تـمرّ الدول السوريـة في أزمـة علاقـات تهدّد الوحـدة القومية والـمصير القومي بأوخم العواقب. وأعتقد أنّ السبب الـجوهري في هذه الأزمة هو، من جهة، استمرار العقلية الرجعية في سيطرتها على فئات واسعة من الأمة السورية، ومقاومة هذه العقلية لتقدم الوعي السوري القومي، ومن جهة أخرى، وجود هوَّة، لا تزال سحيقة، بين حقيقة الأمة السورية وأهداف الـحكومات القائمة في الدول السورية، وبين قضية الأمة السورية الواحدة تـجاه الإرادات الأجنبية وقضايا الدول السورية الـمتعددة الـمجابهة بعضها بعضاً.
بعد حدوث الانقلاب العسكري في دمشق وإصدار قائد الانقلاب [حسني الزعيم] تصريحات دلَّت على اتـجاه نحو التقارب والتعاون الوثيق بين الشام والعراق، ظهر للعيان كأنّ ابتداء لعلاقات جديدة من نوع جديد بين الدول السورية يأخذ مجراه لتقريب الهوة السحيقة بين حقيقة الأمة السورية وقضيتها القومية ووحدة مصالـحها من جهة، ووجود الدول والـحكومات السورية وقضاياها الـخصوصية الـمنفردة من الـجهة الأخرى. ولكن موقف مصر وسلاح الـجامعة العربية ونصائح بعض الدول الكبرى كانت، على ما يظهر، أقوى مـما أمكن حكومة الانقلاب احتماله، أو أنّ قضايا الدول السورية الـخصوصية لا تزال متغلبة، بعوامل الرجعة والإرادات الأجنبية الـمتدخِّلة في كل شأن من شؤونها السياسية، على قضية الأمة.
يجب أن لا نقف عند هذا الـحد من التعمق في درس أسباب البلبلة والفوضى في الشـؤون السوريـة. مع ذلك فلست أريـد أن أتنـاول في هذه العجالـة جميع الأسباب الثقافيـة والتـاريخيـة والسيـاسيـة، بل سـأكتفي بإيضـاح الأسبـاب النفسيـة والسياسية والـمناقبية التي تـحول دون توحيد النظرة وتوحيد القوى وتوحيد الإرادة والقصد دون وضع حد للفوضى في شؤون سورية القومية والانتصار على العجز الداخلي والإرادات الأجنبية.
إنّ أهـم الأسباب النفسية هي بقـاء جماعـات كبيـرة من الأمـة السـوريـة، خارج نطاق الوعي القومي، مغلقة دون تيار التعاليم السورية القومية الاجتماعية، عاكفة على الدوران ضمن غوامض الـماضي، منصبّة على شؤون الـماضي اللاقومية. إنّ أهم الأسباب النفسية هي عدم وعي الشعب وجوده وعدم إدراكه قضايا حياته فهو لا يزال منساقـاً في تيـارات القضايـا الدينية والعشائرية لا يدرك وحدته التاريخية ووحدته الاجتماعيـة ولا وحدتـه الاقتصاديـة ولا وحدتـه السياسيـة في معتـرك الشعوب الـحية. فقضايا الأمة لا تزال مخضعة لقضايا اللغة والدين والتاريخ الديني السياسي ولقضايا طبقة متركزة في قضايا الرجعية الدينية السياسية. والـحكومات الـمولودة من انعدام الوعي القومي - الوعي لـحقيقة الأمة السورية ولوحدة حياتها ومصيرها - لا يـمكنها أن تدرك القضايا القومية الصحيحة، ولا أن تدير دفَّة سياستها في اتـجاه الـمصالح السورية القومية، فسياساتها هي سياسات خصوصية محدودة النطاق تتغلب فيها الأهداف الـخصوصية على الأهداف القومية.
الأسبـاب السيـاسيـة، إذن، لبقـاء الـفـوضى هي وجـود الهوَّة بين غـايـة الأمـة العظمى وغايات الـحكومات - بيـن الإرادة العامة الكامنة في حقيقة الأمة وتـمثيل الإرادات الـجزئية العشائرية والطائفية - بيـن النهضة القومية الاجتماعية والاستسلام للأمـر الـمفعـول.
أما الأسباب الـمناقبية فهي النفعية الشخصية، هي عوامل استغلال الـحالة النفسية والسياسية السيئـة لزيـادة الفـوضى وخدمـة الغايـات الفرديـة التي تستحل التلاعب بالآلام التي تتخذ صفة الثعلبـة السيـاسيـة فلا يـردعها عن تضحيـة الـمصـالح الشعبية في سبيل الـمنافـع الفرديـة رادع ولا تعني الـمصلحـة العامـة لها إلا مطيـة لأغراضها، وقاموسها لا يعرف للشرف القومي معنى. هذه النفعية الفردية التي تستحل التلاعب بآلام الشعب والـمتاجـرة بأحـزانـه فتبحث دائماً بجد ونشاط عظيميـن عن كل حالة شعبية يـمكن استخدامها وتستغل كل مرض نفسي للتقدم نحو أهدافها الـحقيرة، وتسرع في إنشاء الأحزاب للقوميات الدينية والأوطان الطائفية، وترتقي بثعلبتها الـماكرة إلى عظمة الاتصـال بسياسيي الدول الأجنبيـة ذات الـمطـامع الإقطاعيـة والرأسماليـة والـمساومة معهم على مصالـح الشعـب، فخـدمـة الـمطامـع الأجنبيـة هي صفـة من أقوى صفات السياسة النفعية. ولعل هذه النفعية الـمتفشية في جميع الدول السورية، التي لا تكل ولا تـمل من الألاعيب الـمعيبة في سبيل أغراضها الصغيرة، هي أعظم بلايا الأمة السورية قوة وحيلة في الكيد للإرادة القومية العامة وفي تـحطيم الـمصالح القومية لتنال بعض كسرها وشظاياها!
وقد أصبح واضحاً وأكيداً أنه لا يـمكن أية حكومة أو حركة حكومية في الدول السورية حل أزمة الأمة وإنقاذها من الفوضى. فالـخلاص لا يبحث عنه في الـحكومات، بل في الشعب - في إيقاظ وجدانه القومي لـحقيقته ولـمصالـحه ومصيره.
إنّ الـدولـة اليهوديـة التي قـامـت في جنـوب سـوريـة بفضـل الفوضـى السـوريـة وتضارب الـمصالح الـخصوصية بين الدول السورية قد دقَّت إسفيناً ضخماً في البلاد السورية، وفصلت بين منطقة النقب السورية الغنية بالنفط التي ضمتها مصر مؤخراً إلى أملاكها بفضل الـمهزلة الفلسطينية الفاجعة، ملحقة إياها بسيناء السورية التي أبقتها في حوزتها عقيب بعض الـحروب السابقة. وتلك الدولة اليهودية تغتنم اليوم كل فرصة تقـدمها لها الفـوضى السـوريـة لتـوسيـع الأرض التي تقـوم عليهـا وهي دائبـة في زيادة سكانها ومعدات الـحرب بينما الدول السورية تتلهى بخصوماتها الداخلية.
ليس غريباً أن تهتم الدولة اليهودية بإثارة الـخلاف والنزاع بين الدول السورية وتوسيع شقة الـخـلاف بيـن حكومـاتها، ولكن الغريب هو اتخـاذ مصر موقفاً عنيداً مقاوماً لكل تقارب بين الدول السورية يشتمّ منه نشوء نظرة سورية واحدة إلى الشؤون السياسية وتـمييز الـمصالح السورية من غيرها. فمصر تتدخل بكل قواها مباشرة وبواسطة الـجامعة العربية الـمتمركزة فيها والتي يديرها ناموس مصري دائم لتمنع توحيد الـمصالح والسياسة السورية، ملوحة بأنّ الـجامعة العربية أفضل من الوحدة السورية السياسية والاقتصادية. فصحافتها تـحارب فكرة التقارب السوري تـحت ستار محاربة مشروع عبدالله ومحاربة مشروع عبدالإله. وحاربت صحافتها قائد الانقلاب الشامي [حسني الزعيم] لـمجرّد ظهور اتـجاهه نحو التقارب بين الشام والعراق إلى أن طار القائد حسني الزعيم إلى مصر وتفاهم مع الساسة الـمصريين.
إنّ إحياء الـجامعة العربية من جديد لا يغني عن توحيد سياسة الدول السورية في قضية سورية قومية اجتماعية، تنقذ الأمة السورية من الفوضى وتـجعلها قادرة على الدفاع عن مصالـحها وحقوقها. فقد أخفقت الـجامعة العربية الـمسيّرة تـحت نفوذ مصر في صيانة الـحقوق السورية ولكنها خدمت الـمصالح الـمصرية بكل تأكيد.
إذا كانت مصر تعاون على إبقاء الدول السورية والـحقوق والـمصالح السورية مبعثرة فنحن لا نبشِّر بتجزئة مصر وبعثرة مصالـحها.
لا يـمكن سورية أن تتقدم إلا بقضية سورية قومية ولا خلاص للأمة السورية من الفوضى، التي هي أشد خطراً على حياتها من اليهود والتي لم يتفاقم الـخطر اليهودي إلا بفضـلها، إلا بامتـداد الوعـي السـوري القومي وباهتمام الشعـب السـوري بنهضته القومية الاجتماعية التي تـجعل مصيره في يده لا في يد اتفاقات إنترناسيونية ولا في إرادات أجنبية يتزلف إليها النفعيون من أبناء البلاد ويبيعون إليها مصالح الأمة ومرافقها ومواد البلاد الأولية.
قد يكون مشروع «سورية الكبرى» مشروعاً خصوصياً، وقد يكون مشروع «الهلال الـخصيب» مشروعاً خصوصياً، ولكن حياة الأمة السورية وسلامة وطنها وتـحقيق غاية نهضتها إلى العز والـمجد هي قضية قومية عامة كلية. وخلاص الأمة السورية هو في اعتناقها قضيتها القومية الاجتماعية الشاملة.