تركنا القارىء في أواخر السنة الـماضية وأوائل الـحاضرة في حوادث حلول القوات الأميركانية والبريطانية في أفريقية الشمالية، بينما القوات الألـمانية وحليفتها كانت في جبال قاف أو القبق أو القفقاس وفي مدينة ستالينغراد. وسنستعرض في ما يلي التطورات التي حدثت ومجمل الـموقف الـحربي السياسي الـحاضر.
كنـا قـدّرنا، بـمناسبة حلول القوات الـمتحدة في أفريقية الشمالية وتراجع القوات الألـمانية الإيطالية من مصر وليبية، أنّ الألـمان سوف يزيدون الضغط على الـجبهـة الروسيـة حتى يستـولوا على ستـالينغـراد كلها وينظفـوا ما حولها ويثبتوا خطوطهم الأمامية استعداداً للإجهاز على القوة الروسية في السنة الـحاضرة، ليصير في إمكانهم التحول بـمعظم قوّتهم إلى الغرب والـمحيط الأطلسي. ولم يكن تقديرنا ناتـجاً عن تخيلات غريبة، كما يجري لكثير مـمن يحبون إيراد الغرائب، بل مبنياً على شؤون وضعية، منها خطاب هتلر الذي ألقاه في الريخستاغ في 30 سبتمبر/أيلول من السنة الـماضية وقال فيه: «إننا سنستولي على ستالينغراد ولا يوجد قوة إنسانية تستطيع أن تزيحنا عن ذلك المكان» وعلى تكاليف الهجوم الكبير الذي قام به الألـمان في أواخر ربيع سنة 1942 وصيفها وخرقوا به خطوط الدفاع الروسية في أنحاء نهر الدونتز وعبروا الدون ومضيق كرتش وتوغلوا جنوباً إلى القفقاس وبلغوا ستالينغراد الـمدينة التي يظن أنها أمنع الـمدن الـحصينة في العالم. وعلى استمرار الهجوم في قلب هذه الـمدينة الـمنيعة، حتى بعد نزول القوات الأميركانية والبريطانية في أفريقية الشمالية وتراجع الـمارشال رومل من طبرق وبنغازي. فجميع هذه الأدلة كانت ترجّح تعمّد الألـمان الاحتفاظ بالـمناطق الـمكتسحة في روسية والاستيلاء على ستالينغراد بكاملها ليحولوها بدورهم إلى مركز أمامي حصين يحمي جناحي الـجبهة الـجنوبية ويقطع خط مواصلات نهر ايتل، أي البلقا، ويفصل مناطق النفط القفقاسية عن قلب روسية.
وقدّرنا أيضاً أنّ الألـمان لن يحاولوا تـحويل أفريقية إلى جبهة حربية أولية ثابتة وهم متوغلون كل ذاك التوغل في روسية. وقد برهنت الـحوادث التالية أننا أصبنا التقدير في مسألة أفريقية، وأنّ تقديرنا النهج الألـماني في روسية لم يكن بعيداً عن تقديرات الألـمان أنفسهم الذين وردت تصريحاتهم الرسمية مؤيدة له، بعد مفاجآت أفريقية، إذ صرّح غوبلز وغيره، أنّ «الـحرب يُفصل فيها في الـجبهة الشرقية» ولكن القيادة العليا الألـمانية كانت مضطرة للنظر في أسباب لا يـمكننا الآن الوصول إليها، لأنها من أسرار هذه الـحرب الطاحنة. فبعض الأنباء البرقية ذكرت ظهور كتائب وسرايا ألـمانية في غرب أوروبة قادمة من الـجبهة الشرقية.
وقد توقف الضغط الألـماني في الـجبهة الشرقية باكراً قبل مجيء البرد القارس. وفي الـحال ابتدأت الـجيوش الروسية الـمستقوية بنجداتها الـجديدة تتحرك لتتحول إلى الهجوم قبل أن يتمكن الألـمان من تـحصين الـمراكز الرئيسية التي في أيديهم وقبل اشتداد البرد وتراكم الثلوج.
والظاهر أنّ الألـمان كانوا يأملون الاحتفاظ بـمراكزهم في ستالينغراد ورسطف ونوبوتشركسك وكامينسك وورونيج، وكالوقا وبيازما ورجاف قرب موسكو. ولكن الاستعدادات الروسية للشتاء كانت فوق ما كان يظن. فقد كان الهجوم الروسي الشتائي سريعاً وقوياً وظهرت فيه استعدادات ومعدات روسية كثيرة بالدبابات والزحافات الـمصفحة وبالـمدافع الثقيلة، وأخذ هذا الهجوم جانبي ستالينغراد وعبر الدون فوق الـمنحنى الكبير وإلى جنوب ستالينغراد ومع ذلك لم ينسحب الـجيش الألـماني الذي كان محتلاً الـمدينة، إما لأن القيادة الألـمانية ظنت أنّ مركزه منيع إلى حد أنه يتمكن من البقاء فيها وإيقاف قوات روسية كبيرة في تلك الأنحاء وعرقلة خطط الهجوم الروسي، وإما لأنه لم يكن لها الوقت والأجهزة الكافية لنقله إلى الوراء من غير تعريض قوات أخرى للوقوع تـحت نار العدو وفتح الطريق له ليخترق الـخطوط الألـمانية اختراقاً غير قابل الرتق. فتمكن الروس من تطويق الـجيش الـمذكور الذي اضطر قائده إلى التسليم فوقع في أسر الروس نحو ثلاث مئة ألف ضابط وجندي ألـماني واستعاد الروس مدينة ستالينغراد، وتقدموا حتى استولوا على منطقة نهر الدونتز كلها تقريباً، وقاموا بهجوم آخر في نواحي موسكو فأخلى الألـمان مدينة رجاف وثبتوا في أوريل. وأخلى الألـمان خركوف أيضاً ولكنهم كرّوا عليها وانعطفوا من شمالها واستعادوها بعد أن قتلوا من الـجيش الروسي مقتلة كبيرة وأسروا عدداً منه.
عند تسليم الـجيش الألـماني في ستالينغراد أذاعت القيادة الألـمانية بلاغاً تقول فيه إنّ ذلك الـجيش «أكمل الـمهمة التي ألقيت عليه» وأنها تـحتفظ بإذاعة الأسباب والظروف التي أوجبت مصيره لوقت آخر في الـمستقبل. ولكن الروس عدّوا ذلك انتصـاراً لهم، والـحقيقـة أنه أول خسـارة كبيرة تستحـق الذكر تصيب ألـمانيــة في هـذه الـحـرب.
فـي هـذه الأثنـاء كـانت القوات الأنكلوسكسونية تستعد للزحف العام على تونس. وأجرى رئيس جمهورية أميركانية ورئيس الـحكومة البريطانية الـمقابلة الـمعروفة في مدينة الدار البيضاء، التي استغرقت عشرة أيام، من الرابع عشر إلى الرابع والعشرين من يناير/كانون الثاني الـماضي وعرّفها رئيس أميركانية بأنها مقابلة أو اجتماع «التسليم بلا شرط»، لأنه تقرر فيها متابعة الـحرب إلى أن يلقي الـمثلث الألـماني - الإيطالي - [الياباني] سلاحه بلا قيد ولا شرط.
كان تراجع رومل بقواته الـمصفحة من مصر وتـملصه من جميع الـمواقف التي كان يـمكن أن تـجري فيها معارك شديدة في ليبية، أمراً مدهشاً لغير الـحربيين ولكثير من هؤلاء، خصوصاً بعد إعلان هتلر في خطابه الـمذكور آنفاً أنّ التقدم الألـماني نحو الأراضي الـمصرية يقصد منه البقاء في أفريقية والاحتفاظ بالأرض الـمحتلة. ولكنه كان الدليل البارز على أنّ الألـمان لم يقصدوا بذل مجهود كبير في الـميدان الأفريقي. مع ذلك كان يظن أنهم سيتشبثون بتونس، كما تشبثوا بـمنطقة نهر كوبان على الـجبهة الشرقية من مضيق كرتش في جنوب روسية، ولكن سير الـمعارك في تونس أظهر أنّ خطة القيادة الألـمانية لم تكن ترمي إلى الاحتفاظ بتونس مهما كلف الأمر. وبعد عدة معارك عنيفة استولت القوات الأنكلوسكسونية على خطوط الدفاع والـحصون التي كانت في حوزة الـجيش الألـماني - الإيطالي وعلى ما يقارب مئتي ألف أسير عدا عن القتلى الذين هم أقل من ذلك.
ومن تقديراتنا السابقة لنتائج احتلال القوات الأنكلوسكسونية شمال أفريقية، أنّ هذه القوات توجد ثقلاً يساعد على إحداث ضغط على سياسة إسبانية ومحاولة تعديل لـموقفها. وقد صحّت تقديراتنا هذه أيضاً. وبين البرقيات الـمسهبة التي وردت مؤخراً ما يؤكد أنّ بريطانية لا تريد الاستمرار في التساهل في موقف الـحكومة الإسبانية الذي يحسب أنه في جانب الـمحور الألـماني - الإيطالي، وإن لم تكن إسبانية داخلة الـحرب فعلاً.
والـحالة الآن تشبه الهدنة بين الـمتقاتلين باستثناء الـحملات الـجوية من الفريقين، والـحرب البحرية بين غواصات الإتـحاد الثلاثي وبحرية الأمـم الـمتحدة. ولكن الأنباء الواردة بعد كتابة ما تقدم، تدل على أنّ الـجبهة الشرقية قد عادت إلى التحرك وهناك دلائل هجوم ألـماني في منطقة كوبان وفي خط بريانسك - كورسك في منطقة أوريل.
أما في جبهة الـمحيط الهادىء فلم تـحدث حركات هامة غير بعض معارك في البحر في منطقة جزائر سليمان قرب أسترالية بين القوات الأميركانية والقوات اليابانية. وكل فريق ادّعى أنه أنزل بالفريق الآخر خسائر فادحة. وقد استولى الأميركان على جزيرة وادي القناة أو وادي الكنار من مجموعة جزائر سليمان، ثم استعادوا جزيرة أطو قرب ألاسكة، ثم استأنفوا القتال مؤخراً واستولوا على جزيرة صغيرة إسمها رندوبة.
وفـي هـذه الـمدة قـام اليابانيون بهجوم واسع على عدْوَتي نهر اليانغتسي وسحقوا جيشاً كاملاً من الصينيين، كما تقول أخبارهم، فقتلوا وأسروا. وأذاعوا أنّ بعض القواد الصينيين الـمعروفين تخلوا عن قضية شنغ كاي شك وانحازوا إلى الفريق الـموالي لليابانيين.
وموقف الفريقين الـحاضر هو موقف حسابات وتقديرات كثيرة. وكل فريق يهدد الآخر ويقول إنّ النصر الأخير له. وبعد مقابلة الدار البيضاء جرت مقابلة بين هتلر وموسوليني تقرر فيها بينهما متابعة الـحرب إلى النصر الأخير. وعند الانسحاب الألـماني - الإيطالي من تونس قال موسوليني «سنعود إلى أفريقية». وبينما الراجمات الأنكلوسكسونية تـمطر الـمدن الألـمانية كل يوم وابلاً من الـمتفجرات والـحرقات يكرر رجال الـمراجع العليا الألـمانية أنهم سيردّون الصاع صاعين. والـحالة في الـجبهة الشرقية تزداد تـحركاً.
ويـمكن القول إنّ زمن الإجراءات «البرقية» قد انتهى ودخلت الـحرب في طور الـمطاولة والاقتصاد في الرجال والـمعدات وتـحيّن الفرص. ولا يـمكن الاستناد إلى أقوال الرجال الرسميين من الناحيتين لـمعرفة حقيقة الأمور، فكما أنّ هتلر والوزراء الألـمان لم يقولوا الـحقيقة حين أعلنوا أنّ الـجيش الروسي قد سحق وتفكك بحيث لا تقوم له قائمة في هذه الـحرب، كذلك لم يكن ما أعلنه تشرشل في خطابه في الرابع عشر من مايو/أيار الـماضي من واشنطن، أنّ السلاح الوحيد الذي كان يـمكن الـحصول عليه في إنكلترة للدفاع، إذا هاجم الألـمان الـجزيرة البريطانية بعد تسليم فرنسة، كان «بنادق صيد وبنادق رصاص صغيرة وهراوات وسكاكين». فالصحيح أنه كان ينقص سلاح بـمقادير كبيرة من أحدث الـمعدات في فترة صغيرة هي بقية شهر يونيو/حزيران 1940، لـمواجهة الضغط والـخسائر التي كان في الإمكان أن تـحدث لو هاجم الألـمان بريطانية في تلك السنة. ولكن تشرشل نفسه يعترف أنه في شهر يوليو/تـموز، وحده من السنة الـمذكورة جلب الإنكليز إلى الـجزيرة مليون بندقية حديثة الطراز وألف مدفع وذخائر مناسبة. هذا عدا ما كان موجوداً، وما وصل في الأشهر التالية، وعدا عن قوة الأسطول الكبير الذي كان حاضراً ليتصدى لكل محاولة عبور من الشاطىء الفرنسي إلى الشاطىء البريطاني.