بهذا الاتـجاه الـجديد يـمكن أن يترافق الأدب والـحياة، فيكون لنا أدب جديد لـحياة جديدة فيها فهم جديد للوجود الإنساني وقضاياه التي نـجد فيها الفرد والـمجتمع وعلاقاتهما ومثلهما العليا كما تراها النظرة الـجديدة الأصلية إلى الـحياة والكون والفن. إنّ الأدب الصحيح يجب أن يكون الواسطة الـمثلى لنقل الفكر والشعور الـجديدين، الصادرين عن النظرة الـجديدة، إلى إحساس الـمجموع وإدراكه، وإلى سمع العالم وبصره، فيصير أدباً قومياً وعالـمياً لأنه يرفع الأمة إلى مستوى النظرة الـجديدة ويضيء طريقها إليه، ويحمل، في الوقت عينه، ثروة نفسية أصلية في الفكر والشعور وألوانهما إلى العالم.
لا يـمكن أن ينهض الأدب عندنا، ولا أن يصير لنا أدب عالـمي يسترعي اهتمام العالم وتكون له قيمة عالـمية باقية، إلا بهذه الطريقة. ولنفترض أنه يـمكن إنشاء أدب جديد، أو إحداث «تـجديد» في الأدب، من غير هذا الاتصال الوثيق بينه وبين النظرة الـجديدة إلى الـحياة والكون والفن، فما هي الغاية أو الفائدة منه وهو شيء غريب بعيد عن نفس الـجماعة وقضاياها الفكرية والشعورية، أو عن قضايا الإنسانية، كما تـمثل ضمن حياة الـجماعة الـمعينة وحيّز فكرها وشعورها، في أرقى ما يـمكن أن يصل إليه هذان العاملان النفسيان.
إنّ الأدب الذي له قيمة في حياة الأمة، وفي العالم، هو الأدب الذي يعنى بقضايا الفكر والشعور الكبرى، في نظرة إلى الـحياة والكون والفن عالية أصلية، مـمتازة، لها خصائص شخصيتها. فإذا نشأت هذه النظرة الـجديدة إلى الـحياة والكون والفن أوجدت فهماً جديداً للقضايا الإنسانية، كقضية الفرد والـمجتمع وقضية الـحرية وقضية الواجب وقضية النظام وقضية القوة وقضية الـحق وغيرها. وبعض هذه القضايا يكون قديـماً فيتجدد بحصول النظرة الـجديدة إلى الـحياة وبعضها ينشأ بنشوء هذه النظرة. فالـحرية، مثلاً، كانت تُفهم قبل النظرة الـجديدة إلى الـحياة في أشكال واعتقادات لا وضوح ولا صلاح لها في النظرة الـجديدة. فلما جاءت النظرة الـجديدة إلى الـحياة والكون والفن، التي نشأت بسببها الـحركة السورية القومية الاجتماعية، وقرنت الـحرية بالواجب والنظام والقوة، وفصّلت الـحرية ضمن الـمجتمع وتـجاه الـمجتمعات الأخرى هذا التفصيل الواضح، الظاهر في تعاليمها، نشأت قضية جديدة للحرية ذات عناصر جديدة يبينها فهم جديد يتناول أشكال الـحياة كما تراها النهضة القومية الاجتماعية، وفعل الـحرية وشأنها ضمن هذه الأشكال. والـحب كان قضية شهوات جسدية ملتهبة لها شكل مادي يظهر في العيون الرامية سهاماً وفي خمر الرضاب وفي ارتـجاف الضلاع وتثني القدود، فصار قضية جمال الـحياة كلها واشتراك النفوس في هذا الـجمال. عرض عليّ، مرة، سجلّ أمثال وأقوال فرأيت فيه قولاً مفاده أنّ الصداقة أجمل ما في الـحياة، فكتبت في صفحة منه: «الصداقة هي تعزية الـحياة، أما الـحب فهو الدافع نحو الـمثال الأعلى.» ومهما يكن من أمر رأيي في الصداقة فرأيي في الـحب يدخل في قضية الـحب الـجديدة. فالـمثال الأعلى هو ما تراه نظرة إلى الـحياة والكون والفن واضحة، معينة. والـحب الواعي هذه النظرة يتجه دائماً نحو مثالها الأعلى ويرمي إلى الاقتراب منه، في كل اختلاجة من اختلاجاته. إنّ قضية كون الوصال غاية الـمطالب العليـا النفسية هي قضية قد ماتت للنظرة الـجديدة إلى الـحياة والكون والفن وحلّت محلها قضية كون الـحب اتـحاد فكر وشعور، واشتراك نفوس في فهم جمال الـحياة وتـحقيق مطالبها العليا.
لقد نشأت نظرة إلى الـحياة والكون والفن جديدة في سورية ونتج عنها مجرى حياة جديد لتيارات النفس السورية التي كانت مكبوتة ومحجوزة. فهل يتنبه لهذه الـحقيقة أدباء سورية، وخصوصاً شعراؤها، ويلبّون هاتف الدعوة ويشتركون في رفع الشعب السوري إلى مستوى النظرة الـجديدة ومثلها العليا، ويوجدون هذا الأدب الغني بالقضايا الفكرية والشعورية التي كانت كامنة في باطن نفسيتنا حتى ظهرت في النظرة الـجديدة إلى الـحياة؟
لا شك عندي في أنّ هذا ما يحدث الآن عند جميع الأدباء الذين اتصلوا بالنظرة الـجديدة إلى الـحياة والكون والفن، وفهموا قضاياها الكبرى في الـحقوق والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وفي الأخلاق والـمناقب والـمثل العليا. وإني موقن بأن هذا ما سيحدث لـجميع الناشئين على اتصال وامتزاج بهذه النظرة الـمحيية. ولكني أشك في أمر الأدباء الذين نشأوا قبل ظهور النظرة الـجديدة إلى الـحياة وظلوا بعيدين عن مراميها وقضاياها الكبرى وغير متصلين بـمجرى الـحياة الـجديد الذي ولدته هذه النظرة، أو الذين، مع إحساسهم بـمجرى الـحياة الـجديد، لم يجدوا في نفوسهم قوى كافية لنقلهم من حيّز نظرة إلى حيّز نظرة أخرى، ومن اتـجاه مجرى إلى اتـجاه مجرى آخر.
بعض العلل الـمانعة لهؤلاء الأدباء من الأخذ بالنظرة الـجديدة إلى الـحياة والكون والفن واضح في النزعة الفردية التي دللت عليها في كتاب السيد يوسف الـمعلوف إلى نسيبه الشاعر، شفيق معلوف، إذ يقول له:
«إعتنِ في مؤلفاتك الـمقبلة أن تكون مبتكراً فيما تنزع إليه، سواء كان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلَّداً لا مقلِّداً في سائر أعمالك، لأن على هذه القاعدة الأساسية تتوقف شهرة الـمرء في الـحياة.»
وقد بيّنت في صدر هذا الدرس، غلط هذا التفكير الذي يجعل الشهرة الشخصية غاية الفكر والعمل في الـحياة. وأزيد هنا أنّ العمل بهذه «القاعدة الأساسية» التي وضعها عم الشاعر الـمذكور يؤول إلى هدم الـحقائق الأساسية التي يجب أن تكون بغية كل تفكير تعميري وكل شعور حي، جميل، لأنه متى صار كل نابه يسعى ليكون مقلَّداً، فكم تكون التفرقة والفوضى عظيمتين بين الـمتزاحمين على «الابتكار» بقصد الشهرة والاستعلاء على زملائهم، الذين يصيرون أنداداً؟ ألا يبلغ بهم التزاحم والـمناقضة حد العداوة والبغضاء والـحسد الـمستورة بظواهر شفافة من الرياء والتدجيل في الـمظاهر والـمطالب؟
قلت في ما تقدم إنّ شفيق معلوف قَبِل القاعدة الفردية التي وضعها عمه، ولكنه لم يتقيد بها كل التقيد، لأنه احتاج إلى تبرير مجاراته سواه في شعره فقال: «ولئن طرقت باباً ولـجه سواي فهل في كل ما تتناوله القرائح ما لم يطرق الناس بابه؟» وقلت أيضاً إنّ شفيق معلوف كاد يصل، من هذه الناحية، إلى طرق باب ينفتح عن أفق تنبلج فيه أنوار فجر تفكير أصلي جديد ولا يقصر إلا خطوة أو قفزة واحدة ليلج هذا الباب. فما هي هذه الـخطوة أو القفزة وكيف تكون؟
سبق لي القول إنّ الـخطوة الـمطلوبة تفصل بين عالـمين وقد تـحتاج لعكاز. ذلك لأنها تنقل صاحبها من نفسية إلى نفسية ومن نظرة إلى نظرة، فيصير لها عالم جديد بأشكاله وألوانه وغاياته ومثله. الـخطوة أو القفزة الـمطلوبة تكون باستعمال جميع القوى النفسية لرفس عالم النزعة الفردية والغايات الـمادية، وترك جعل حب إبراز الشهرة الفردية غاية أخيرة للفرد، والقفز إلى عالم ابتغاء الـحقيقة الأساسية الكبرى التي يستقر عليها الفكر ويطمئن إليها الشعور، واتّباعها حين توجد، سواء أوجدت بالاهتداء الذاتي أم بهدي هاد. هي حقيقة الفرد والـمجتمع وحقيقة النفسية السامية التي انتصرت على قيود الـمادية الـمجلجلة في الـحضيض وحلّقت إلى السماء - السماء التي لا تخلو من ألم وعذاب ولكن ألـمها وعذابها ليسا من أجل الشهوة الـمتلظية في الـمهج، بل من أجل ما هو أسمى من ذلك بكثير - من أجل ما لو أطفىء لظى الشهوة الـجسدية وقضت النزعة البيولوجية وطرها لظل لظاه يلذع النفوس ويعذبها حتى تـجد له تـحقيقاً - من أجل خذل الأقبح والأسفل والأرذل والأذل، ورفع الأجمل والأسمى والأنبل والأعز، فلا تكون هنالك اختلاجات حب إلا ضمن دائرة هذا الوعي الذي يرفع قيمة الإنسانية طبقات جوية فوق القناعة براحة النزعة البيولوجية ذات الارتباط الـمادي، الغافلة عن الـمطالب النفسية الـجميلة في نظرة شاملة الـحياة والكون والفن.
القاعدة الذهبية، التي لا يصلح غيرها للنهوض بالـحياة والأدب، هي هذه القاعدة: طلب الـحقيقة الأساسية الكبرى لـحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى. لا فرق بين أن تكون هذه الـحقيقة ابتكارك أو ابتكاري أو ابتكار غيرك وغيري، ولا فرق بين أن يكون بزوغ هذه الـحقيقة من شخص وجيه اجتماعياً ذي مال ونفوذ، وأن يكون انبثاقها من فرد هو واحد من الناس لأن الغرض يجب أن يكون الـحقيقة الأساسية الـمذكورة، وليس الاتـجاه السلبي الذي تقرره الرغائب الفردية، الـخصوصية، الاستبدادية.
وقد قرب شفيق معلوف كثيراً من هذه القاعدة في جوابه إلى عمه ولكنه وقف خطوة دونها، فإذا هو خطاها تـم له هذا الانتقال الفاصل من عالم إلى عالم واستغنى عن نصائح عمه، التي تـحتاج لغربلة متكررة، وعن إرشادات أمين الريحاني الغامضة، الـخاوية، التائهة وعن تخبط الأدباء السوريين والـمصريين في «التجديد» وكيف يكون.
أعتقد أنّ لشفيق معلوف هذا الاستعداد العقلي - الروحي لإدراك القاعدة الـمذكورة آنفاً والغاية النفسية الأخيرة التي يقوم عليها أدب خالد. فهو قد وقف قريباً جداً من هذا الإدراك الذي وقف معظم شعراء سورية ومصر وأدبائهما بعيدين جداً عنه. وهو الإدراك الوحيد الذي يـمكن أن يجد مستقراً في النفوس وفي الأجيال. وكان اقتراب شفيق معلوف واضحاً في قوله: «إذ ليس الشاعر، في عرفي، من ضج له الـجيل الواحد، حتى إذا تبدلت الأوضاع واختلفت الأحوال تناسته من بعده الأجيال.» وهذه منزلة لا يـمكن بلوغها إلا بالاتصال بنظرة جديدة إلى الـحياة والكون والفن مشتملة على حقيقة أساسية صالـحة لإنشاء عالم جديد من الفكر والشعور، إذا لم يكن هو العالم الأخير، الأسمى على الإطلاق، عند الـمشككين، فهو عالم فوق العوالم الـماضية ودرجة لا بد منها لاطراد ارتقاء الإنسانية النفسي، ولذلك هو عالم خالد، لأن ما سيأتي بعده في الآباد البعيدة سيصدر عنه ويثبت نفسه عليه، أو، على الأقل، ستكون النفوس التي ارتقت إلى هذا العالم الـجديد مستعدة لاقتبال عالم أجد، إذا كشفت مخبآت الأبد أنه سيكون مـمكناً إحداث ذلك العالم، الذي لا يـمكننا، الآن وإلى أمد بعيد، تصور موجباته وحقائقه وقضاياه، ولكننا نتصور، بـموجب مبدأ الاستمرار والاطراد الفلسفي، الذي أضعه نصب عيني في فهمي الوجود الإنساني، أنه لا بد من أن يكون ذا اتصال وثيق بعالم نظرتنا الـجديدة وحقائقه وقضاياه، كما أننا نرى، بـموجب هذه النظرة، أنّ عالـمها ليس شيئاً حادثاً من غير أصل، بل شيئاً غير مـمكن بدون أصل جوهري تتصل حقائقه بحقائقه، فتكون الـحقائق الـجديدة صادرة عن الـحقائق الأصلية القديـمة بفهم جديد للحياة وقضاياها والكون وإمكانياته والفن ومراميه.
ها قد بلغت غاية ما أردت توجيه فكر أدباء سورية وشعورهم إليه في هذا الدرس الـمستعجل، الـمقاطع مراراً عديدة في سياقه. ورجائي إليهم أن لا يظنوا أنّ ما دفعني إليه هو محبة سبقهم إلى «الابتكار» أو رغبة في أن أكون «مقلَّداً». إنّ ما دفعني إليه هو محبة الـحقيقة الأساسية، التي وصل إليها تفكيري ودرسي، وأوصلني إليها فهمي، الذي أنا مديون به كله لأمتي وحقيقتها النفسية، وشعرت بالواجب يدعوني لوضعها أمام مفكري أمتي وأدبائها وأمام أمتي بأجمعها، من أجل ما هو أبقى وأفضل وأسمى لـحقيقة الأمة. وهي حقيقة تساعد كل مفكر وأديب على تثبيت شخصيته ضمنها والبقاء فيها، وتـمكن الأمة من أن يكون لها أدب عالـمي تبقى فيه شخصيتها وتخلد.