروسي بدور الهجوم واستعمال القوة التي بذل في إعدادها ما يزيد على سنتين، تقوم ألـمانية واليابان بدور الصبر وتـحصين الـمناطق التي استولتا عليها، وإعداد قوة جديدة لا بد أن تـحين ساعة استعمالها. ولا ننسى أنّ مناطق كثيرة استولت عليها ألـمانية واليابان هي من أغنى مناطق العالم بالـمواد الأولية والـمزروعات، وستجتهد هاتان الدولتان في استغلالها إلى أقصى حد. وهذه وجهة لا يـمكن الاستخفاف بها. وما يستنتج منها أنّ ألـمانية واليابان تتمكنان من التعويض عن خسائرهما في الـمعدات وزيادة إنتاجهما الـحربي إلى أبعد ما تـحتمله الـموارد الأولية التي أصبحت في قبضتيهما. فقوتاهما غير قابلة النضوب السريع. ومن جهة خسائر الرجال يـمكن القول أنها لا تزال بعيدة عن الاستنزاف.
مـما تقـدم نستنتج أنه لا ينتظر حدوث انقلاب كلي في الـحالة الـحربية أو انسحاق سريع لأحد الـجانبين اللذين يستعملان قواهما بحكمة، ويتجنبان الـمجازفات الـخطرة والإفراط في استعمال الـمواد البشرية والـمعدنية.
تـحت ضوء هذه النظـرة يـمكننا أن نفهم جيداً ما يجري الآن في روسية وفي البحر الـمتوسط وفي الـمحيط الهادىء.
وصف الـحركات الـحربية
قلنا في العدد السابق (ص 473 أعلاه) إنّ الـجبهة الـحربية في روسية عادت إلى الـحركة إذ نشبت معركة عظيمة في جبهة أورل - كرسك في متوسط الـخطوط الـممتدة من البحـر الأسـود إلى البحـر البلطي. وكان من الصعب إعطاء تقديرات لـمجراها وأغراضها. وإلى الآن لا تزال حقيقة ما جرى في الـجبهة الـمذكورة غير معروفة تـماماً. فكل ما جاء في الأنباء، وله صحة، هو أنه جرت معركة عظيمة، زعم الألـمان أنهم أتلفوا فيها ألوف الزحافات الـمصفحة واـلمدافع الثقيلة والطيارات وغيرها من معدات الـحرب الروسية وأسروا عشرات ألوف الـجند الروسي، فضلاً عن القتلى والـجرحى. وزعم الروس أنهم فعلوا مثل ذلك بالألـمان من غير ذكر عشرات ألوف الأسرى. كل ذلك لا يصوّر لنا حقيقة ما جرى، لأن الـمعركة انـجلت عن عدم تغيير جوهري في مراكز القتال، فلا يـمكن القول إنّ الألـمان خابوا في هجومهم وارتدّوا، ولا إنّ الروس وقعوا في هذه الورطة، لأن الأخبار من الطرفين لم تعيّن تماماً من هو الـمهاجم ومن هو الـمدافع. فالأخبار الألـمانية أخذت منذ البدء تقول إنّ الروس هم الـمهاجمون، وإنّ الألـمان يقومون بهجوم معاكس لرد الـجيوش الروسية وإحباط خططها لهجوم كبير يحصل في الوقت عينه الذي يهاجم فيه الأنكلوسكسون الـجزر الإيطالية. والأخبار الروسية أعلنت منذ البدء أنّ الألـمان ابتدأوا يهاجمون الـخطوط الروسية في حملة صيفية جديدة، وأنّ الروس يجتهدون في رد الألـمان.
أخيراً توقف الهجوم الألـماني وأعلنت القيادة العليا الألـمانية أنّ معركة أورل - كرسك انتهت بانتصار الألـمان بسحق قوة الهجوم الروسية، وأعلنت القيادة العليا الروسية أنّ الـمعركة الـمذكورة انتهت بفوز الـجيش الروسي وبسحقه قوة الهجوم الألـمانية. أما الـخطوط والـمراكز فلم يحدث فيها تغيير ذو أهمية استراتيجية.
أما ما يجري في البحر الـمتوسط فهو حتى الآن شيء محدود. فهجوم الأنكلوسكسون على جزيرة صقلية هو عملية تقرّب قوات الـمحور الأنكلوسكسوني من قوات الـمحور الألـماني - الإيطالي، وتـجعل للإحتكاك الـمتواصل بينهما سبيلاً. ولكن ذلك لا يعني شيئاً فاصلاً. وحتى الآن لا يـمكن التحدث عن «جبهة ثانية» بالـمعنى البري . فجزيرة صقلية، على أهمية موقعها، ليست جبهة برية مـمتدة في أوروبة بل جزيرة في البحر الـمتوسط على مقربة من جنوب إيطالية. ولا يـمكن التكهن بـما يقصد الأنكلوسكسونيون فعله في حالة استيلائهم عليها. هل يتخذونها «قاعدة للقيام بهجوم على إيطالية أو يكتفون بجعلها حامية لـمرور مراكبهم البحرية بحريّة من الأطلسي إلى الـمتوسط ومن غرب الـمتوسط إلى شرقه، فيتمكنون من توجيه عنايتهم إلى الاستيلاء على جزر أخرى في الـمتوسط كالدودكانس وجزيرة كريت. ولا يبعد أن تكون حركاتهم في الـمتوسط ستاراً لـما يهيئونه لهجوم في مناطق أخرى كالنروج، مثلاً. ومهما يكن من شيء، فإن سقوط صقلية في قبضة الأنكلوسكسونيين يفقد إيطالية إمكانية الـحركة بحريّة في غرب الـمتوسط، ويحصر أسطولها ويضيّق على مدى أسطولها الـجوي، ويجعلها هي ذاتها تـحت رحمة قوات طيران أعدائها، وتـحت رحمة أساطيلهم البحرية التي ستجد مراكز أمينة في عبورها الـمضايق بين غرب الـمتوسط وشرقه. هذا فضلاً عن أنّ قرب الـجزيرة من شبه الـجزيرة الإيطالية، إذ الـمسافة في مضيق مسينا لا تزيد على ثلاثين كيلو متراً، يجعل حصر الهجوم المباشر على إيطالية قريب الوقوع. وإذا لم تكن إيطالية مجهّزة كما يجب ومستعدة لدفاع قوي طويل بصلابة فلا بد من قبول فكرة وصول إيطالية إلى أزمة حربية في هذه الـحرب، كما وصلت في الـحرب الـماضية إلى أزمة حربية بعد كارثة كافريتو الشهيرة. ولا شك في أنه قد دنت ساعة الإمتحان الكبرى لـمتانة الـمحور الألـماني - الإيطالي ومقدرته على البقاء في هذا النزاع الدموي الهائل.
بينما الـمحور البريطاني - الأميركاني يحاول تنفيذ خطة هجوم لتعديل الـحالة الـحربية في أوروبة يتخذ الـمحور الألـماني - الإيطالي خطة الدفاع والانتظار ريثما ينفد من جانب الأنكلوسكسون قسم هام من معداتهم ورجالهم. ويظهر أنّ الـموقف في الهادىء لا يختلف كثيراً عنه في أوروبة. فاليابان جادة في تـحصين الـمواقع الرئيسية في الـمناطق التي استولت عليها وفي تنفيذ سياسة «آسية العظمى» بإيجاد دول ذات إدارة داخلية شبه استقلالية تابعة للسياسة اليابانية الـحربية والاقتصادية.
إنّ الوجهة السياسية لأغراض الـحرب هي ناحية كبيرة وذات مرام واسعة تشمل ما بعد الـحرب. فلا يـمكن إهمال أهمية ما تـجريه اليابان في آسية الشرقية أو ما تـجريه ألـمانية في شمال أوروبة وشرقها، خصوصاً في بولونية وأكرانية وفي نروج.
لا بد، في اعتقادنا، من استمرار الـحرب مدة غير قصيرة قبل إمكان سحق أحد الـمحورين عدوّه، وقبل إمكان استنزاف قوى الـمحورين معاً، والوصول إلى حالة توجب رفع الـحرب بطريقة من الطرق.