تقديـم البحـث في الزوبعــة
نشرت مجلة العصبة التي كانت تصدر في سان باولو، البرازيل، في عددها الصادر في فبراير/شباط سنة 1935 ثلاثة كتب تدور على ديوان الأحلام للشاعر شفيق معلوف نزيل سان باولو، البرازيل، وقد لفت نظري الاحتكاك والتصادم الفكريان في الشعر وأغراضه اللذان أثارهما ظهور الأحلام ورأيت أنهما يفتحان الباب لبحث يجب أن يحيا ويجد اهتماماً كبيراً في دوائر التواقين إلى الـمعرفة والفهم والراغبين في الارتقاء الثقافي الذي يـمكّن الأمـم من إبراز أفضل مواهبها والصعود إلى قنة مجدها. وإلى القارىء الكتب الـمذكورة وتعليق الشاعر الأخير عليها حين سلّمها للنشر، كما وردت في مجلة العصبة المحتجبة:
- 1 -
من كتــاب الريحــاني
عن الفريكة في 12 نيسان/أبريل 1926
عزيزي شفيق المعلوف حفظه الله
أشهد أنك شاعر. ولكنك في الأحلام بعيد عن كنه الـحياة والـمقاصد الكبرى فيهـا. قـد كـانـت هـذه اللهجـة - لهجـة الكآبـة والـحـزن - «موضة» فـي زمن
... أما ما ذكرتـموه عن الأحلام فقد أعرته كل اهتمامي منزّلاً رأيكم من نفسي أجلّ منزلة، وأما أن أكون «مقلَّداً (بفتح اللام الـمشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالي» فهذا ما طمحت إليه منذ ترعرعت ونشأت. فكنت راسخ العقيدة في وجوب تـجديد الشعر العربي وبثّ روح حديثة فيه، ولئن طرقت باباً ولـجه سواي فهل في كل ما تتناوله القرائح ما لم يطرق الناس بابه؟ وهل إذا اتفق لرسام إبـراز صـورة عالـجهـا من قبله آخـرون فاستحدث لها ألواناً وابتكر لها رموزاً وأشكالاً نقوم فننكر عليه فنه وابتكاره، لأن الصورة حملها قبل لوحه لوح وخطرت لسواه في مخيلة؟
أمّا أن أترك في شعري «الـخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة، وأطرق الـمواضيع الـحيوية والعمرانية» فلا أخفي عنك يا سيدي العم الكريـم، مع احترامي لرأيك الأعلى، أنّ لي رأياً آخر في الشعر. فهو في عرفي ذلك الشعور النابض يصور للناس نفوس الناس، ولا تتعدى فائدته - في أحايين كثيرة - منفعة يصيبها الـمرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية. وقد أكون على خطأ من الوجه العالـمي النافع، ولكنني على حق من وجهة الفن الـخالد.
إنّ للوطن كتّابه وصحافييه وله أقلامهم الـمرهفة وقرائحهم الـمشحوذة. أما أن يسير الشاعر مع الـحالات الطارئة فيبعث من حوله ضجيجاً يزول بزوال تلك الطوارىء، فهذا ما لا أسلّم به، إذ ليس الشاعر في عرفي من ضج له الـجيل الواحد حتى إذا تبدلت الأوضاع واختلفت الأحوال تناسته من بعده الأجيال.
أنا عالم أنّ الشرق لا يحتاج إلى الفن حاجته إلى الـمواضيع الـحيوية العمرانية، ولكن هذه الـمواضيع ترتبط بالزمان، يا سيدي العم الكريـم، وأنا من هواة الشعر الـخالد الذي لا يرتبط بالأزمنة...
الـمخلص
شفيق معلوف
- 4 -
حاشية - في 22 شباط/فبراير سنة 1935
مضـى على هـذه الكتب الثلاث زمن غير قصير، ولو طلب إليّ الآن رأيي في ما أنكره عليّ الكاتبان الكبيران من الكآبة والشكوى في قصيدة الأحلام، لأنكرت معهما على نفسي ذلك الأسلوب، لو أنّ الأحلام كانت من منتوج العهد الـحاضر. أمّا وهي قد نظمت في زمن لم أكـن قد جاوزت فيه الثامنة عشرة من العمر، تـحت تـأثير طـور الفتـوة الـمكتنـف بالظلمات والـحيرة وقلق النفس، فإنني أراها صورة حقيقية لنفسيتي في ذلك الـحين، كما يصح أن تكون صورة لنفسية معظم الفتيان، وهذا ما يحببها إليّ ويجعل لها قيمتها في نظري.
شفيق معلوف
أعتقـد أنّ الـموضـوع الـذي طرقتـه الكتب الثلاث لا يجوز أن يبقى في هذه الـحدود الأولية التي ورد فيها، فالـمعاني فيها كلها نتف مقتضبة لا تسد حاجة ولا تشفي غليلاً. وإذا كان يشفع في اقتضابها أنها كتب خصوصية فلا يشفع شيء بالـمرور بها دون تناولها بالدرس وتـمحيص الأفكار الواردة فيها. ولا أعتقد الـحاشية التي ضمّنها الشاعر تعليقه على كتابي منتقدي ديوانه بالغة الغاية التي يـمكن أن تطمئن إليها نفسُ من لا يقنع من عظمة البحر بوشل ولا من سعة الأفق بحيّز حدده الـمستوى الداني الـماضي.
لا أطمح إلى قول كل ما أود قوله في الأدب وفي الفن في أبعد ما أمكن ويـمكن النظرة الإنسانية العليا بلوغه، وجميع ما ينطوي تـحت ذلك من أشكال وألوان، في عجالة أكتبها في صحيفة تلح عليها الـمطاليب السياسية وحاجات التفكير القومي في القضايا الاجتماعية - الاقتصادية، تـحت ضغط الظروف الـحاضرة التي تـحمّلني من أعبائها ما لو زاد أكثر من نسبة قشة التبن إلى الوقر لأرهقني وأرزحني. ولكني لم أجد بدّاً من قول شيء في الـموضوع لإبقائه حياً ولترغيب الأدباء في الإقبال عليه، ولا مندوحة عن إبداء بعض ملاحظات خطرت لي فور قراءتي الكتب الـمثبتة آنفاً.
أبدأ بكتاب الريحاني. إنّ فيه مواضع تـحتاج إلى تدقيق كثير. وألاحظ أنّ في هذا الكتاب تعميماً وإطلاقاً يجرفان الكثير من التفاصيل التي تبقى الـحقيقة الكبرى الأساسية ناقصة نقصاً كبيراً بدونها، ويظل الفكر قلقاً لا يجد استقراراً واطمئناناً إلا بوجودها وجلائها.
نظر الريحاني في الأحلام فوجده ديواناً تسوده «لهجة الكآبة والـحزن» ووصف هذه «اللهجة» بأنها كانت «موضة» في أيام بيرن وميساه. وليس ديوان الأحلام في متناول يدي لأقابل هذا الوصف عليه وأجد كم فيه من تدقيق. ولكني أذكر أني قرأت هذا الديوان قراءة مستعجلة من نحو أربع عشرة سنة، أو يزيد، وأذكر أنّ التأثير الذي أحدثه فيَّ هو تأثير نبضات الإحساس الأول وقد انقشعت حجب الـمراهقة عن قزحية الشـبـاب فتمـازجت فيها الأشـواق والرغبـات التي اتخـذت صـوراً من الـجمـال قوية ولاذعة أحياناً، ولكنها صور ظهرت فيها شاعرية جديرة بأن تـحل موضعاً مكيناً في النفـوس وفي الأجيال. ومع ذلك فلا بد من القول إنّ تعبير «لهجة الكآبة والـحزن» الذي أطلقه الريحاني هو من التعميمات التي لا تفيد كثيراً في دراسة معينة أو مختصة بـموضوع معين. وهو بعيد كل البعد عن تناول الوجهة النفسية وأسبابها.
ومن هذا القبيل انتقاله من مخاطبة صاحب الأحلام إلى مخاطبة جميع الشعراء السوريين فيقول لهم «اقرأوا أشعيا بدل أن تغمسوا أرواحكم في دموع إرميا. عودوا إلى شكسبير وغوته بدل أن تـحرقوا أصابعكم ومآقيكم في مراجل ميساه وبيرن.» ولو كان قيل هذا الكلام في غير معرض النظر في ديوان الأحلام لكان إطلاقه هذا الإطلاق غير الـمحدود يجد موضعاً أمنع من موضعه الـحاضر، لأنه يكون حينئذٍ كلاماً عمومياً يفهم منه من شاء ما يشاء، أما في موضعه الـمذكور فهو قليل الـمحصل. ولا يزيد الـمحصل من كلام الريحاني قوله،
إنّ الشاعر ليس «زنبقة في جمجمة»، ولا قوله: «إنـما الشاعر الـحقيقي مرآة الـجماعات ومصباح في الظلمات وعون في الـملمات وسيف في النكبات. الشاعر الـحقيقي يشيد للأمـم قصوراً من الـحب والـحكمة والـجمال والأمل.»
هذا الكلام الأخير الذي يحاول الريحاني أن يخرج به من السلبية الصكراتية (السقراطية) إلى النظرة الإيجابية يزيد التعميمات السابقة تعميماً. ويـمكن أن يحسب من قبيل الـمعميات وليس فيه أدنى اقتراب من شجون الـموضوع التي لكل شجن منها اتـجاه خاص.
الـحقيقة أنّ هذا الكلام لا يتعلق بديوان الأحلام بقدر ما يتعلق بالشعر والشاعر على الإطلاق. وهو مرسل إرسالاً لا تـحقيق فيه ولا تدقيق، وليست فيه حقيقة أساسية واحدة يصح اعتمادها «لتشييد قصور من الـحب والـحكمة والـجمال والأمل» للأمـم التي تهدمت قصورها أو لم يكن لها قصور. فإني لا أعتقد أنّ شعراء سورية يصيرون غير ما هم بقراءة سفر أشعيا وترك قراءة سفر إرميا. والعودة إلى شكسبير وغوته وحدها لا تفيد كثيراً إذا لم تكن هنالك ثقافة واعية فاهمة تتبع خطط النفس السورية. وماذا استفاد أدب اللغة العربية كله من عودة الشاعر الـمصري شوقي إلى شكسبير غير النسخ والـمسخ والتقليد الذي لم يضف إلى ثروة الأدب العالـمي مقدار حبة خردل؟
أما قـول الريحاني «الشاعر الـحقيقي مرآة الـجماعات ومصباح في الظلمات» فقلـت إنه من قبيـل الـمعميات ولم يصعـد بـنا درجـة واحـدة فوق قول جبران «الشاعر زنبقـة في جمجمـة» فمرآة الـجماعـات لا يكـونها الشـاعر وحـده أو كل شاعر، وقد قال الدكتور خليل سعاده: «صحافة كل أمة مقياس ارتقائها، وصورة أخلاقها، ومظهر شعورها، وعنوان مجدها، فهي الـمرآة التي ترى بها الأمة نفسها»، ومصباح الظلمات يكونه الفيلسوف والفنان والأديب والشاعر والقائد والعالِم، وكذلك «عون في الـملمات وسيف في النكبات.» ويكونه كل واحد من هؤلاء بطريقة خاصة. وفي هذه الـحقيقة يكمن سر لا يجلوه كتاب الريحاني ولا شيء مـما كتب الريحاني. فقد عاد الريحاني إلى هذا الـموضوع في كراس عنوانه أنتم الشعراء قبّح فيه البكاء والعويل تقبيحاً كثيراً، ولكنه لم يعطِ الشعراء درساً واحداً يوجههم توجيهاً جديداً، لأن كلامه كان كله من هذا النوع الغامض الـمشوش الذي يشبه دعوة الداعين إلى الاتـحاد القومي من غير فهم أو تعيين لـما هي القومية وما هي مقوماتها.
أترك كتاب الريحاني عند هذا الـحد، وأنتقل إلى كتاب السيد يوسف نعمان معلوف. والذي أراه في هذا الكتاب أنه يشتمل على آراء فجة، أو مبتسرة، مستمدة من الـحياة الأميركانية العملية ذات الطابع الأنكلوسكسوني، وليس فيه شيء من العمق لـخلوه من النظرة الفلسفية أو التاريخية. وهذه الآراء الواردة فيه هي مزيج من نزعة فردية ورغائب عملية وأحكام عامة استبدادية، كقوله «فمنه (الشرق) أوحيت الأديان وظهر الأنبياء ونشأت خيالات الأرواح على تعدد منازعها وكثرة معتقداتها، فكان شراً في الـحياة على نفسه وعلى غيره.»
تظهر النزعة الفردية بجلاء في قوله:
«إعتنِ في مؤلفاتك الـمقبلة أن تكون مبتكراً فيما تنزع إليه، سواء كان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلَّداً (بفتح اللام الـمشددة) لا مقلِّداً (بالكسر) في سائر أعمالك، لأن على هذه القاعدة الأساسية تتوقف شهرة الـمرء.»
فكأن الشهرة الفردية صارت الغاية الأخيرة الـمتوخاة من الفكر أو العمل، وكأن أهم شيء في طبيعة الفكر أو العمل أن يكون الـمرء غير تابع غيره وأن يكون متبوعاً. وهي قـاعـدة فـرديـة بحتة لعل الدافع إليها أنّ الـمتكلم عم الـمخاطب ويهمه أمره الشخصي، استمساكاً بعروة القرابة الدموية التي تنزع إلى الـمباهاة والـمفاخرة، كما هو مشهور في قبائل العرب. ومع أنّ الـمخاطب، وهو الشاعر الـمنتقد، قبل هذه الفكرة الفردية في جوابه إلى عمه فهو لم يتقيد بها كل التقيد الظاهر في كلام عمه فألقى عليه هذا السؤال: «ولئن طرقت باباً ولـجه سواي فهل في كل ما تتناوله القرائح ما لم يطرق الناس بابه؟» وهو سؤال يكاد يصل إلى طرق باب ينفتح عن أفق تنبلج فيه أنوار فجر تفكير أصلي جديد، ولا يقصر إلا خطوة أو قفزة واحدة ليلج هذا الباب. ولكنها خطوة أو قفزة تفصل بين عالـمين وقد تشبه نوعاً القفز فوق العارضة العالية أو السور بالاستعانة بعكاز طويلة خاصة بهذا الغرض.
والرغـائب العملية هي التي تـجعل عم الشاعر يقول له هذا القول: «وقبل كل شيء أترك الـخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة واطرق أبداً الـمواضيع الـحيوية والعمرانية، الخ.» فمحصل كلامه أنّ الـخيال هو دائماً لا روح ولا حقيقة فيه، وأنّ الشعر هو كله خيال. وهنا يتحول انتقاده الشاعر إلى نوع من تقبيح الشعر والإشارة على نسيبه بوجوب تركه والانتقال إلى طرق «الـمواضيع الـحيوية والعمرانية... ومواضع الضعف في الأمة مشيراً إلى كل ضعف في أخلاقها وخلل في عاداتها ونقص في كيانها.» وكل ذلك لا دخل له في الشعر والشعراء ولا يختص إلا بعلماء الاجتماع والنفس والسياسة. ولولا هذا التخصيص التوجيهي لكان أمكن التساهل في عبارة الـمنتقد السابقة واعتبارها مفيدة ترك نوع الـخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة من أجل الأخذ بنوع من الـخيال فيه روح وحقيقة. وقد أصاب الشاعر في الرد على هذا الكلام من وجهة الشعر، خصوصاً قوله:
إنّ تـحديد الـمثال الأعلى في عبارة حسين هيكل: «من اعتز بغير الله ذل ومن افتقر لغير الله هان» هو تـجميد لا قوة له لغلب الـمادية في الـحياة الروحية وشؤونها في الوجود. وهو ليس مبدأً روحياً إلا إذا حسبنا الروحيات قاصرة على الغيب.
إنها نظرة مصرية شرقية هذه النظرة التي تضع الـمثال الأعلى في هذه العلبة الـمطرزة الـخفيفة الـحمل يحملها الـمرء في جيبه وينتقل بها من مكان إلى مكان، وكلما عنّ له النظر في الـمثال الأعلى فتح العلبة وأخرجه منها ونظر إليه بإعجاب وشهق شهقة الفرح ثم أعاده إلى موضعه واستمر في حاله من حله وترحاله. «الفناء الروحي في وحدة الوجود» إذا كان مثالاً أعلى فهو مثال عدمي أو فنائي لا وجودي، والروحية الـموافقة له هي روحية كسيحة، مريضة تتجه نحو الغيب الذي تـجعله مستقراً للوجود وتشيح بوجهها عن الوجود الإنساني الذي لا تـحسبه إلا عبّارة إلى الغيب وواسطة للفناء فيه.
هـذه النظـرة التي يثبت بها الأدب الـمصري نفسيته الشرقية هي نظرة منافية لـخطط النفس السورية في سياق التاريخ. وعدم أخذ السوريين بهذه النظرة هو من الأدلة على ما ذهَبْتُ إليه حين أعلنت: أنّ سورية ليست أمة شرقية وأنها ليست ذات نفسية شرقية. وإذا كان السوريون أولعوا بالتغني «بالـمزايا الشرقية» التي وصلت إليهم في مزيج من أدب الهند والفرس والعرب فما ذلك إلا لتلاشي نظرتهم إلى الـحياة وضيـاع مثلهـم العليا في تعاقب الفتوحات واضطراب مجرى الـحياة السورية الاجتماعية والروحية. وهذه الـحقيقة هي التي جعلت ميخائيل نعيمه يسبق حسين هيكل إلى حسبان نفسه شرقياً وتفضيله النظرة «الشرقية» التي يزعم أنها تقول مع محمد: «ولا غالب إلا الله» على النظرة التي يزعم أنّ الغرب يعبّر عنها بقوله: «ولا غالب إلا أنا» (أنظر فتاوى كبار الكُتَّاب والأدباء في مستقبل اللغة العربية ونهضة الشرق العربي. طبع «الهلال» مصر، سنة 1923) فهو قد جعل الغرب كأنه يقول: «ولا غالب إلا أنا» وهو يقصـد بقـوله الـمقابلـة بين موقـف الشـرق وموقف الغرب من الوجهة السياسية والعمرانية قبل كل شيء. وقد أخذ حسين هيكل فكرة نعيمه في التعبير عن موقف الشرق وجعلها مثالاً أعلى للنفسية الشرقية.
لنتابع تفكير نعيمه قليلاً. إنه يقول في مقالته التي أجاب بها على استفتاء مجلة الهلال إنّ الفرق بين الشرق والغرب منحصر في نقطة واحدة جوهرية هي:
«إنّ الشرق يستسلم لقوة أكبر منه فلا يحاربها، والغرب بقوته ويحارب بها كل قوة. الشرق يرى الـخليقة كاملة لأنها صنع الإله الكامل. والغرب يرى فيها كثيراً من النقص ويسعى لتحسينها. الشرق يقول مع محمد: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا». ويصلّي مع عيسى: «لتكن مشيئتك». ومع بوذه يجرد نفسه من كل شهواتها. ومع لاوتسو يترفع عن كل الأرضيات ليتحد بروحه مع «الطاو» أو الروح الكبرى. أما الغرب فيقول: «لتكن مشيئتي». وإذ يخفق في مسعاه يعود إليه ثانية وثالثة ويبقى يعلل نفسه بالفوز. وعندما يدركه الموت يوصي بمطامحه لذريته.»
وفي اعتقـاد نعيمـه: «إنّ فرسخاً مربعاً من بلاد الصين «الـخاملة» يحوي من الـجوهر أكثر من كل جزائر اليابان «الناهضة».»
هذا كلام إذا أزلت منه زخرف التعبير الأدبي، الشعري لم تـجد فيه حقيقة واحدة غير جهل شؤون الـحياة وتطورها منذ ظهر الإنسان على مرسح الطبيعة وجهل التاريخ وفلسفته. فالشرق، لعلة طبيعية، على الأرجح، حاول من قبل «تـحسين الـخليقة» كما حاول الغرب «تـحسينها» من بعد. ولذلك نشأت الأديان في الشرق، أي لتحسين الـخليقة. وقد «حسنت» الأديان الـخليقة تحسيناً كبيراً، ولا شك. ولكنها عصت كل تـحسين جديد نشأ بعد أحكامها، فأصحابها لا يقرّون بـمعرفة جديدة إلا مكرَهين. وإذا كان عيسى، السوري البيئة، رمى إلى تأديب النفوس بقوله: «لتكن مشيئتك» فهو أعلن الانتقاض على «الـمنزل» بالذهاب إلى «تكميل الناموس»، ومحمد نفسه الذي نشأ في بيئة بعيدة عن التفكير بالقضايا الفلسفية الكبرى نطق بالوحي «ولكل أجل كتاب». فليس في سنّة الـمسيح ولا في سنّة الرسول، إذا أخذت كلها، ما يـمنع «تـحسين الـخليقة» أو ما يرفضه. ولست أعتقد أنّ تعاليم بوذه ولاوتسو أنشئت بقصد منع التفكير في «تـحسين الـخليقة»، ولكن العقلية الشرقية، التي عجزت عن حل قيود الروح الـمادية بنظرة إلى الـحياة والكون فاهمة، هي التي وقفت عند «أحكام» الفلسفات الدينية وتعليلاتها الإفتراضية الـمستندة إلى «قوة أكبر منها» حددتها تلك الفلسفات تـحديدات متباينة جعلت الـخالق الواحد «ينزل» تعاليم غير واحدة فيما يختص بالـحياة الإنسانية ضمن الوجود وقبل «الفناء في وحدة الوجود».
إختار ميخائيل نعيمه التكلم على «الـخليقة» و«تـحسينها» ليضع القارىء أمام الاصطلاح. وكلامه كلام أديب، لا كلام فيلسوف أو عالم أو فنان، وها الصين تترك اليوم «جوهر» الـخمول لتأخذ «بعرض» النهوض. وليس يعني ذلك زوال القواعد الصالـحة من تعاليم لاوتسو.
مـما لا شكّ فيه أنّ نفسية الذين يذعنون لكل «ما كتب الله أن يصيبهم» ترى في هذا الإذعان أجمل الـمثل العليا وأحبها وأفضلها. وسواء أكانت هذه النفسية شرقية أم غربيـة، فهي نفسية لها مصيرها وهو غير مصير النفسية التي لا تقبل بـما هو دون «ما يكتبه الله» للذين يعملون بالـمواهب التي أعطاهم.
إنّ صوفية نعيمه الهدامة التي أبرزها في أحد خطبه في بيروت سنة 1932 أو 1933 بقوله إنّ القوة هي في الأمـم العاجزة «الـمستغنية» عن التسلح (وإن يكن استغناؤها قهراً أو كرهاً)، وإنّ الضعف هو في الأمـم الـمستكثرة من آلات الـحرب، قد نبذتها سورية ولا تفكر في جعلها مثالاً أعلى لها. أما في مصر فقد تـجد تربة جيدة لنموها وازدهارها كما يظهر من اقتباس حسين هيكل مثاله الأعلى من عبارة ميخائيل نعيمه الواردة في مقابلته بين الشرق والغرب، ومن أقوال غيره كمصطفى صادق الرافعي.
ولم يخرج من دائرة التخبط في موضوع النهضة الأدبية غير من ذكرت من كبار الأدبـاء. طه حسين نفسه الذي يعدّ في مقدمة مفكري مصر وفي طليعة كبار أدبائها كتب مقالة في عدد الهلال الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 1933 بعنوان «نهضتنا الأدبيـة ومـا ينقصها» قال فيها إنّ الأدب في اللغة العربية قد سار مرحلة كبيرة وإنه لا تزال تنقصه أشياء، وخلاصة الـمقالة أنّ مواضع الضعف «في نهضتنا» هي: 1 - إتصالنا بأدبنا القديـم ضعيف لم يبلغ ما ينبغي له من القوة. 2 - ثقافة أدبائنا من الأدب الأجنبي ثقافة محدودة. 3 - أدباؤنا لا يحسنون الآداب الأجنبية القديـمة التي أنشأت الأدب الأجنبي الـحديث. 4 - لا يحفل أدباؤنا بالعلم ولا يأخذون أنفسهم بدرسه والإلـمام بطائفة منه. وفي رأي طه حسين أنه إذا أزيل هذا الضعف من «أدبائنا» فنهضتنا الأدبية تستكمل شروط ارتقائها إلى ذروتها. والـحقيقة أنّ هذا الكلام يدخل في ما عبّر عنه طه حسين نفسه في مقالته الـمشار إليها «بالطول والعرض»، أي بالـخلو من العمق. إنه كلام شكلي لا أساسي، كما سيتضح فيما يلي:
وعباس محمود العقاد، كاتب مصري آخر كبير ذو شهرة، أجاب في عدد الهلال الـمذكور فوق على سؤال: هل يصبح لنا أدب عالـمي؟ وفي جوابه يقول:
«فالأدب العالـمي ليس مرتبة من مراتب السمو يرتفع إليها الكتاب والكاتب، ولكنهـا حـالـة من الـحـالات تتيـسر أسبـابهـا فتظهـر وتخطئها هــذه الأسباب فيخطئها الظهـور»
والظاهر أنه يعني بالأدب العالـمي انتشار الكتب بواسطة الترجمة والطبع في مختلف اللغات لا قيمة الأدب العالـمية. فيأخذ يبحث عن الظروف والأسباب العملية التي تذيع الكتاب، كالغرابة عند الـمترجَم إليهم، ووجود الـمترجِم، وحسن الطباعة، ووجود شركات النشر، ونسبة عدد القُراء، وغير ذلك من الأمور السطحية والعملية التي لا يـمكن أن يقوم عليها أدب عالـمي لأمّة من الأمـم على نسبة إرتقاء الـمثال الأعلى والفكر والفن.
والـخلاصة أنك لو جمعت جميع الأقوال والآراء الـمتقدمة وأمثالها لـما حصل لك منها غير اضطراب في الفكر وتشتت في الشعور يحرمانك إدراك حقيقة الأدب عموماً والشعر خصوصاً، ورسالة الفن.
(1) كـانـت كـل من الـحلقـات الثمان الواردة في الـزوبعة تُعَنْوَن "الصراع الفكري في الأدب السوري" ثم يليها عنوان فرعي:"ثلاثة كتب وتعليق في ديوان".
(2) ورد إسـم "هاني بعل" في آخر الحلقة الأولى فقط.
(3)الزوبعة، بوينُس آيرس، العام الثالث، العدد 51، (1/9/1942 ) ص4 - 5