(جرى الاحتفال بـمرور عشرة أعوام على نشوء النهضة السورية القومية الاجتماعية في الـجماعات القومية في الأرجنتين في أوقات متباعدة، وكان الأجدر أن يكون ذلك في يوم واحد في جميع الأماكن التي فيها جماعات سورية قومية في العالم، أي في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني ولكن الظروف غير الاعتيادية أخّرت الاستعدادات لذلك. ومهما يكن من الأمر فإن إصرار الرفقاء على إجراء الاحتفال التذكاري، بعد مرور يوم الذكرى، دليل على تـملّك العقيدة القومية الاجتماعية منهم وشعورهم بواجب الالتفاف حول الفكرة والنظام القوميين الاجتماعيين.
لعل رفقاء فرقمينة كانوا الوحيدين الذين أجروا الاحتفال بذكر اليوم العظيم في موعده. أما في الـمدن الأخرى فقد جعلت كل فئة تختار يوماً مناسباً. وبعض الأسباب كانت من الغفلة عن التاريخ. أما في بوينُس آيرس فقد وجدت أمور عملية رؤي الفراغ منها قبل إجراء الاحتفال ليكون أكثر بهجة وأسنى رونقاً.
جـرى هذا الاحتفـال في العاشـر من شهر ينايـر/كانون الثاني الـماضي، فكان احتفالاً مهيباً ارتفعت فيه النفوس إلى سماء الـمثال الأعلى وامتدت الأبصار إلى الـمستقبل العظيم الذي يعدّه الإيـمان القويـم.
جلس الرفقاء والرفيقات في فناء ظليل، في هذه الأيام الـحارة، يواجهون منصة الـخطابة. فلما دخل الزعيم وقف الـحضور بهمّة وحمية إجلالاً وشخصت الأبصار إلى الرجل الذي يحمل في دماغه خطط الـمستقبل وفي قلبه إيـمان أمة بالـحياة والإرتقاء والتفوق. وصل الزعيم إلى الـمنصة وأجاب على تـحية القوميين الاجتماعيين واستقر في مجلسه وقعد الرفقاء.
نهض على الأثر أحد العاملين وألقى خطاباً فتحه بهذه الفقرة:
«مولاي الزعيم
«هذه فئة من القوميين تتجه إليكم في هذا الـموقف مستعدة لبذل كل مرتخص وغال في سبيل انتصار القضية القومية الاجتماعية الـمقدسة بقيادتكم الـمنصورة وها هي تهتف معي:
- لـمن الـحياة؟ - لنا
- لـمن نحيا؟ - لسورية
- من هو قائدنا - سعاده
- يحيى الزعيم يحيى
- يحيى الزعيم يحيى
- يحيى الزعيم - يحيى، يحيى، يحيى!»
بعد ذلك وقف الزعيم وأخذ في ارتـجال خطبة استغرقت ساعة ونيف أتى في ما يلي على خلاصتها، قال):
«أيها الرفقاء،
«إنّ إقامة السوريين القوميين الاجتماعيين مثل هذا الاحتفال التذكاري لـمرور عـشرة أعـوام على تأسيس الـحزب السوري القومي الاجتماعي لبرهان قاطع على وجـود الـوعي القـومي الاجتماعي في النفوس، الذي يـميّز الأمـم الـحية عن القطعان الـحيوانية أو البشرية.
«إنّ هذا العمل يعني حيـاة الوجدان وإدراك عظمة النتائج من مجرد معرفة الأسباب ونوع الأعمال. بـمثل هذا الاجتماع يُعرف أنّ في سورية جماعة حية تخفق قلوبها بحب وطنها وتشتغل عقولها في قضية أمتها الـممثلة في مبادئ هذه الـجماعة.»
(إستطرد الزعيم في شرح هذه الـحالة النفسية وتعيين مرتبتها وأهميتها، وكيف أنها تـميّز أصحاب الوجدان القومي والإدراك الصحيح عن الغافلين والـخاملين الذين لهم الدرك الأسفل من سلّم الإرتقاء الإنساني. وانتقل الزعيم إلى وصف كيفية تأسيس النهضة القومية الاجتماعية والـحالة التي نشأت فيها في الوطن فأظهر صورة رائعة من فعل الإيـمان القومي، قال:)
«كانت الـحالة في الوطن حالة يأس وخوف. الـجاسوسية منتشرة في كل مكان، والـخيانة كامنة عند كل منعطف. الـجيوش الأجنبية محتلة الـمواقع الاستراتيجية، ومكاتب الإستخبارات تبث عيونها في جميع أوساط الشعب. الأفكار قلقة والناس في بلبلة تـمنـع التفـاهم. النفوس بظلمة والـمستقبل مظلم والإنسان قد أنزل إلى درجة الـحيوان فهو لا يعرف الـماضي ولا يفهم الـحاضر ولا يدرك الـمستقبل ولا يشارك غيره في فكره الصحيح، إذا كان له فكر. الإجتماعات محظورة، وتأليف الأحزاب جريـمة، وخوف السجون والأحكام والرصاص يقطع طريق الأمل. هذا هو، بالاختصار وصف الـحالة التي نشأ فيها الـحزب السوري القومي الاجتماعي.
«كان الـجو مظلماً والذين قبلوا الدعوة نفرٌ قليلٌ من الطلبة بين الثامنة عشرة والـخامسة والعشرين من العمر. كانت الصعوبات عظيمة ولكن إيـمان أصحاب العقيدة القومية الاجتماعية، على قلّة عددهم، وعزيـمتهم الصادقة كانتا أعظم من الصعوبات وأقوى. كان أولئك الرفقاء الأُوَل القلائل عظماء جداً في نفوسهم حتى أمكن أن تصدر عنهم هذه الـحركة العظيمة الـمباركة التي تفتح للأمة السورية عهداً جـديـداً وتشـق لها طريـق مستقبـل مجيـد وتنشىء لها تاريخاً جديداً يظهر مواهبها الـجميلة ويبرز فضائلها الكبيرة.
«إنّ هذه النهضة العظيمة قامت بالنفوس العظيمة، لا بالعدد العظيم. وبالعقيدة الصحيحة والإيـمان العظيم أمكن أن تصير الـحركة السورية القومية الاجتماعية حركة عظيمة بعددها وقوتها ونظامها، فرهبتها الدول وقام الاستعمار الـمحتل أرض الوطن بالـجيش الـمسلح يحاربها بلا مهادنة ولا توان.»
(وتطرّق الزعيم لذكر انكشاف أمر الـحزب وانتشار عقيدته. وأوضح كيف أنّ الرجعية وأصحـابهـا الـمتمسكيـن بسلطة الدين الزمنية أو بسلطة الإقطاع الـمستعبِد قسماً عظيماً من الشعب أجفلت وهبّت مذعورة لتمنع تآخي أبناء الأمة الواحدة باسم القومية. ثم أسهب الزعيم في كيف ثبت الـحزب على الـحملات الاستعمارية والدينية والإقطاعية عليه، وكيف خرج من جميع الـمعارك التي خاضها منصوراً مظفراً.
(عزا الزعيم انتصار الـحزب السوري القومي الاجتماعي وتقدمه، على الرغم من مقاومة أعداء الأمة وأعداء أنفسهم، إلى عدة أسباب أهمها: وحدة العقيدة. وحدة الشعب. وحدة القيادة. وحدة العمل. وحدة الـجهاد.)
«أما الـجهاد (قال الزعيم) فليس بالـخطب والقصائد والـمقالات في مأمن من كل خطر. ليس بالقلب وحده، ولا باللسان وحده، ولا بالقلم وحده، ولا باليد وحدها، بل بجميع ذلك. كان جهاد تعرضنا فيه للموت قتلاً مراراً، وللقتل اغتيالاً تكراراً، فما اضطربت نواظرنا ولا ارتـجفت عضلاتنا. سرنا ونسير في جهادنا نقول ونعمل وننظم ونقاتل واثقين بالنصر سواء أكنّا قاتلين أم مقتولين. كم مرة رأيت الـموت مقبلاً إليّ في أشكال مختلفة فما تـجنبته قط، بل أقبلت إليه كما أقبل إليّ، وثبّتُّ نظري فيه كما ثبّت نظره فيَّ، وكنت واثقاً في كل حين أني أسحقه. وكان في كل آن يقطع الرجاء من إيصال الـخوف إلى قلبي أو الشك إلى يقيني فيرتد خائباً ويرجع عوده على بدئه.» (هتاف بحياة الزعيم).
(أوصل الزعيم كلامه إلى العمل القومي في الـمغترب، فقال:)
«كثيراً ما طرق سمعي تساؤل الـمغتربين ماذا يـمكننا، ونحن في الـمغترب، أن نفعل لـخير القضية القومية الاجتماعية؟ ليس لهذا التساؤل غير جواب واحد: إنّ السوريين القوميين الاجتماعيين لهم حقوق واحدة، وعليهم واجبات واحدة حيثما وجدوا. وهذه الواجبات هي أن يكونوا في الـمغترب كرفقائهم في الوطن، واقفين في مراكزهم الـمعيّنة لهم وناظرين إلى القيادة ليتلقوا كل أمر، ويقوموا بكل عمل يوكل إليهم، وجواب كل منهم لكل نداء هو: مستعد.
«إنّ الذين يتوهمون أنهم يتممون كل واجباتهم القومية بدفع الـمرتب الشهري الزهيد، وترك كل ما وراء ذلك، لا يـمكن أن يكونوا رفقاء قوميين بكل معنى هذه الـجملة. وإني أخجل من رفقة أشخاص يتركون تـحمُّل الضيم لسواهم، ويريدون تـحمُّل فخار جهاد لم ينالوا منه ولم ينل منهم شيئاً.
«إنّ واجب القوميين الاجتماعيين الذين تصح عليهم هذه التسمية هو الـجهاد الـمنظم. إنّ القوميين الاجتماعيين في الـمغترب هم أبناء سورية وسورية تطالبهم بشرفها وحقوقها الـمهضومة. إنها تطالبهم بدمها الذي يجري في عروقهم. إنه دم سوري هذا الذي تخفق به قلوبكم. هو من الأمة السورية، والـحق والشرف يقضيان بأن هذا الدم هو للأمـة. والأمـة في محنتهـا العظيمة تطالب جميع أبنائها بدمها، والقوميون الاجتماعيون يجب أن يعلموا أنّ دماءهم وقفٌ على شرف أمتهم وفلاحها وعزها. إنّ دماءهم رهن لا يُفكّ إلا بحريّة سورية وسيادتها ورفعتها.
«لتحيى سورية.»
(فأجاب الرفقاء
- تـحيى
- تـحيى سورية
- تـحيى
- تـحيى سورية
- تـحيى، تـحيى، تـحيى
بهـذه الزوبعـة الروحيـة خُتـم خطـاب الـزعيم. ثم نهض معاليه ودخل غرفة استراحة. وبعد هنيهة خرج وسار يحف به الـمقدمون إلى مائدة أعدت عليها كؤوس شمبان وحلوى سورية من أشكال عديدة. فشرب الـجميع نخب سورية والزعيم والرفقاء الـمجاهدين في الوطن. وانفرط عقد الرفقاء في آخر السهرة والـجميع شاعرون بسمو الـحياة القومية الاجتماعية التي جعلت منهم أمة حية واحدة، بعد أن كانوا مذاهب دينية متباينة وقبائل دموية متنافرة).