في التاسع من شهر ينايـر/كـانـون الثاني الـماضي توفي في هذه العاصمة السيد أمين أرسلان صاحب جريدة الاستقلال.
قدِم السيد أرسلان الأرجنتين قبيل الـحرب العالـمية الـماضية بصفة قنصل عام للسلطة العثمانية في هذه البلاد، وهي وظيفة مكتبية تـجارية ليست من السلك السياسي ولا الدبلوماسي. فلما نشبت الـحرب الـماضية وخاضت تركية غمارها استمالت السيد أمين أرسلان سياسة الـحلفاء فاتفقت معه بعض الصحف على أن يكتب لها مقالات ضد سياسة تركية ودخولها الـحرب ويـمضيها باسم مستعار هو «دبلوماسي». ولكن ما كان يهم سياسة الـحلفاء من السيد أرسلان هو وظيفته وليس الـمقالات التي كان يكتبها. ففي ذات يوم عدلت الـجريدة عن الإمضاء الـمستعار ووضعت في ذيل إحدى الـمقالات إسم أمين أرسلان القنصل العام لتركية في الأرجنتين. فأحدث هذا الكشف الضجة السياسية التي كان يريدها الـحلفاء ويسعى سياسيوهم لاستغلالها. وقامت الصحف في الأرجنتين تفيض في أخبار هذا الـحادث وتصوِّر السيد أرسلان بصورة الوطني والـمحب للعدل والرجل الـخطير الشأن. وكانت الـمعلومات التي أعطاها صاحب الـخبر للصحف عن شخصه ولقب الإمارة الذي كان يضيفه إلى إسمه أشبه شيء بحكايات ألف ليلة وليلة، باعتراف غالب الصحف الأرجنتينية التي ذكرت خبر موته.
كان من وراء انكشاف خيانة السيد أمين أرسلان للدولة التي انتمى إليها جهاراً، وأسندت إليه وظيفة القنصلية في الأرجنتين، أنّ تركية خابرت ألـمانية واتفقتا على أن تتسلم السفارة الألـمانية شؤون القنصلية التركية. فأبى السيد أرسلان، بالاتفاق مع أصحابه، تسليم أوراق القنصلية مثيراً مشكلاً حقوقياً قضائياً. وذلك لاكتساب الشهرة وليستغل الـحلفاء الذين استمالوه، قضية القنصلية التركية إلى أقصى حد مـمكن. فأخذت الصحف تفيض في حادث القنصلية الـمذكورة وتكسبها أهمية كبيرة لتهز بها الرأي العام. وكانت هذه الصحف مضطرة بحكم نهجها وغايتها لإكساب شخص السيد أرسلان خطورة سياسية فدار إسمه في الصحف وعلى الألسن في أوساط الأرجنتين السياسية وغير السياسية.
بناءً على هذه الشهرة وبعد انتهاء مهزلة القنصلية التركية أصدر السيد أرسلان مجلة لا نوطه التي أنشأ لها مقالات عدد من الأدباء الأرجنتينيين وغيرهم. ولكن حدث فيما بعد أنّ أحد موظفي السفارة الفرنسية سابقاً نشر مقالات أماط فيها اللثام عن حقيقة بعض مقالات السيد أرسلان السياسية، وزعم أنّ هذه الـمقالات لم تكن من قلم السيد أرسلان بل من قلم موظف السفارة الفرنسية نفسه.
للأسباب الـمتقدمة ظهر إسم أمين أرسلان في مقالات عديدة في أهم صحف الأرجنتين. ولكن بعد أن لم يعد للسياسة مأرب في استخدام إسمه، أخذت الصحف الـمذكورة تقصيه من نطاق كتّابها واحدة بعد أخرى. وفي الـمدة الأخيرة اقتصرت مقالاته الإسبانية على جريدة المندو البريطانية السياسية وعلى بعض الـمجلات التي تعنى بالاجتماعيات ويهمها نشر أخبار الحريـم في العالم الـمحمدي وغرائب الاجتماع في الشرق، أي الشؤون الغريبة التي تسلّي القُراء وتطلعهم على لـمحات من عوالم أخرى غريبة.
في بداءة الدور الذي لعبه السيد أمين أرسلان في الأرجنتين ظهر ميل في أوساط كثيرة لـجعل أوهام «الوطنية» التي حيكت حول تصرفه الشاذ حقيقة. وكان في مقدمة أصحاب الفكر السياسي والاجتماعي السوريين الذين حاولوا هذه الـمحاولة العلاّمة والوطني الكبير الـمغفور له الدكتور خليل سعاده. فقد أيد الدكتور سعاده فكرة تكريـم السيد أمين أرسلان بسبب الـمظهر «الوطني» الذي أظهرته به الصحافة الأرجنتينية، ووقف في الـمأدبة التي أقيمت للسيد أرسلان سنة 1915 خطيباً محاولاً أن يحوّل الهزل إلى جد والتقلب إلى انقلاب. ولكن الدكتور خليل سعاده أدرك بعد وقت قصير أنه لا يُرجى شيء وطني صحيح، وكتب معلناً استياءه من تقلبات السيد أرسلان وأغراضه السياسية، وغسل يديه من جميع ما قام به السيد أمين أرسلان من الـحركات الشخصية الرامية لاستغلال التعصبات الدينية.
بقي أكثر الناس، حتى مدة قريبة جداً - حتى تناوُل الزوبعة مسألة «الـحي الـمحمدي» التي كان للسيد أرسلان ضلع فيها، ومسألة الـمهاترات بين جريدة الاستقلال والـجريدة السورية اللبنانية - جاهلين الـحقيقة في أمر السيد أمين أرسلان وخيـانته الـمزدوجة، وحاسبين أنّ عمله بخيانة الدولة التي ائتمنته على وظيفة في الـخارج هو وطنية. وحتى الآن لا يزال كثير من السوريين يجهلون حقيقة التأويل الصحيح لتصرّف السيد أمين أرسلان حين كان قنصلاً لتركية في الأرجنتين. والذين يدافعون عن السيد أرسلان لأسباب خصوصية، يقولون إنه انقلب على تركية لينقذ وطنه - سورية - من عبوديتها. وهذا كلام لا مستند له فالسيد أمين أرسلان لم يكن وطنياً سورياً قط. إنه لم يعمل على إنشاء حزب سوري لرفع نير تركية عن سورية، بل انخرط في حزب «تركية الفتاة» الذي أراد رفع طغيان عبدالـحميد وإماتة شخصيات الأمـم التي اجتاحت تركية بلادها وإذابتها في «الشخصية العثمانية». وظهر أنه عثماني صميم لا سوري ولا عربي. وفي الـخطاب الذي ألقاه في الـحفلة التكريـمية الـمشار إليها، قال في عرض الكلام:
«لم يـكن غرضي في ما فعلت (أي عدم تسليم أوراق القنصلية العثمانية إلى القنصلية الألـمانية) الدفاع عن شخصي، بل كانت أمنية نفسي الذب عن وطني العزيز الذي تشرفت بخدمته وتـمثيله (يعني تركية) بيد أني لم أتـمكن من متابعة خدمته وتـمثيله على مثل هذه الـحال الـمحفوفة بالتعاسة والشقاء.»
وسياق خطابه يجعلنا نستنتج أنه ساعده عليه مساعد، لأن لغته وتدامج عباراته العربية ليسا مـما عرفناه في مقالات السيد أرسلان في الاستقلال أو في مراسلاته التي أنشأها بدون مساعدة، وكانت ركيكة العبارة جداً.
لو كان السيد أمين أرسلان وطنياً صحيحاً بكل ما تعني كلمة الوطنية من محبة الوطن الذي حَيِيَ فيه الـمرء وآباؤه وأجداده والشعب الذي أوجد شخصيته في هذا الوطن، لـما كان حسب نفسه تركياً. لأن وطنه سورية وليس تركية ولـما كان انخرط في حزب يخدم مصلحة الأتراك، بل كان عدّ الانخراط في حزب من هذا النوع عاراً وشناراً. وهذا هو الصحيح. فالسيد أرسلان خان الوطنية الصحيحة وترك الأمة السورية، التي كان أحد أفرادها، في محنتها ليكون مع الواقف الـمتمكن من شؤون سورية العزيزة وصار تركياً صريحاً يعدّ وطنه تركية. ثم لـمّا شعر بـمجازفة تركية وبقوة أعدائها خان هذه الدولة خيانة أكيدة قبيحة لا يرتكبها رجل يعرف قيم الأمور. فلا مبرر قط لـخيانة الوظيفة التي كان السيد أرسلان مؤتـمناً عليها. فإذا أراد إظهار عدم رضاه عن سياسة الدولة التركية، فالطريقة الشريفة لذلك، هي الاستعفاء من الوظيفة، ثم إعلان الـحرب على سياسة الدولة. أما البقاء في الوظيفة وقبض معاشها والتمتع بالامتيازات التي تـمنحها، ثم كتابة الـمطاعن بإمضاء مستعار في الدولة وسياستها، فخيانة صريحة من نوع حقير. نقول ذلك والألم يحز أنفسنا. لأنه يؤلـمنا أن نرى سورياً، كبيراً كان أم صغيراً، يهبط إلى هذا الدرك ويـمثّل أخلاقنا أمام الأجانب هذا التمثيل القبيح، إننا لا نشتهي هذا الانحطاط لألدّ أعدائنا، ونريد أن نرفع رأسنا بأخلاق خصومنا السياسيين كما نرفعها بأخلاق رفقائنا وأصدقائنا. ونحن لا نسجل هذه الـحقائق من أجل شماتة. كلا، وألف كلا. بل نسجلها لاستخراج العبر وإيضاح الـمبهم. وقد قلنا رأينا في السيد أرسلان ومواقفه الأخيرة التي هي حلقات من سلسلة طويلة من نوع أخلاقي واحد والسيد أرسلان حيّ بعد ينظر ويسمع ويقرأ ويكتب.
كان السيد أمين أرسلان في مركز اجتماعي يؤهله لأن يكون مفيداً جداً في تطوير شؤون السوريين الـمغتربين في الأرجنتين نحو التضامن القومي، وإحلال العصبية القومية محل العصبية الدينية، والإخاء الوطني محل النزعة الإقطاعية. كان يـمكنه أن يكون، من هذا القبيل، كما هو سميّه السيد أمين مصطفى أرسلان، الذي شاع من مدة قريبة خبر اعتقاله في الوطن. ولكن أمين الـمغترب كان رجعياً بكل معنى الكلمة. فقد تـمسك بنزعة إقطاعية ظاهرة وعاش في الأرجنتين محيطاً نفسه بعظمة فارغة، إستغلّ لها ما كتبته عنه الصحف أثناء حادث القنصلية ولقب الإمارة، وأخذ يحوك في أحاديثه، القصص الـخرافية عن أصل عائلته وخطورة شأنه الـخاص في سياسة تركية وفي الـمسائل الإنترناسيونية. وقد سلك في الشؤون السورية مسلك إبن عمه السيد شكيب أرسلان. فبينما هو يريد الـمحافظة على عصبية الـجماعة الدرزية إذا به يتظاهر بالإسلام الـمحمدي والغيرة على هذا الدين. وسلك في «وطنيته» السورية مسلكاً دينياً بحتاً وأيّد السياسة الـمذهبية والإنشقاق القومي بين محمديين ومسيحيين، وكان به ميل كثير الوضوح أو قليله للخلط بين الدرزية والـمحمدية، وعدّ الدروز «شيعة محمدية». وهو ما يذهب إليه إبن عمه شكيب أرسلان لكي لا يخسر تأييد الدروز اليزبكيين له في مطامحه السياسية الـمعتمدة على النعرة الدينية.
على عكس هذا الأرسلاني وابن عمه شكيب هو الأمير أمين إبن الأمير مصطفى أرسلان الذي أشيع أنه سجن في الـمدة الأخيرة. فهذا الأرسلاني الكبير هو رجل شهم واسع الـمدارك وفيه وطنية صحيحة جعلته قريباً إلى جميع العاملين في القضية السورية، فهو صديق للكتليين، وفي الوقت عينه هو من كبار الـمحبّذين للحركة السورية القومية الاجتماعية، وسمح لقرينته الـمرحومة حرية أرسلان بالانخراط في الفرع النسائي للحزب السوري القومي ولم ينضم هو نفسه فعلياً إلى هذا الـحزب بسبب شيخوخته التي أصبحت تـحرمه المقدرة على ضبط الأمور.
كانت تعاليق أهم الصحف الأرجنتينية على وفاة السيد أمين أرسلان بـمعنى أنه كان شخصاً يـميل إلى الأوهام والـخرافات والـمبالغات الغريبة ورواية قصص عن حياته تشبه حكايات ألف ليلة وليلة. هذا التشبيه ورد في أكثر من صحيفة. فمما قالته جريدة لا ناسيون العالـمية، التي كان وكلاؤها في الأرجنتين يتعهدون مصالح مجلة السيد أرسلان الـمسماة لا نوطه ما يأتي: «إنّ رواياته الشجية والغريبة كانت تـحرك خواطر السامعين من أدباء العاصمة.» وزادت هذه الصحيفة قائلة: «كل شيء فيه كان يحيط شخصه بـمظهر النفوذ وبالغرابة وبالـخرافي، من نسبه الذي يكاد يكون شيئاً موهوماً إلى ذكر حياته في تركية وسط الدسائس والعروش الـمندكة. وكان هو نفسه يتلذذ شخصياً برواية تلك النوادر بصبغة ألف ليلة وليلة، التي يحتمل أن تكون مخيلته الشرقية - وهنا يؤدي هذا النعت معناه الكامل - قد أضافت إليها تفاصيل إنشائية، ولكنها كانت نوادر وتفاصيل مبنية على بعض فصول لا يـمكننا نحن الغربيين مطلقاً إدراك كنهها.»
أما جريدة لا برنسا الشهيرة فقد اقتصرت على تعداد بعض النوادر التي كان يرويها السيد أرسلان عن نفسه وكيف أسس جريدة تركية الفتاة في باريس بالاشتراك مع بعض أبناء قومه الذين اتـحدوا في جمعية وطنية إسمها: الفتيان الأتراك. وكيف أنه بـمواعظه الـمستمرة أثّر تأثيراً محسوساً في توجيه شعبه (يعني الأتراك) نحو الديـموقراطية وكيف أنه لذلك طلب إليه التعاون مع رجال السلطة الـجدد الذين صاروا في الـحكم بعد انتصار الثورة لإنشاء وتنظيم العلاقات الدبلوماسية مع الأمـم الأوروبية والأميركية، الخ. ومع كل رصانة لا برنسا لم يـمكن هذه الـجريدة تـجنب الإشارة إلى «السحر الشرقي» في حكايات السيد أرسلان. وأما جريدة نتيسيس ترافكس فعنوان التعليق يدل على مضمونه وهو هكذا: «كان الأمير أمين أرسلان بين ظهرانينا شخصاً يكاد يكون خرافياً.»
في بعض هذه الصحف خرافيات كثيرة من مرويات السيد أرسلان عن اتصال نسبه بهارون الرشيد، وغير ذلك، وفي مسألة النسب وخرافاته يجاري كثيراً إبن عمه شكيب الذي انتهز فرصة وجوده في الوطن سنة 1937 فحمل نسباً كان صنفه لعائلته إلى دار القضاء الشرعي الـمحمدي، وأخذ له إمضاء صديقه قاضي قضاة الـمحكمة الشرعية الشيخ مصطفى غلاييني، على سبيل الإثبات لصحته وفعل مثل ذلك عند قاضي محكمة حلب الشرعية.
هذا هو كل الـميراث الأدبي أو الفكري الذي خلّفه السيد أمين أرسلان في الـجمهورية الفضية، عدا عن بعض ترجمات إسبانية لبعض حوادث التاريخ الـمحمدي وما شاكل. أما الـميراث الذي تركه للنزالة السورية في الأرجنتين فهو الرجعة إلى التعصبات الدينية والنظام الإقطاعي والتقلب في التيارات السياسية. وكان عمله من هذه الناحية منحصراً في كتابة جريدته الاستقلال.
كان الرجل قادراً على أن يسلك مسلك التقارب الروحي بين أبناء سورية الـمغتربين في الأرجنتين وغيرها، وتبادل الاحترام مع الشخصيات السورية العاملة بإخلاص لـمستقبل أفضل لسورية وللعالم العربي. ولو فعل لأفاد أبناء الأمة التي كان ينتسب إليها ولترك أثراً جميلاً يبقى على الأيام. ولكنه أبى إلا أن يحيط ذاته بعظمة خرافية وأن يقدّم النظرة الإقطاعية على الـحاجة القومية، وأن يجعل النفوذ الشخصي والعائلي غايته القصوى من كل عمل.