بيّنا في العدد الماضي (ص 161 ــــ 167 أعلاه) خطل الذين يحاولون القدح في السوريين القوميين اللبنانيين وفي كل سوري من لبنان رفض قبول ما تفرضه الإرادة الأجنبية في سورية. وأوضحنا فساد ادّعاء أولئك المتعيشين أنّ إنكار اختراع «القومية اللبنانية» هو مروق من الوطنية.
نعود الآن إلى هذا الموضوع ضمن دائرة النظرة السلبية من «استقلال لبنان». فقد أظهرنا في المقال السابق أنّ هذا «الاستقلال» إنما هو نتيجة فرض الإرادة الأجنبية على الشعب السوري في لبنان، كمافي أماكن أخرى. ولا ينفي هذه الحقيقة وجود عدد من اللبنانيين اعتقدوا بإخلاص أنّ انفصال لبنان عن جسم الوطن واستقلاله هو الحل الوحيد لمسألة المسيحيين التي كانت موجودة في الماضي بشكل لم يعد لها الآن، خصوصاً بعد نشوء الفكرة القومية الصحيحة التي أوجدها الحزب السوري القومي الاجتماعي. فقولنا إنّ «استقلال لبنان» الذي أعلنه القائد الفرنسي لجيش الاحتلال غورو، والذي أعلنه القائد الفرنسي لجيش الاحتلال الجديد كاترو هو مهزلة، لا يعني شيئاً من التهكم على القائلين بوجوب هذا الاستقلال، لأننا لسنا من أصحاب فلسفة الاستهزاء، بل يعني إعطاء الواقع إسمه الحقيقي.
استقـلال لبنان ليس سـوى مهزلـة مهيـنـة لجميـع الـلبنـانيـين، سـواء الـذيـن يريـدون الانفصـال والـذيـن يأبونـه، لأن الإرادة الأجنبية قررت ضاربة بحقوق الشـعـب السيـاسيـة عـرض الحـائـط. ولا جـدال في أنّ الـذيـن قبلوا هذا التقرير الأجنبـي شجـعـوا تلـك الإرادة على تنفيـذ مـراميهـا. وسببـه ضعـف ثقـافتهـم الاجتمـاعيـة ــــ السيـاسيـة وجهـلهـم مبادىء الحقوق المدنية. ولولا تدخّل الإرادة الأجنبية في الأمر لكان له وجه آخر.
إنّ اللبنانيين يجـب أن يـرفضـوا هذه المهـزلـة الماسّة بشرفهم القومي، حتى ولو كانوا يريدون الانفصال عن بكرة أبيهم. فتقرير الإرادة الأجنبية أمورهم يعني إلغاء إرادتهم، ووضع الإرادة الأجنبية محلها، وهو أمر يلغي كل أثر للسيادة القومية التي تعني إرادة الشعب.
الذين يقولون بالانفصال اللبناني يمكنهم أن ينشئوا حزباً منظماً لهذه الغاية، أو أن يعملوا على بث دعوتهم بين اللبنانيين لاستمالة الأكثرية إليهم، ثم إعلان الاستقلال بإرادة لبنانية مستقلة، يلفظها مجلس يمثّل اللبنانيين، في هذه الحالة لا يكون هنالك مهزلة وتصبح المسألة مسألة غلط أو صواب لا مساس فيه بكرامة الشعب. أما أن يقف قائد جيش محتل ويقول «إني أعلن لبنان الكبير» أو «إني أعلن الجمهورية اللبنانية المستقلة» فهو شر البلية وأكبر العار ولذلك يجب أن يكون هذا الإعلان مرفوضاً، وأن يشترك في مقاومته طلاب الانفصال مع طلاب الوحدة، لأنه تهجّم على كرامة الشعب واحتقار إرادته.
إنّ الفرنسيين والبريطانيين أبوا استفتاء السوريين في أية مسألة سياسية من المسائل التي بقوا فيها ظلماً وعدواناً لسببين: الأول أنهم حسبوا أنفسهم أصحاب السيادة على البلاد بالفعل، بواسطة قواتهم الاحتلالية، وبالحق بواسطة معاهدة الصلح الماضية وصك الانتداب. الثاني أنهم لم يكونوا واثقين من موافقة الشعب على نياتهم السيئة، فجزأوا البلاد كما أرادوا.
مسألة «الاستقلال لبنان» هي أهم مسائل التجزئة التي أجراها الأجانب في وطننا، نظراً لأهمية هذه المنطقة من الوجهة الداخلية ومن الوجهة الاستراتيجية، وقد رأى الفرنسيـون أنه يمكن، بعد فرض هذا الاستقلال فرضاً على الشعب، تسميم عقول الناشئة وإنشاء جيل جديد يقبل هذه الأحداث الغريبة، ولهم وسائل لهذه الغاية أهمها: برامج المدارس، ورشوة الصحافة، وتشويق أصحاب المطامع في كراسي الحكم والقضاء، وبالمناصب والرواتب، والبراطيل تنصر الأباطيل.
أصـاب المستعبـدون بعـض النجـاح وبثـوا الفجـور السياسي والاجتماعي في جميـع الأوسـاط الشعبيـة، خصـوصاً في الأوساط التي تدّعي أنها علية الشعب، فدغدغوا شهواتها، وداعبوا مطامعها بالنيابة والوزارة والرئاسة وما إليها. وظنوا أنهم بلغوا غايتهم، وأنّ الأمة قد سقطت كلها في حبائل الفجور. وفيما هم ينعمون بهذا الظن الأثيم، إذا بالرماد ينكشف عن نار نهضة رائعة ما لبثت أن تحولت إلى كابوس أقضّ مضـاجـع المستعبـدين وأذنـابهم، فـلـم يعـد لهـم هـمٌ غيـر إخمـاد هـذه النـار وإطفاء نورها.
إنّ النجاح الذي أدركه المستعمرون لم يكن كاملاً ولكنه أوجد حالة تكثر فيها المصاعب للعمل القومي. وهذا يكفي لتنبيه النفوس التي لم يمت ولم يشلّ وجدانها إلى الخطر المحدق لعلها تستفيق قبل فوات الأوان. وقد قيّض الله لهذه الأمة الكريمة دعوة حق تجد فيها ثوابها ويكون بها انقاذها من الانحلال والفناء.
نشأت النهضة السورية القومية الاجتماعية لتقرّب النفوس وتوحد الشعور والإرادة، ولتعلن ابتداء عهد جديد يحلّ فيه الاتحاد محلّ الافتراق، وتحظى النفوس بالخير والسعادة والطمأنينة. فيا كرام انفضوا رماد التواكل واللامبالاة وتعالوا نتفاهم على مصيرنا، تجـدوا ما كان مغلقاً قد انفتح وما كان معمى قد اتضح، فليس قليلاً ما يمكن التفاهم تحقيقه لمن يبغون الحق والخير.