قدمت الأرجنتين منذ بضعة أشهر نابغة الغناء الموسيقي الراقي السورية الآنسة فدوى قربان. وكان من دواعي الأسف أنّ إدارة الزوبعة لم تعلم بقدومها في ذلك الحين لتعطيها ما تستحقه من الذكر. وبقيت فدوى قربان نسياً منسياً في الأرجنتين كل هذه المدة التي قضت معظمها في نواحي سان خوان ومندوسة حيث لها شقيقان أقامت عندهما. ثم عادت إلى بوينُس آيرس حيث اتصلت بها سفارة بريطانية العظيمة وبعض مؤسسـات المجمـوع البريطـاني في الأرجنتين، فعـرف قـدر فنّانتنـا، وسـألتها السفارة المذكورة إقامة حفلة غنائية لمساعدة جرحى الحلفاء، فلبّت الدعوة وأقيمت الحفلة مساء السبت الواقع في 18 أغسطس/آب الماضي وبهذه الواسطة تمكنّا من معرفة وجود نابغتنا في الغناء بيننا في هذه البلاد الكريمة.
ليس سبب بقـاء إسـم فـدوى قربان ووجودها في هذه البلاد مجهولاً عائداً إلى تجنّب الآنسـة قربـان الاتصـال بأبنـاء وطنها أو إلى تهرّبها من جنسيتها، بل إلى مادية المجمـوع السـوري في هذه البـلاد وانحطـاط معظم صحافتنا وجهل الواغلين على الصحافة المقاييس والقيم الفنية. فقد اهتمت الآنسة قربان، حال وصولها إلى بوينُس آيرس، بالاتصال بأبناء أمتها بواسطة الصحف السورية هنا. فزارت بعض هذه الصحف وسعى أخواها لتعريفها عند الصحافيين ولكنهما وجدا آذاناً صمّاء. فيئست الفنانة من جماعتها. ولما عادت إلى بوينُس آيرس بعد غيابها في الداخلية كان الأجانب أول المهتمين بها.
إنّ الآنسـة فـدوى قـربـان قـد واجهت في الأرجنتين الحالـة عينها التي واجهها زعيم النهضة السورية القومية الاجتماعية عندما وطئت قدماه شاطىء الأرجنتين. هي الحالة التي يتألم منها كل ذي فن وأدب نزيه وكل مفكر مخلص. لأن المدرسة المادية قد علّمت السوريين المغتربين في هذه البلاد، وغيرها، أنّ الشرف القومي والمواهب النفسية، التي تظهر بها حقيقة طبيعة الشعب ونفسيته، هي أمور تافهة بالنسبة إلى المبالغ المالية التي يمكن جمعها بطرق شريفة أو غير شريفة. وأكثر من ذلك، إنّ جميع المواهب النفسية والفنون الجميلة التي تعطي الأمم درجة رقيّها وتمدنها ليست شيئاً مذكوراً عند الماديين الذين يفضلون الاهتمام بطـاولـة قمار أو بنـرد الـروليت على الاهتمـام بشؤون الثقافة الروحية.
كان بروز فدوى قربان في فلك الفن في الأرجنتين كبروز البدر التام في الليل الصافي الأديم. وكان غناؤها في الليلة المذكورة انتصاراً باهراً لمواهب الشعب السوري النفسية التي جعل أصحاب المدرسة المادية من مجموعنا الأجانب يظنون أنه لا مجال لها في غير البحث عن المال. وجميع الذين سمعوها أو سمعوا عنها، من غير السوريين، صـاروا يقولـون: أصحيح أنه يوجـد حـياة للفن بين السـوريين وأنهم شعب يقدر على الاضطلاع بأعباء الفن.
إننا مديونون بفضل كبير لمواطنتنا الكبيرة وضيفتنا الكريمة الآنسة فدوى قربان بإظهار مكنـونـات شعورنا وإحساسنا بهذا المظهر الراقي الجميل ليس بواسطة صوتها الرفيـع النادر المثيل، بل أيضاً بواسطة ذوقها الجميل في إدخال تراكيب تلحينية على أغانينا السورية تمتاز كثيراً على كل ما أجري من هذا القبيل في سورية أو في مصر. وكم نشعر بالفخر عندما نرى ونسمع أنّ فنانة كبيرة منّا تقف أمام مجتمعات ثقافية عالمية وتنشد لهم أناشيد حياتنا السورية بلغتنا وتلحيننا، إنشاداً يحمل هذه المجتمعات على الشعور معنا واحترامنا؟
إنّ ما كتبتـه الصحافـة الأرجنتينية والبريطانية وغيرها عن غناء فنّانتنا يشرح صدر كل واحـد منـا. فأهـلاً وسهـلاً بمستحقـة تمثيلنـا هذا، هذا التمثيل الممتاز في عالم فن الموسيقى. فأهلاً وسهلاً بهذه السفارة الفنية التي انتدبت فدوى قربان نفسها لها.
وسنعود إلى ذكر ما سيكون من الشأن العالي لفنّانتنا الممتازة في هذه البلاد، على أننا نثني هنا الثناء الكثير على الجمعية السورية الثقافية التي عرفت كيف تقدّر الفن وشكّلت لجنة من سيدات ورجال لزيارة فدوى قربان والترحيب بها، وكيف تولي الفن السوري اهتمامها وعنايتها.