يحيا العالم اليوم في حالة توصف «بحالة ما بعد الـحرب العالـمية.» وهذه الـحالة هي حالة الـخراب الـمنتشر في الأقطار التي اجتاحتها نيران الـحرب العالـمية الثانية وجيوشها، واستنزاف القوة في الدول والأقطار التي اشتركت في الـحرب بجيوشها ومواردها، ولم تصبها الـحرب بتخريب عظيم في عمرانها. وقليلة جداً هي الدول التي لم تسقط تـحت عبء هذه الـحالة، لغنى مواردها وسلامة عمرانها من التخريب.
إنّ أشد الأمـم تـململاً تـحت وطأة نتائج الـحرب هي الأمـم الأوروبية، خصوصاً، وإنّ أوروبة تشعر بنتائج حربيـن طاحنتيـن لا نتائج حرب واحدة. ويجب أن نلاحظ ونتذكر أنّ أوروبة مرَّت في تطور اجتماعي خطير بيـن أواخر القرن الـماضي وأواسط هذا القرن. فزيـادة كثافة السكان ونـمو الصناعات وتقدم حركة التبادل والـمواصلات، كل هذه زادت احتكـاك الـدول الأوروبيـة بعضها ببعض، الأمـر الذي حدا ببعض الـمفكـرين إلى التفكير في إنشاء «وحدة أوروبية» وبلغ هذا التفكير شأناً كبيراً بُعيد الـحرب العالـمية الأولى، وقاد الفكرة حيناً كودنهوف فعقد الـمؤتـمرات الأدبية والفنية التي لم تفعل شيئاً أكثر من إحياء الفكرة كفكرة. ولكن الأمر لم يبقَ ضمن نطاق الفكر والتصور، بل انتقل إلى دوائر السياسة الأوروبية الإنترناسيونية فتبنّتها حيناً فرنسة، مغتنمة مركزها الـممتاز بعد اندحار ألـمانية في الـحرب العالمية الأولى، وحاولت أن تقيم في أوروبة اتـحاداً على النحو الذي تخيّله سياسيوها، ولكن ألـمانية الـجمهورية الويـمارية لم تقبل بـمشروع الاتـحاد الأوروبي الفرنسي الذي يُبقي قيادة الـمشروع في يد فرنسـة ويجعـل الـمصالح الفرنسيـة مسيطـرة فيه. فلما قـويـت ألـمانيـة بنهضتها الاشتراكية القومية، واستعادت حقوقها في الرين والسار والرور، ابتدأ السياسيون الألـمان في التفكير في مشروع ألـماني لاتـحاد أوروبي، وجاء دور فرنسة في رفض الـمشروع الـجديد، لأنه يجعل الاتـحاد الأوروبي في قبضة الدولة الألـمانية تقريباً.
نستخـرج من هـذه الـحقيقـة درسـاً يهمّنـا جـداً في فهم الـمقاصـد والنتـائـج في الأمور السياسيـة وهو: أنّ كـل اتـحـاد إنترنـاسيوني سيـاسي يخضع حتمـاً للمقـاصـد والـمـصالح القومية السياسية. فالاتـحادات السياسية عند الأمـم الواعية التي تـمثّل حكوماتها في السياسة الـخارجية مصالـحها القومية لا تؤخذ بـمثل السذاجة التي تؤخذ بها فكرة «الاتـحاد العربي» عند الـمنساقين في اللاوعي القومي من السوريين العروبييـن الذين لا يـميّزون بين الاتـحادات الإنترناسيونية السياسية والوحدة القومية الداخلية للشعب الواحد.
في التخبط الأوروبـي الـجديـد في حالة ما بعد الـحرب الأخيرة تبرز من جديد فكرة الاتـحاد الأوروبي السياسية. ولكنها هذه الـمرة تبحث في بريطانية بجد. فقد جعلت نتائج الـحرب العالـمية الثانية بريطانية تفكر بترك سياسة الابتعاد عن أوروبة ومشاكلها وهجر سياسة «الانعزال البديع» في جزيرتها الكبيرة. والذي يدعو بريطانية إلى الاهتمام بإيجاد رابطة سياسية أوروبية هو، بدون شك، دخول روسية في القسم الشرقي من أوروبة ووجوب إيجاد جبهة متماسكة في غرب أوروبة تكون في جانب بريطانية، وكان بعض السياسييـن البريطانييـن قد ذهبوا إلى أبعد من فكرة التأليف بين دول أوروبة الغربية - إلى فكرة جمع بريطانية وفرنسة في دولة واحدة. ولكن صعوبات هذه الفكرة، على ما بين بريطانية وفرنسة من روابط، لم تـجعل لها قابلية التحقيق.
إنّ وحدة الـحياة القومية شيء والاتفاق، بضرورة الـمصالح والتقارب الثقافي أو الروحي، شيء آخر. ولذلك فإنّ ما يـمكن إحداثه اليـوم في أوروبـة بينما ألـمانيـة محطمة ومـمزقـة ومجـرّدة من صنـاعتهـا الكبـرى، وفرنسـة وإيطاليـة تنهضان ببطء بواسطة الـمساعدات الأميركانية والبريطانية ليس بالشيء الذي يـمكن أن يوصل أوروبة إلى الاستقـرار الذي لا يـمكن أن يحـدث إلا بوحـدة حيـاة أوروبيـة تتكون بها أمة أوروبية جديدة، وعوامل صهر أوروبة وحياكة نسيج حياة واحدة من أمـمها لا تزال عوامل ضعيفة على الرغم من كل ما يذاع عن محاولات اتـحادات أوروبية.
ولا يـمكننـا أن نغفـل عامـل السياسـة الأنكـلوسـكسـونيـة والسيـاسـة الروسية أو الصقلبية في كل ما يحاك الآن من مشاريع اتـحاد لأوروبة اقتصادية أو سياسية. وتدخّل هذين العاملين يؤثر كثيراً في حالة أوروبة ومشاريعها الاقتصادية والسياسية.
إنّ العبرة في ما نسمع من مشاريع اتـحادات إقليمية، هي في الـمقاصد لا في الأشكال التي تعطى. والنظرة القومية في هذه القضايا هي الـمقياس الصحيح الذي يعوَّل عليه. وما دامت أوروبة، رغم كل مشاريع الاتـحاد، مؤلفة من أمـم، فلا بدَّ للأمـم الـمغلوبة من أن تتغير حالتها بتغير الظروف، وبتغير أحوال الأمـم تتغير وتتبدل أشكال الاتـحاد الأوروبي ومشاريع الاتـحاد. وبعض هذه الـمشاريع قد يعني بطبيعته مشروع عدم اتـحاد بشكل مقترح اتـحادي لا يحقق رغبات الأمـم الـمدعوة للمساهمة فيه، لأنّ مشاريع الاتـحاد وتأليف جامعات أمـم لا تزيد القوميات ولا تعطِّل اتـجاه الأمـم التاريخي ومقاصدها.
لا توجد اليوم قوة أوروبية كبرى على القارة نفسها تتمكن من إعطاء أوروبة اتـجاهاً موحداً في شؤونها، أو أن تكون الـمحور الذي تدور عليه حركة أوروبية جامعة، ولذلك فإنّ جميع الاتـحادات التي يـمكن أن تـحدث فيها اليوم لن تكون سوى تسويات بانتظار عامل فاصل في الـحوادث الـمقبلة.