لبنان متعب في داخليته، ولكنه ليس وحده متعب فجميع الدول السورية متعبة في داخليتها لأنها جميعها تواجه أعباء حياة جديدة بقضاياها وهي لا تزال تتسكع في قضايـا أزمنـة قديـمة. فالأمـة السوريــة تـحتـاج إلى الانتقـال من قضايـا تلك الأزمنـة التي صرفتهـا عن حقيقتـها وغـايـاتها الأصلية العظمى إلى هذه الغـايـات العظمـى في نهضة عظيمة.
النهضة الانتقالية لا يـمكن، بالنسبة إلى طبيعة أمة مـمتازة كالأمة السورية، أن تـحدث بحلة تُخلَع على الإدارة الـحكومية وعلى الشعب من فوق. فخلع الـحلل لا يغيّر النفوس ولا يقلب العقليات ولا ينشىء عقيدة حية جديدة تفعم النفوس بالإيـمان وتدفع الأمة في طريق الـخلق والإنشاء والتغلب على الصعوبات والتفوق في صراع الـحياة. فلا يفعل ذلك غير نهضة وعي وخلق تنشأ في صميم الشعب من تـحت وتنتشر في أوساطه فاكّة عقال قواه ونشاطه. فتكون نـمو حياة من الداخل وتعبيراً عن مبدأ الـحياة لا عن مبدأ الـجماد. أما الـحلل الـمخلوعة فهي من مبدأ الـجماد لا من مبدأ الـحياة لأنها تراكم على الـجسم من الـخارج.
تختلف الأمة السورية عن أمـم أخرى في أمور أساسية: فالأمة السورية أمة عريقة في الثقافة والتمدن، أمة خصبة النفس، متحركة العقل، أمة شديدة الإحساس بالقضايا العميقة في الـحياة. لذلك كانت نهضتها أمراً يختص بصميم طبيعتها ومواهبها الـمؤهلة لفاعلية عظيمة، فالأمور الـمفروضة فرضاً بدون تأسيس صحيح في نفسية الأمة لا يـمكن أن توصل الأمة إلى غايتها العظمى. أما بعض الأمـم الأخرى غير الـمماثلة للأمة السوريـة في قـوة تـركيبها ومـواهبها وثقافتها العريقة واختباراتها فحاجاتها سطحية وشكلية أكثر مـما هي أساسية وعميقة، ولذلك كانت الإصلاحات الشكلية سادّة لـحاجاتها. فإيجاد حالة مدنية فيها هو كل ما تـحتاج إليه تلك الأمـم، أما الأمة السورية فلا تقبل بأقل من: نظرة جديدة إلى الـحياة والكون والفن.
قلت في مكان آخر (ص 309 أعلاه) إنّ الأمة تـمرّ اليوم في طفرة خطرة هي طفرة تأليف الأحزاب وتصور «الإصلاح» في أشكال وأشكال، والـحلم بالانقلابات الـحكومية والاهتمام بالانقلابات، خصوصاً بعد حصول الانقلاب في الشام. إنّ هذه الطفرة هي طفرة خطرة لأنها ناشئة في غالب الأحيان من صميم النفسيات الـمريضة والقضايا الرجعية والـخصوصية.
إنّ الولـع بالانقلابـات الانتقاميـة والسعي لـحل مشاكل الاستياء الـخصوصي والغايات الـخصوصية لا يـمكن أن يكون حاجة قومية. إنّ حاجة الأمة هي إلى عقيدة ومبادىء تنشىء جيلاً جديداً ونظاماً جديداً وجمالاً جديداً. إنّ حاجة الأمة هي إلى حركة تسير بها في طريق البطولة والعز والـمجد!
في البلاد فئات كثيرة تكتلت على قضايا رجعية ونايو رجعية، تصيح دائماً وأبداً معلنة عدم الرضى عن الـحالة التي يئن منها الشعب، مطالبة «بالإصلاح» ولكنها تـجعل السبب كله في الشكليات كالـمجلس النيابي أو الوزارة. إنّ الـمجلس والـحكومة الناشئيـن من النظام السياسي الاجتماعي القائم في البلاد، أو بالـحري من الفوضى السياسية الاجتماعية ومن القضايا الإقطاعية والعشائرية والـحزبية الدينية لا يـمكن أن يكونـا واسطـة للسيـر بالشعب في طريق حياة جديدة. ولكن هل تغيير الـمجلس والـحكومة بوضع فئات لها النفسية الإقطاعية والعشائرية ولها قضايا الـحزبية الدينية عينها يغيّر حالة الأمة ويحوّل الرجوع إلى تقدم؟
إنّ مجرّد تغيير الـمجالس والـحكومات لا يغيّر حالة بلاد ولا ينهض بأمة. وإنـما يغيّر الـحالة وينهض بالأمة نشوء رسالة جديدة - نشوء عقيدة جديدة وحركة جديدة للعقيدة الـجديدة الـمحيية، فتتغير القضايا نفسها التي هي سبب انحطاط الأمة ويهتدي الشعب إلى طريق عزه وخيره. فالـمجالس الـجديدة التي لا تكون وليدة نهضة ووعي جديد قد تكون أسوأ حالاً من الـمجالس القديـمة.
الذين أنشـأوا قضايـا نايـو رجعيـة ويغـوصـون في بحـار الرجعيـة ونفسياتها الـمريضة، والذين أنشأوا تكتلات بالتواطؤ مع الأجنبي الـمحتل لـخدمة القضايا التي أرادها الأجنبي لـمآربه، لا يـمكن أن يغيّروا حالة البلاد السيئة ولو غيّروا الـمجلس النيابي عشرين مرة عشر مرات!
قد آن للشباب السليم النية أن يعلم أن لا تغيير لـحالة البلاد ولـمصير الأمة إلا بالنهضة القومية الاجتماعية التي وضعت أساس بناء نفسي - اجتماعي - سياسي جديد ونظرة مدرحية إلى الـحياة والكون والفن.
لائحة العقاقير لا تصنع طبيباً وخلع الـحلل لا يولد نهضة!
إنّ الـحركة القومية الاجتماعية هي نهضة الأمة، وهي التي خلقت روحاً جديداً في الشعب، وأنشأت نظاماً جديداً لـحياته، وحققت له إصلاحاً عظيماً، فهي الـحركة التي قضت على قضايا الـحزبية الدينية وجمعت في صفوفها أبناء الأمة من جميع الـملل الدينية ومن جميع أنحاء البلاد الدانية والقاصية.
إننا نهضة قومية اجتماعية من صميم الشعب، من صميم قضايا حياته وعزّه، والذين يبحثون عن النهضة خارج نطاق النهضــة القوميــة الاجتماعيـة قد ضلـوا أبعــد الضلال.
الـحرب بيـن فئتيـن رجعيتيـن لا تـحدث تقدماً بل تأخراً. أما التقدم فيحدث بحركة تقدمية صحيحة.
أيها الشباب! لا تنتظروا الإصلاح بتغيير الأشكال، ولا تطلبوا الإصلاح من الـخارج. إنّ النهضة تبتدىء في نفوسكم فادخلوا صفوف النهضة القومية الاجتماعية وابنوا نفوسكم فيها بناءً جديداً فهي الإصلاح فعلاً ومقدرة لا صياحاً وعجزاً!
النهضة القومية الاجتماعية تقدمٌ وانتصار وعزّ!