بهذه الشعوذة المحقّرة المدارك الإنسانية يريد السيد عبد المسيح حداد أن يثبت أنه مفكـر رصين وكـاتب طـائـر الصيت. فهو يضع العقائـد والمبادىء والمذاهب والنظريات الاجتماعية ــــ الاقتصادية العامة، التي لا يمكن أن يحدث أي تقدم فكري في العالم بدونها وبدون احتكاك بعضها ببعض، في منزلة «أزياء وقتية وهي جميلة كلما لبقت»!
وقد رأيت أنّ السيد حداد يعترف، في الفقرة التي نقلناها من مقالته المشار إليها، أنه لا يعـرف هل شعوره بأن الحق للأكثرية و«بأن على الفرد أن لا يتعدى طريق الجمهور» ديموقراطي أم اشتراكي أم شيوعي. فإذا كان لا يعرف ما هي حقيقة كل مذهب من هذه المذاهب ونسبة «شعوره» إلى أي منها، وإذا كان هو ليس إلا كاتباً «يشعر بضميره وقلبه وأدبه بأن كل مبدأ عالمي جائز إذا كان يقرّه حق الأيام والمحيط والزمان» فلماذا قام يقول عن الحركة السورية القومية الاجتماعية، التي ينتمي إليها جبران مسوح، إنها «سياسة عالمية مشتبه بها» دون أن يكلّف نفسه مشقة الدلالة على موضع الشبهة. ولماذا لا يريد هذا الكاتب «اللبق» أن يترك للأيام والمحيط والزمان أن تعطي المذهب السوري القومي الاجتماعي محله اللائق به، كما يتركها تعطي غيره من المذاهب الاجتماعية محله؟
الجـواب على هذه الأسئـلـة لا ينتظـر صـدوره من صـاحب دمـاغ عقيم وعلم خنفشـاري كالسيد عبد المسيح حداد، الهفـات، الثـرثـار. فإن تحليل مقالة واحدة من مقالاته «الرئيسية» التي يستند إليها لنشر صيتـه بين الناس قد كشف عن قرب قعر تفكيره ومبلغ جهله. إنه أحد الأدباء المجزرين المختلّي الشعور المضطربي الفكر. والذي حمله على إرسال قوله عن الحركة السورية القومية الاجتماعية أنها «سياسة عالمية مشتبه بها» إنما هو التحامل وحب ثلم صيت هذه النهضة القومية المباركة وتشويه حقيقة أمر زعيمها ورجالها، إبقاءً على استمرار خدع الناس بالأدب التافه الذي يشترك مع زملائه وأشباهه في قتل مواهب السوريين المغتربين وتعطيل أوقاتهم به.
ويرى القارىء المدرك من تحليلنا المتقدم لنوع تفكير السيد حداد، أننا لم نظلمه مقدار ذرة بنسبتنا الهفت والبهت والثرثرة إليه. وإنّ ما حلّلناه من أقواله هو ما اجتهد هو نفسه بوصف نفسه به. فهو قد تكلم عن نفسه وكيفية تفكيره ومبلغ علمه أو جهله بالقضايا الاجتماعية ــــ الاقتصادية ــــ السياسية التي تشغل عقول الشعوب الراقية اليوم. وقد رأينا ونظرنا في ما تكلم فوجدناه جاهلاً، هفاتاً، ثرثاراً. وهذا برهان كافٍ على عجزه عن الرد على مقال الرفيق جبران مسوح «أدب الرجعيين» وعن متابعة الدسّ على الحركة السورية القومية الاجتماعية. وهو يدل بما لا يقبل الشك أنّ محاولته الترفع عن الحفول بأجوبة القوميين على هفته ودسه والتشبه بجبران خليل جبران لم تكن سوى محاولة اتقاء توسيع الخرق الذي أحدثه في ثوب خنزوانيته القبيحة.
إنها كـانت محاولة عقيمة فالخرق كان قد اتسع ولم يعد في إمكانه رتقه. والصحيح أنّ الخرق قد اتسع كثيراً عليه بالتجائه إلى سفاهة القول التي يخجل من إتيانها صبيان الأزقة عديمو التربية. والظاهر أنّ السفاهة أصبحت سلاحه الأدبي الوحيد، به يهاجم وبه يدافع. ونحن لا نتهمه الآن زوراً أو اعتباطاً، كما أننا لم نتهمه ولم نتهم غيره من قبل زوراً واعتباطاً. إننا لا نرسل تهمة إلا مصحوبة بدليل. وإننا نقدِّم هنا دليلاً جديداً على سفاهة السيد حداد ونزوله بالأدب والصحافة إلى لغة أسوأ السوقة وأحط الغوغاء. فقد نشر ذلك الصحافي في باب رئيسيات جريدته، في عددها الصادر في 30 مارس/أذار الماضي، «مقالاً صغيراً» لا يعرف إلى من يوجّه السفاهة التي حشاه بها. فقد يكون القصد منها شتم السيد سلوم مكرزل صاحب جريدة الضلال التي تسمّى الهدى وقد يكون القصد شتم مدير الزوبعة أو صحافي آخر. ولكن، كائناً من كان الشخص الموجهة إليه تلك السفاهة، هي سفاهة لا ينزل إلى دركها أي أديب أو صحافي رصين. عن مثل هذه السفاهة يليق الترفع وعدم الحفول، لا عن المناقشة في صدد حركة قومية اجتماعية تهم الشعب الذي يكتب له ذاك الصحافي ولا عن بحث ودرس مذهب هذه الحركة الاجتماعي ولا عن إيضاح القصد من القول إنها «سياسة عالمية مشتبه بها». وإليك «المقال الصغيـر» الجديـد الذي يُظهر به السيد عبد المسيح حداد درجة رصانته ومبلغ حكمته ونوع مناقبه ومقدار مثالبه:
«الكلب لا يعض
ولكن ذلك الصحافي يعض»
«يحكى أنّ رجلاً مرّ بمنزل يحرسه كلب فتجنبه فلحق به الكلب فأسرع الرجل سيره. وكان أنّ صاحبته لاحت منها نظرة إلى ما جرى فصاحت بالرجل ــــ «لا تخف يا هذا فالكلب لا يعضّ». أما الرجل فأجابها قائلاً: ــــ «أنا عالم بأنه لا يعضّ ولكنه هو لا يعلم ذلك».
«ذكّـرتنا هذه الحكايـة بما جرى لنا مع صحافي قيل لنا إنه لا يعضّ فتحاشيناه قـائـلين ما قـالـه رجل الحكـايـة عن ذلك الكـلب الذي لم يعضّ الرجل ولكن الصحافي عضّنا.
«لذلك نسامحه على عضّته هذه المرّة لعلمنا أنه قد يكون فقد رشد من هراوة ثقيلة وقعت على ظهره من يد صاحب جريدة السمير فطفق يعوي ويعضّ ذات اليمين وذات الشمال.
«يا هذا المسكين إنّ من ضربك تلك الضربة القاتلة لا يزال رافعاً عليك هراوته الثقيلة فخبىء له أسنانك الحادة ولا تضيّع عضّاتك على من تجنّبوك لعلمهم بأنك لا تعض فإذا بك تعضّ وإذا بكلب الحكاية أخلص منك وآمن على سلامة الناس».
هذا هو مقال السيد حداد الصغير الجديد. وهو، على صغره، من أبدع الصور التي تُظهر نفسية ذاك «الأديب» وأدبه الجمّ وعمق تفكيره!
إننا كنا نعلم من قبل أنّ السيد عبد المسيح حداد خالٍ من المؤهلات العلمية والفكرية «للأخذ والرد» مع أصحاب المذهب السوري القومي الاجتماعي في أي أمر من «أمور الاجتماع المدني». ولكننا كنا، إلى عهد قريب، نظنه أديباً من أدباء تقليد القديم أو من أدباء الرجعة فحسب. ولم يكن يخطر في بالنا قط أنه يباري صبيان الأزقة العديمي التأدب في الانغماس في حمأة السفاهة وسلاطة اللسان، حتى وقفنا على دسائسه الشائنة على الحركة السورية القومية الاجتماعية، التي شهد لها عدد من ألدّ أعدائها، فضلاً عن أصحابها ومعتنقيها ومؤيديها، إنها أروع حركة اجتماعية ظهرت خارج أوروبة، وإنه لا يوجد حركة أخرى في العالم تستحق أن تحسدها الحركة السورية القوميـة في شـأن من شـؤونها الاجتماعية أو السياسية، وعلى تهجمه على أنطون سعاده الذي أوجد هذه الحركة، ورأينا تحامله على جبران مسوح لأنه بايع سعاده الزعامة، ووقفنا، في آخر الأمر، على «مقاليه الصغيرين» اللذين قد أثبتنا ثانيهما آنفاً وكنا أثبتنا الأول في العدد الثاني والأربعين وفيهما من السفولية والمثالب ما لا يُبقي حاجة بالسيد حداد ليحسد صبيان الأزقة عليه.
الكلب والعضّ والهراوة وما شاكلها ليست لغة الأديب ذي الأدب الصحيح ولا لـغـة الصحـافي الذي يـريـد إرشـاد الناس. فلو كان السيد حداد يقصد بمقاليْه الصغيرين المشار إليهما دفع تهجم أو تحامل من أحد عليه، وكان ذا أدب صحيح ومناقب عالية، لكان اكتفى بإظهار ذاك التهجم أو التحامل ومبلغه وبعده عن الحقيقة والـواقع وكان أظهر صحة أدبه واستخرج من موضوعه درساً يفيد الناس. ولكن الواقع أنّ صاحب السائح لا يعرف الفرق بين الصحافي وصبي الزقاق ولا بين مهنة الصحافي وشتم الناس.
وإنّ من نكد الدنيا على شعبنا ومغتربيه في الأقطار الأميركية أنّ هذا الكاتب الزقاقي اللغة والأدب، المتعيش بواسطة السائح وبواسطة «الرابطة القلمية»، وأمثاله من الكتّاب والصحافيين الذين لا أدب صحيح لهم، يُعدّون من أقطاب الأدب السوري في المهجر عند جماعة غير قليلة من المغتربين. وهذا الصيت، الذي وصل إليهم عن غير استحقاق بالتحاقهم بجبران خليل جبران ومن مشى معه في ثورته السلبية على الأدب التقليدي، قد سهّل لهم خدع الجماعة المذكورة آنفاً مدة غير يسيرة واكتساب ثقتها. فهان عليهم نقل فسادهم الفكري ومثالبهم الروحية إليها ثم تعليلها بتوافه المواضيع وقشور الأدب.
منذ مدة تقـرب من السنـة اضطـرت الزوبعة لتنـاول هفت إيـليـا أبي ماضي الأدبي، بعد أن تصدى هو أولاً للنقد الأدبي لمنظومات رشيد سليم الخوري، الذي كانت هذه الجريدة قد نشرته للموقع باسم «هاني بعل»، فلما كشفنا النقاب عن جهل أبي ماضي حقيقـة الشـعر وأغـراضه وأظهرنا كم هو بعيد عن فهم الشاعر ومثاليته وجوهر الشعر، حين كتب يقول إنّ الشاعر «لا يحصره حيّز من فكر أو مادة. وهذه ميزته الأولى وطابعه المعلم» أدرك هذا المخلط الأدبي أنه لا يقدر أن يخوض عباب هذا البحث الفني، إذ تعوزه الثقافة اللازمة له وهو خالي الذهن منها، فادّعى أنه ليس البادىء بالاحتكاك مع الزوبعة وأنّ الذين خطّأوه في تعريفه، الشعر والشاعر بهذه الصفة الزرية، التي لا تليق إلا بالنَوَر والشعوب البربرية أو القريبة منها، قد بغوا عليه وحاولوا طلب الشهرة والارتفاع على إسم أبي ماضي وصيته، وأنه لا يضيّع وقته الثمين في النظر في أقوالهم، إلى آخر هذا الموال الشيطاني الذي أتقن إنشاده جميع أدباء الفناء المجنونين بالظلمة والخلود!
وكنا ظننا أنّ الدرس الذي ألقيناه على أبي ماضي سيفيد الواغلين على الأدب والصحافة جميعهم فيعرف كل واحد منهم حدّه ويعلم أنّ المواضيع الأدبية والسياسية والعلمية تحتاج لأشياء فوق حسن الديباجة وسلاسة النظم. ولكن الخنزوانية والمكابرة لا تقفان عند حدٍّ في نفوس المجنونين بالخلود. فتقدم السيد عبد المسيح حداد ليجرّب هو أيضاً رمي الحركة السورية القومية الاجتماعية وزعيمها ورجالها ومؤسساتها.
الظـاهـر أنّ السيـد حـداد يظن نفسه أقـوى مـركـزاً من السيد أبي ماضي، لأن السمير، لا تحمل العبارة الخطيرة التالية التي تحملها السائح وهي «الجريدة الرسمية للرابطة القلمية»!
س ــــ ما هي «الرابطة القلمية» اليوم؟
ج ــــ جيفة منتنة!
إنّ الشوق العظيم إلى حقيقة أساسية وعهد جديد، الذي أحيا «الرابطة القلمية» وشحذ أقلام أركانها وفي مقدمتهم جبران، قد خبا منذ عدل جبران عن لغته القومية إلى الإنكليزية وطلّق نعيمة النقد ليصير مقلداً صوفياً وغادر الريحاني روحية «الريحانيات» ليسيح في العُربة بالاتفاق مع الإنكليز.
جبران خليل جبران وحده بقي محافظاً على مبدأ «الرابطة القلمية» السلبي القائل بالتفلت من القديم البالي والبحث عن الجديد المحيي، مع انتقاله من الأدب السوري إلى الأدب الأميركاني.
وميخائيل نعيمة بقي محافظاً على صفة الأديب الصحيح مع كل اجتهاده الباطل ليصير فيلسوفاً ومع محاولته لغم صيت جبران لكي لا يبقى إسم أدبي أمام إسم نعيمة.
وأمين مشرق، الذي كان مخلصاً كل الإخلاص لمذهب نقض التقليد وشجب المبالغات التي لا صلة لها بالحقيقة ولا تعبّر عن فكرة حية أو شعور خالص، قضى نحبه.
وبقي في «الرابطـة القلميـة» ذوو النفـوس الكسيحـة المائتـة والأجنحـة القصيـرة الذين يرون بعين عجزهم وضعفهم بيت العنكبـوت أفضل من الطمـوح إلى تحرير أمة وترقية وطن! هكذا قال بلسانهم «شاعرهم» أبو ماضي.
اللّهمّ إلا بعضهم الذيـن نرجـو أن تكون فيهم بقية من تلك الشعلة الأولى التي كانت أول نور لمع في ديجور الأدب السوري.
إنّ رائحة كريهة تنبعث من مدة غير قصيرة، من «الرابطة القلمية» في نيويورك.
الناس في نيـويـورك وحـوالي نيـويـورك وبعيـداً عن نيويورك يتهامسون: «ما هي الغاية من بقاء «الرابطة القلمية» وقد ماتت روحها وما هو الغرض من الحفلات العديدة التي تقيمها تارة باسم هذا المشروع وطوراً باسم ذاك ويُجمع فيها مال يبلغ أحياناً عشرة آلاف دولار وأحياناً نحو ذلك؟».
بعض الحفلات التي تقيمها «الرابطة القلمية» تحييها لمناصرة «تلمذة حتّي» مثلاً. فتجمع في ليلة نحو عشرة آلاف دولار لا ينفق منها على «تلمذة حتّي» أكثر من عشرها أو عشريها، بالكثير فأين يذهب باقي المبلغ؟
يُعَدّ السيـدان أبي مـاضي وحـداد من أعمـدة «الرابطـة القلميـة». ولكنهما ليسا باقيين فيها من أجـل غـايتها الأدبية. فهما قد دفنا تلك الغايـة النبيلة وأنشآ غاية أخرى هي: إحياء التقليد الأدبي والتدجيل الصحافي وعبادة الدولار!
يكـاد لا يخلـو عـدد من أعـداد السمير أو من أعداد السائح التي تدّعي أنها «الجريدة الرسمية للرابطة القلمية في نيويورك» من زلفى ورياء وعبارات فارغة، وهذه أشياء كان من مبادىء «الرابطة القلمية» الأساسية محاربتها بكل شدة وقطع دابرها. فلا توصف حفلة لرجل من ورائه نفع مادي حتى ترى الكواكب ترقص في كبد السماء حبوراً. ولا يموت رجل ذو مركز مالي حتى يظلم الجو وتنشق المرائر وتصعق الجالية بأسرها ويصيب الشمس الكسوف والقمر الخسوف. وكل ذلك رياء وزلفى. وإذا مات ناظم فقد مات الشعر ونضب معين الحياة. وإذا مات كاتب فقد قضت البلاغة وذهبت الفصاحة وفقدت الأمة أملها والأدب زالت معالمه وهلمّ جراً. ولو أردنا نشر ما يتجمع من هذه التوافه من أعداد السمير والسائح في بضعة أشهر أو أسابيع فقط لاقتضى ذلك عدة أعداد من الزوبعة. ولكننا نكتفي بنموذج من الأعداد التي وصلت إلى الأرجنتين في المدة الأخيرة. فقد شغلت الجريدتان المذكورتان عدة أعمدة من عدة أعداد في التفنن في المبالغات للتعويض عن الشعور الحقيقي المفقود لإظهار الأسف لوفاة شاب إبن سوري موجود في بعض المعسكرات الأميركانية. وكل من يقرأ ما كتبه السيدان إيليا أبي ماضي وعبد المسيح حداد في هذا الصدد يجده نسيجاً من الكلام سداه الرياء ولحمته الزلفى.
إنّ وفـاة شـاب كالفتى الـذي قـام أبو ماضي وحـداد يتبـاريـان في التفجـع الاصطناعي عليه يدعو إلى أسف حقيقي وحزن صادق لأصدقائه ومعارفه. ولكن الأسف والحزن الحقيقيين شيء والتفجع الاصطناعي شيء آخر. فانظر، أيها القارىء اللبيب، إلى نموذج من هذه الأخبار الصحافية التي يتفنن أصحابها في إبرازها بحلّة الإنشاء الأدبي، قال صاحب السائح في عددها الصادر في 19 مارس/أذار الماضي، في باب «رسائل الجوالي»، معلقاً على النعي الذي وصل إليه:
«صعقت الجالية هنا والجوالي السورية العديدة للفاجعة المحرقة التي ألمّت بعائلة السيد لويس ناصيف التاجر الكبير في هويلن، وست فرجينيا. فقد نقل إليه البرق، من دائرة الجنود البحريين في مدينة باريس، نورث كارولينا، أنّ وحيده الشاب النجيب والبطل الحبيب لويس قد خرَّ صريعاً في حادثة فجائية حربية.
«وقـد نقـل إلينا هذا الخبر الذي أشعل النار في أفئدتنا بالتليفون مساء أمس فلم نحصل على أكثر من هذه التفاصيل، الخ».
وفي الفقرة الأخيرة من هذا التعليق يقول السيد حداد: «إنه لخطب جلل. إنها لمصيبة لا تحتمل...».
وكان صاحب السمير قد سبق إلى إعلان الخبر وإعلان التفجع فنشر في عددها الصـادر في 18 مارس/أذار في بـاب «أخبار محلية» وبعنوان «فقيد الصبا، يا للفجيعة» تعليقاً بدأه هكذا:
روّعنا البرق في هذا الصباح بخبر وقع علينا وقوع الصاعقة فزلزل منا القوى. وهو وفاة الفتى الذي كنا نتوقع له مستقبلاً باهراً في عالم الجندية لذكائه وبراعته وحماسته وتفوّقه في ضروب الرماية والمسابقة وهو المأسوف على شبابه النضير وأدبه الوفير المرحوم.
«لويس ناصيف «جونيور»
«نجل صديقنا التاجر البارز في هويلن، وست فرجينيا، لويس ناصيف وقرينته المهذبة السيدة شهربان الذي مات في المعسكر، الخ».
وبعد أن يحكي كيفية تطوع الفقيد وهو وحيد والديه ويشير إلى نعيه يقول:
«هذا هو الخبر الذي نكتبه بيد مرتجفة ونفس حزينة مضطربة... وإننا لا ندري بأي الكلمات نقـدر أن نعزّي أبويه وجدّيه. فـإن هذا الخطب من الخطوب التي تعقل الألسن والأقلام وتترك المرء كالمصعوق».
والصحيفتـان المتباريتـان في التفجـع نشـرتـا رسـم الشاب الفقيد أكثـر من مرة وتفردت السمير بنشره ثانية مكبراً.
والمقابل بين التعليقين يجد بينهما ارتباطاً وثيقاً في الأسلوب وتجانساً في الغاية. فهما مكتوبان بعبارات أدبية تقليدية وليس بشعور حي. والغاية منهما التزلف إلى والد الفقيد، «التاجر الكبير» بتضخيم المصيبة بفقد وحيده وإكسابها صفة عامة لا محل ولا مبرر لها. ومن هذه الناحية فاق السيد حداد مبالغة أبي ماضي، حتى أنه عيّن، بدون الاستناد إلى خبر ما، أنّ الجالية في نيويورك «والجوالي السورية العديدة قد صعقت»! واجتمع الإثنان على وصف الفقيد بأوصاف المفردات القاموسية كالذكاء والبراعة والحماسة التي أوردها أبو ماضي وأضاف إليها السيد حداد الإقدام والوطنية والمروءة. وإيراد هذه الأوصاف العمومية بهذا التوارد من غير تعيين شيء خصوصي يدل على أنّ لغة المفردات القاموسية هي التي تكلمت، لا لغة الشعور الحي.
المتأمل في ارتجاف يد أبي ماضي وتصوره وفاة إبن صديقه أنها «خطب من الخطوب التي تعقل الألسن والأقلام وتترك المرء كالمصعوق» وفي قول صاحب السائح إنّ الجالية في نيويورك والجوالي السورية العديدة «قد صعقت» للخطب الجلل والمصيبة التي لا تحتمل يقول في نفسه: ماذا أبقى هذان «الأديبان» لقادة الأمم وأبطال المعارك الفكرية والحربية الفاصلة في التاريخ؟
لا تصدّق أيها القارىء كـل هذا الخلط الذي اجتهد ذانـك الصحافيـان اللذان اتخذا الصحافة ذريعة لكسب العيش من أهون الطرق ولفرض ذاتيهما على الجالية السورية في الولايات المتحدة. فحقيقة الأمر ليست كما يحاولان تصويرها. إنها أبسط كثيراً من ذلك وتتلخص في هذه الأسطر القليلة:
توفي في هويلن، وست فرجينيا، شاب وحيد لأبيه التاجر صديق صاحبي السمير والسائح وكان ينتظر أن يكون من رجال المجتمع الجيدين. فلما بلغ الخبر أصدقاء أبيه شعروا مع والديه بالحزن لفقده وعظم المصيبة الخصوصية عليهما وتمنّوا لهما الصبر الجميل.
لم يكن هنالك خطب عام، يعقل الألسن والأقلام، بل لم يكن هنالك ما يعقل قلم أبي ماضي نفسه، الذي انطلق يجري بسهولته المعتادة في هذه «المناسبات» حتى دبج ما يزيد على عامود من جريدته «الكبرى» مع أنّ الوفاة حادث من الحوادث العادية. ولم يكن هنالك «مصيبة لا تحتمل» صعقت لها «الجوالي السورية العديدة». ولم تجرِ في جالية نيويورك ولا في غيرها من الجوالي احتفالات تأبينية تكسب المصيبة الخصوصية صفة عمومية اجتهد صحافيّاً «الرابطة القلمية» في إكسابها إياها رياءً ومن غير استحقاق.
إننا لو أردنـا تحليل كـل الهفت الذي ساقـه صـاحبـا السمير والسائح في صدد وفاة أحـد أبناء السوريين في حـادث عارض لضاق نطاق هذا العـدد كـله عن استيعابه فنكتفي بما تقـدم. وهو إذا أضيف إلى الأمثلـة السابقة من كتابات أبي ماضي وحداد كوّن معها مجموعة تدل على نوع الأدب الذي يمارسه هذان المهاجران المنتسبان إلى «الرابطة القلمية».
ولما كانت «الرابطة القلمية» جعلت معظم همّها في مكافحة التدجيل الأدبي والمبـالغات السخيفـة التي تشوّه جمال البساطة وروعة الحقيقة، فإننا نحكم على السيدين إيليا أبي ماضي وعبد المسيح حداد بخيانة الثورة التي أعلنتها «الرابطة القلمية» على التقليـد والجمود الأدبيين وبالخروج عى صفة «الرابطة القلمية» التي يتبجحان بالانتماء إليها. وحُكْمنا عليهما بالخيانة للرابطة الأدبية التي جمعتهما بالأدباء الذين توخوا القضاء على الأدب اللفظي الباطل مدعوم ليس فقط بالأمثلة التي قدمناها، بل بطائفة كبيرة من نوعها يضيق المقام عن تعدادها، منها قصائد عديدة لأبي ماضي وتآبين ومراثي له وللسيد حداد ولغيرهما وهي محشوة بالألفاظ الجامدة والمعاني الميتة التي لا تنطبق على الحياة ولا على الفن الراقي ولا على المقام المقولة فيه.
هـذا مـا صـارت إليه «الرابطـة القلميـة» في نيويورك بفضل السيدين إيليا أبي ماضي وعبد المسيح حداد وأمثالهما. وإذا كان السيد حداد قد خان الغرض الأدبي للجمعية التي يزعم أنّ جريدته لسان حالها. فهل يمكن أن نطالبه بالأمانة لمنظمة لا ينتمي إليها ولا يعرف شيئاً عن حقيقتها الكبرى التي تتناول المجتمع وجميع قضاياه الاجتماعية ــــ الاقتصادية؟
كل ما يريده هؤلاء التجار في الأدب والصحافة، هو أن لا ينخسف نورهم وتكسد بضاعتهم وتسد أبواب التدجيل في وجوههم، فلذلك يحاولون ثلم صيت الحركة السورية القومية الاجتماعية ورجالها، وتسميم الأفكار ضد نهضتها الأدبية الإيجابية المنتجة. ولكن ساء فألهم! فهم ليسوا في ذلك إلا كالباحث عن حتفه بظلفه. فبمحاولتهم الطعن في الحركة القومية الاجتماعية يخرقون ستار مثالبهم، ويبدون سفاهتهم وحماقتهم وانحطاط أدبهم فيفضحون سفوليتهم وجهالاتهم ويرتدّ كيدهم في نحرهم. ولا نظننا نحتـاج لغير هذا التعليق المستعجل لردّ افتراءاتهم. ولكن قد نعود إليهم إذا انفسح لنا المجال لدرس بعض تطورات الآداب والصحافة بين السوريين المغتربين، وحين ندرس العوامل التي تعمل على إضعاف الروح القومية في أوساطهم والقضاء على رابطتهم الجنسية.
إنهم يحـاولـون رمي أصحـاب العهـد الجـديـد والتفكيـر الجـديـد في الاجتماع والاقتصـاد والسيـاسـة والثقـافـة والأدب والفن بالمثـالب التي انطـوت عليها نفوسهم. ولكنهم يفعلون ذلك دساً وافتراءً وغشاً لأنهم جبناء رعاديد لا ثقة لهم بأدبهم ولا بنفوسهم ولا بعلمهم. ولذلك تراهم يهربون من كل نقاش يذهب بالموضوع إلى الأساس، أيّاً كان نوعه، أدبياً أم سياسياً أم اجتماعياً أو غير ذلك. فعند كل مجابهة من قِبل السوريين القوميين الاجتماعيين يشعرون بعجزهم عن الصمود فيها يلجأون إلى ستار الخنزوانية. والخنزوانية وحدها تكفي مثلبة لما يدّعون من الأدب والعلم.
إنهم يرمون أنطون سعاده وحركته القومية الاجتماعية من بعيد، ويهربون حالما يبـرز إليهم أحـد من رجـال الحركـة التي يقودها أنطون سعاده. فيختبئون ويتربصون بسعاده وحركته الدوائر، عليهم دوائر السوء!
إنهم لو وجدوا في أنطون سعاده منكشفاً قدر «مغرز إبرة» لما تراجعوا ولا ادّعوا شيئاً من الكبرياء الفارغة التي يحتمون بها، بل لكانوا تواقعوا عليه وأعلموا فيه خناجر غدرهم وسهام حسدهم وحراب أنانيتهم، كما هو شأنهم مع المستضعفين الخاملين. ولكنهم أيقنوا أنه لا مطمع في أنطون سعاده فتظاهروا «بالترفع وعدم الحفول والحرص على الوقت الثمين» وليس هذا شأنهم مع المستضعفين الذين يجدون من أنفسهم القدرة على الصولة عليهم. فهذا السيد أبي ماضي، الذي وجد أنه أكبر من أن يجول مع الزوبعة في بحث الشعر وحقيقته، وهو بحث ثقافي جليل فيه توسيع أفق الفن وترقية النظرة إليه، لم يجد نفسه أكبر من أن يرسل المقالات دراكاً ضد السيد سلوم مكرزل الكثير المنكشفات البادي المقاتل وكل ما فعل السيد مكرزل أنه تعرّض لتسمية اللجنة السورية التي تألفت لجمع تبرعات الجالية السورية لمساعدة الصليب الأحمر الأميركاني وقال بوجوب إضافة إسم لبنان إلى الجمعية اعترافاً بانفصاله عن جسم الوطن السوري، ولو راجع صاحب السمير نفسه لوجد أنه شريك للسيد مكرزل في مسألة الانفصال اللبناني. ففي ما نثره ونظمه أبو ماضي شواهد كثيرة على أنه يعترف بانفصال لبنان عن جسم الوطن السوري. فالنقطة التي تمسّك بها أبو ماضي ليستظهر على مكرزل ويظهر بمظهر البطل في قضية كانت قد انتصرت وكان انتصارها محتماً هي نقطة سياسية ظرفية لا نقطة مبدأية ثـابتة. فمن هذه الجهـة، يقـدر أبـو ماضي، بدون أقـل غـلط، أن يسدِّد المطـاعن التي وجّهها إلى السيد مكـرزل إليه هو نفسه، لأنه في قضية المبادىء أقـل من مرتبة الصفر في الأرقام. فهو يوماً عربي ويوماً آخر سوري ويوماً غيره سوري لبناني ويوماً بعده لبناني صرف، أو هو عربي مع العروبيين وسوري مع السوريين ولبناني مع اللبنانيين، وينطبق عليه ما قاله زميله حداد صاحب السائح، أي أنه يماشي الأكثرية لا فرق بين أن تكون على ضلال وأن تكون على هدى، وأنه يعدّ المبادىء والمذاهب الاجتماعية أزياء وقتية جميلة كلما لبقت. فاليوم يلبق هذا الزي لأنه يوافق الحالة الإقليمية وغداً يلبق زي آخر!
وقد جـارى أبـا مـاضي في قضية تسمية اللجنة السورية المشار إليها السيد عبد المسيح حداد العروبي الذي لا يعترف بأمة أو جنسية سورية إلا حين يكون له نفع، ووجد وقتاً للحفول بأقوال السيد مكرزل في كيفية تسمية اللجنة المشار إليها!
ولو كان السيدان أبي ماضي وحداد على شيء من الأدب الصحيح والثقافة الراسخــة لـكـان يجـب أن نعـجـب من دفـاعهما عن تسميـة جنسيـة ينكـرانها في «أدبهمـا» كـل يـوم تقـريباً. أمـا وهما كما ظهـر أمـرهما من التـدجيـل والشـعـوذة، فلا سبيل إلى العجب.
انتهى