دوّنـها الأميـن جورج عبدالـمسيح
نقلاً عن كتاب الـمحاضرات العشر،دمشق،1952
موضوعنا اليوم الـمبدأ الإصلاحي الـخامس ـ «إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن». نتابع الشرح الـمختصر لهذا الـمبدأ.
«إنّ تنازع موارد الـحياة والتفوق بين الأمـم هو عبارة عن عراك وتطاحن بين مصالح القوميات. ومصلحة الـحياة لا يحميها في العراك سوى القوة، القوة بـمظهرها الـمادي والنفسي (العقلي). والقوة النفسية، مهما بلغت من الكمال، هي أبداً محتاجة إلى القوة الـمادية، بل إنّ القوة الـمادية دليل قوة نفسية راقية. لذلك فإن الـجيش وفضائل الـجندية هي دعائم أساسية للدولة.
«إنّ الـحق القومي لا يكون حقاً في معترك الأمـم إلا بـمقدار ما يدعمه من قوة الأمة. فالقوة هي القول الفصل في إثبات الـحق القومي أو إنكاره.
«وإنّ ما نعنيه بالـجيش هو جميع أقسامه البرية والبحرية والـجوية، فإن الـحرب التي ارتقى فنها ارتقاء كبيراً توجب أن يكون تأهبنا كبيراً.
«الأمة السورية كلها يجب أن تصبح قوية مسلحة.
«لقد اضطررنا إلى النظر بحزن إلى أجزاء من وطننا تسلخ عنه وتضم إلى أوطان أمـم غريبة لأننا كنا فاقدين نظامنا الـحربي وقوّتنا الـحربية. إننا نريد أن لا نبقى في هذه الـحالـة من العجز. إننا نريد أن نحـوّل جزرنا إلى مد نستعيد به كامل أرضنا وموارد حياتنا وقوّتا.
«إنّ اعتمادنا في نيل حقوقنا والدفاع عن مصالـحنا على قوّتنا. نحن نستعد للثبات في تنازع البقاء والتفوق في الـحياة وسيكون البقاء والتفوق نصيبنا».
لا يـمكننا بالـمنطق وحده، لا يـمكننا بإظهار الـحق مجردّاً أن ننال الـحق. لأن الإنسانية بالـحقيقة ليست إنسانية واحدة.
في كتابي نشوء الأمـم عرضت لهذه الناحية، وأوضحت كيف أنه لا يوجد في العالم إنسانية واحدة بل إنسانيات. إنسانيات عددها عدد القوميات والأمـم. لذلك فإن ما هو حق للبعض ليس حقاً للبعض الآخر. لأن الـمصلحة في العراك هي في الأخير أساس الـحق في كل معترك.
هذه هي الناحيـة العملية التي لا غنى عن مواجهتها. لا يـمكننا أن نعتمد في فلسطيـن ـ لكي ننال حقنا ـ على إظهار هذا الـحق مجرّداً. يجب أن نعارك، يجب أن نصارع، يجب أن نحارب ليثبت حقنا. وإذا تنازلنا عن حق العراك والصراع تنازلنا عن الـحق وذهب حقنا باطلاً.
لذلك كـان اتـجاهنا نحو إنشاء قوة مادية تدعم قوّتنا النفسية، قوّتنا النفسية العظيمة أو الفكرية الشعورية، أمراً يدل على أننا نرفض قبول الـحالات التي لا تطيقها نفوسنا الـحرة الأبية. نرفض أن ننال أقل مـما يكتبه الله أو يريده بالذين يعملون بالـمواهب التي أعطاهم.
إذا كانت لنا طلبات ورغبات في الـحياة يجب أن تكون لنا إرادة قادرة على تـحقيق الـمطالب ويجب أن تكون لنا القوّة اللازمة لتحقيق تلك الـمطالب.
لا يعني ذلك أنه يجب أن نـجهل ونركب الـجهل في رؤوسنا، أن نغترّ بالقوَّة، لكنه يعني أيضاً، أن لا نـجهل، إلى حدّ أن نحتقر القوَّة.
لا مفر لنا من التقدم إلى حمل أعباء الـحياة إذا كنا نريد البقاء. فإذا رفضنا البقاء عطَّلنا الفكر والعقل. عطَّلنا الإرادة، عطلنا التمييز وأنزلنا قيمة الإنسان إلى قيمة الـحيوان.
لذلك كان اهتمامنا بالقوَّة الـمادية ضرورياً ولازماً. إنه دليل على نوع نفسيتنا، نوع إدراكنا، نوع أهليتنا. إذا أغفلنا الناحية الـمادية أثبتنا أننا أغفلنا الناحية النفسية أيضاً.
إنّ العقل يستخدم الـمادة ويسيّرها. فإذا تـرك استخدام الـمادة وتسخيرها لأغراضه ترك موهبته وفاعليته الصحيحة وأصبح جامداً.
على أنّ عقليتنا ليست من العقليات الـجامدة الـمسترسلة إلى قواعد وهمية لـما هو الـحق والسلام في العالم. يعني أنّ نفسيتنا تفهم الوضع وتفهم ما تريد من الوضع الـماثل أمامها، وتعدّ العدة لإثبات حقها ولنيل مبتغاها في الـحياة.
ولذلـك نـجد هذه العبارة الواضحة في النص «إنّ الـحق القومي لا يكون حقاً في معترك الأمـم إلا بـمقدار ما يدعمه من قوة الأمة. فالقوَّة هي القول الفصل في إثبات الـحق القومي أو إنكاره».
بعد إيضاح ما تقدم لا بدّ لنا من التقدم إلى النظر في بعض أفكار أو اعتراضات فكرية نسمعها يومياً تقريباً، هي نتيجة عهد من الـخمول والذّل طال أمره في هذه الأمة.
الاعتراضات الفكرية التي نسمعها، سلمية، نسمعها كل يوم «ما لنا وللحرب؟ لـماذا لا نعلن أمتنـا وبلادنـا أمـة وبـلاداً محايـدة في كـل الـحروب، لا جيش ولا سلاح، لا تـحارِب ولا تـحارَب؟»
على هذه القاعدة أيضاً يعتمد الذين يقولون اليوم بالعودة إلى لبنان الصغير، فيما إذا تهدد الكبير في الأساس الذي نشأ عليه، وحين يقال لهم إنّ لبنان الصغير يصبح دولة وهمية بكل معنى الكلمة يقولون: لا!! بل تكون دولة فعلية، دولة قائمة ثابتة كثبوت سويسرة مثلاً.
سويسرة، دولة لا تـحارِب ولا تـحارَب. فإذا عملنا لبنان، صغيراً كان أو كبيراً، لا يـحارِب ولا يـحارَب صرنا مثل سويسرة ولم نعد نـحتاج إلى شيء آخر. لا نـحارِب ولا نـحارَب.
سويسرة بلاد لـحيادها أسباب. اسباب لا يـُمكن أن تتوافر لا في لبنان ولا في سورية الطبيعيـة، كلها. إنّ مركز هذه البلاد من حيث الـمواصـلات ومن حيث أنها نقطة استراتيجية، للمواصلات والـحرب لا يسمح مطلقاً بتحويلها إلى بلاد محايدة كسويسرة التي هي كالصمام في ملتقى طرق مواصلات دول عظيمة على جوانبها مستعدة للتطاحن والعراك على صيانة هذا الـحياد والذود عن حدود تلك البلاد.
لبنان، كبيراً أو صغيراً، ليس له من القوَّة والأساليب الإقناعية ما يـمكنّه أن يكون مثل سويسرة بكل معنى الكلمة. فالقول أن لا نحارِب ولا نحارَب يحتاج إلى شيء لا يـمكننا اليوم أن نتمنى نواله. وهذا الشيء هو قبول دول العالم قبولاً وجدانياً نهائياً باعتبارنا بلاداً مستقلةً لا تهاجَمْ مطلقاً من أي جهة، وأن تكون هذه الدول مستعدة للدفاع هي نفسها عن الـحدود إذا سوّلت لأحد نفسه الاعتداء عليها.
قال لي مرة مواطن: ـ كان ذلك في البرازيل ـ أنا معكم، إنّ سورية بلاد واحدة وشعب واحد، وإنّ وحدتها أفضل لـحياتها، وأنا معكم في إنشاء الوحدة ولكني أخالفكم في إنشاء جيش وفي الاستعداد للحرب. لـماذا لا نكون مثل سويسرة؟ نوحد البلاد ونعلن أننا لا نحارِب ولا نحارَب؟
قلت له (إيـدي بـزنـارك) إذا توصلت إلى إقناع الدول جميعها بالتعهد أنها لا تعتدي ولا تسمح بالاعتداء على البلاد، وتعيد إليها حدودها كاملة ليتمكن الشعب أن ينمو فيها فلا تـجد معارضاً. ولكن أن تـمنينا وتـمني نفسك بالـمحال فمثلك مثل جحى. جحى أراد أن يخطب بنت الـملك لابنه، تشاور مع امراته وابنه، فقبلا، ولم يبقَ إلا شيء واحد، هو أن يقبل الـملك وامرأته وابنته.
كل أمة أو دولة إذا لم يكن لها ضمان من نفسها، من قوّتها هي، فلا ضمان لها في الـحياة على الإطلاق. يـمكن أن تـجد لها ضماناً مدة من الزمن في عهود وعقود ومعاهدات. ولكن هذه أمور قابلة للتطور والتحول والتغيّر. لا ثبات لها على الإطلاق.
كم مرةٍ نقضت أمة معاهداتها. كم مرةٍ انقلبت دولة على تعهّد من تعهداتها. كم مرةٍ حصلت أمة على تأكيد بأن حدودها لا تـمس فاجتيحت في اليوم الثاني.
العقود والضمانات والـمعاهدات تقوم ما ثبتت الـمصالح التي تؤمنها لـجميع الأطراف الـمشتركة فيها فإذا بطلت الـمصالح أو انتفى بعضها، نقضت الـمعاهدة أو الاتفاق أو العهد.
لذلك لا يـمكن مطلقاً التسليم، باقتناع، أنه يكفي إظهار حق الـجماعة على نفسها وفي وطنها لتحوز الـحق لها. لا يكفي. إنّ الـحياة صراع، خصوصاً الـحياة القومية. وما زالت الإنسانية قوميات لا إنسانية واحدة لا يـمكن مطلقاً الاعتماد على فكرة نظرة حق مجرّد.
نعود إلى ناحية ثانية، نقول نحن أمة صغيرة ضعيفة لا قبل لها بالـحرب، فماذا يـمكننا أن نفعل؟ كم يـمكننا أن نحشد من الـجيوش؟ وماذا نستطيع أن نفعل بهذا الجيش؟
الـجيش هو الكمية والقوة اللازمة لتغيير الأمور من عدم توازن إلى توازن. أو توازن إلى عدم توازن. إنّه ضرورة لا مفر منها.
كل أمة تعتمد اليوم ليس فقط على قوة جيشها مهما بلغ من الكمال. القوَّة هي قوتان: نفسية ومادية. فكرية ونظرية أو سياسية وحربية. كل أمة تـحتاج إلى إبلاغ قوّتها الداخلية إلى أعلى درجة، ومع ذلك إلى تثبيت نفسها في التوازن الإنترناسيوني.
لكن التوازن الإنترناسيوني قد يختل. قد تنشب حرب فإذا لم تكن بلاداً قوية قادرة، على الأقل، على الدفاع مدّة من الزمن إلى أن تكون الـجبهة التي هي فيها تـحركت ووضعت كل فاعليتها في العراك، تـمحى تلك الأمة من الوجود ولا يعود يفيدها أنها موجودة في جبهة من الـجبهات مهما كان هنالك اتفاقات إنترناسيونية.
إنّ هذه الاتفاقات تـجد ضمانها في القوّة التي وراء تلك الاتفاقات.
إذا ضعفت القوَّة في ناحية من النواحي لا يـمكن للعقود أن تدفع عن أمة من الأمـم جيشاَ عدواً مكتسحاً. بل إنّ وجود القوَّة شرط للاتفاق. لا يتفق من معه شيء مع من ليس معه شيء. الاتفاق يكون بين اثنين أو أكثر مع كل منهم شيء يعتمد عليه. فإذا لم يكن معه شيء، كان على الأقل، وفي أحسن الـحالات، كمية تابعة مستخدمة لا رأي لها في الـمسائل، ولا إرادة في الـحياة.
ثم إنّ الكثرة والقلّة لا تقرر الـمصير. يقرر الـمصير، في أكثر الـحالات، التفوق، التفوق النفسي، التفوق العقلي الذي يسد كثيراً من عجز العدد. ومن هذه الـجهة نحن نقول إنّ الأمة السورية هي أمة متفوقة في نفسيتها، في عقليتها. إنّ تاريخها الـماضي يشهد على تفوقها. وحالتها الـحاضرة هي نتيجة لتصادم تفوقها ضمنها، في داخلها، بين جماعاتها، بعضها ضد بعض، ولأسباب وعوامل تاريخية أخرى.
من أتعس حالات هذه الأمة، أنها تـجهل تاريخها. ولو عرفت تاريخها معرفة جيِّدة صحيحة لاكتشفت فيه نفساً متفوِّقة قادرة على التغلب على كل ما يعترض طريقها إلى الفلاح.
يقولون إنّ بلادنا كانت دائماً مـمراً للغزاة الفاتـحين. وينسون أنّ بلادنا كانت أيضاً مصدراً لفتوحات عظيمة.
قبل أن تـجتاح مصر هذه البلاد اجتاحت جيوش هذه البلاد مصر وأخضعتها. وأنشأت فيها الدولة الفرعونية الـمعروفة بالهكسوس وحكمت مصر مدة من الزمن. وأبو الهول هو من زمن الدولة الفرعونية السورية في مصر.
وبالفتح السوري لـمصر نقلت إلى مصر معارف جديدة كاستعمال العجلات والـخيل وتنظيم الـجيش، إلخ.
ثم بعد أن اجتاحت الـجيوش الـمصرية سورية، عادت موجة أخرى فاكتسحت مصر في زمن الآشوريين والكلدانيين. سنحاريب كان يتناول الـجزية من فرعون مصر.
ثم ننظر في ناحيـة أخرى. الفتوحـات السوريـة في الغرب. الناحية البحريـة التي قام بها الفينيقيون الذين لا نسمع من التاريخ التقليدي عنهم إلا أنهم شعب يعرف التجارة، وأنه كان جاهلاً بـمعدات الـحرب متخاملاً قاعداً عن الأمور العظيمة.
معي هنا كتاب بالإسبانية (Cannas) وهو يخص مكتبة الضابط في الأرجنتين أي الـمكتبة الـمخصصة للضباط، مترجم عن الألـمانية، مؤلفه الكونت فون شليفن أحد أعاظم الـمفكرين والقادة الـحربيين.
هذا الكـونت هو أعظم دماغ تخطيطي للحرب ظهر في ألـمانية وعلى قواعد نظرياته يبني الفنيون الألـمان في التخطيط. عليه اعتمدوا في الـحرب العالـمية الأولى وعليه اعتمدوا في الـحرب العالـمية الأخيرة.
و(Cannas) هي ترجمة اللفظة اللاتينية لـ (كني) موضع في إيطالية على مقربة من رومة.
صار الاسم شهيراً بالـمعركة التي جرت في سهله. فالـمعركة التي دارت بين جيش سوري فاتـح، جيش الفينيقي هاني بعل، وبين الـجيش الروماني الـمدافع عن رومة التي أصبحت مهددة بالسقوط.
(وأخـذ الزعيـم لـوحـاً أسـود كـان معـداً لهذا الغـرض ورسم عليه تخطيطاً لـمعركة كني).
(1) ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
..... ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ .....
..... ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ .....
..... ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ .....
..... ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ .....
..... ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ .....
(2) ..... ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ .....
..... ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ .....
..... ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ .....
..... ـ ـ ـ ـ .....
..... ـ ـ ـ ـ .....
ـ ـ ـ ـ
ـ ـ ـ ـ
ـ ـ ـ ـ
ـ ـ ـ ـ
هذه القطع هي جيوش. صفوف بعضها وراء بعض.(1) هي الـجيوش الرومانية (علامة ـ) تدل على قطع الـمشاة الفيالق أو الكتائب Phalanges و (علامة .) الـخيالة. إلى جانب خيالة ثقيلة وإلى الـجانب الآخر خيالة خفيفة أي الـخيالة التي تـحمل سلاحاً ثقيلاً والـخيالة التي تـحمل سلاحاً خفبفاً.
وفي (2) الـجيوش السورية. (علامة ـ) أيضاً قطع من الـمشاة. و (علامة .) الـخيالة. الـخيالة الـخفيفة تـجاه الـخيالة الـخفيفة والـخيالة الثقيلة تـجاه الـخيالة الثقيلة.
من نظرة على هذا الـمشهد ترى أنّ هنالك اختلافاً كبيراً في ترتيب الـجيشين. الـجيش الروماني (1) والـجيش السوري (2).
الـجيش الروماني فيالق وكتائب متراصة متجهة إلى الأمام.
في الـجيش السوري ترتيب آخر هو الترتيب الذي حدث على هذه الصورة لأول مرة في التاريخ فقلب كل النظريات رأساً على عقب.
ترى القطع تـحوي صفين أو ثلاثة صفوف وقائمتين إلى اليمين وإلى اليسار.
الكميـة العدديـة حسب كتاب فون شليفن للجيشيـن أنّ الـجيش الروماني كان يبلغ تسعة وسبعين ألفاً، والـجيش السوري خمسين ألفاً من الـمحاربين. أي أقل بنحو ثلاثيـن ألفاً من جيش العدو. والـموقع في إيطاليـة، البلاد الغريبة التي دخلها هاني بعل أول مرة بعد أن اجتاز أهوالاً في قطع جبال (البيرينيه) والألب بين إسبانية وفرنسة وإيطالية.
إبتــدأ الهجـوم. ســارت الفيالـق الـرومانيـة إلى الأمـام، وســارت الـجيوش السورية لـمواجهتها.
تقدمت صفوف الوسط. ومن الطبيعي أنّ صفيـن أو ثلاثة صفوف لا يـمكن أن تقف أمام ضغط الصفوف الـمتراصة.
وطبيعي أن تنحني الصفوف السورية وتبدأ تتراجع. أمّا القائمتان فكانتا تتحركان إلى الأمام على جانبي جيش العدو.
في الوقت عينه اشتبكت الـخيالة. وكان هنالك قيادة ماهرة في الـخيالة، وأحد الـماهرين اسمه ماهر بعل قائد تـحت أمرة هاني بعل.
في حملة من الـخيالـة الثقيلة تـمكنت الـخيالة السورية من إهلاك الـخيالة التي كانت أمامها. فارتدّت الـخيالة الرومانية عبر النهر الذي كان الرومان قد قطعوه قبل الـمعركة، فتبعتها الـخيالة السورية عبر النهر فتشتّتت ولم يبق منها شيء. ودارت الـخيالة
السورية الثقيلة على الـخيالة الرومانية الـخفيفة حتى انتهت من إهلاكها.
وعادت الـخيالة السورية فأطبقت على جيش العدو من الوراء بينما القائمتان على جانبي الـجيش الروماني. فحصر الـجيش الروماني في نطاق حديدي ولم ينجُ من الرومان في ذلك اليوم إلا ستة آلاف تـمكنوا من الإفلات لأن سواعد الـجنود تعبت من التقتيل في آخر النهار.
أريد أن أرسم الآن جهة أخرى.
النتيجة التي تـحصل مـما تقدم من الوجهة الاستراتيجية هي حركة الالتفاف على العدو. أخذ الـجانب حول العدو ومحاولة تطويقه. هذه النظرية أجريت لأول مرة في (كني) والقائد الذي ابتدع هذه الـخطة وهذا التخطيط كان سورياً ـ هاني بعل.
ومنذ ذلك التاريـخ أصبحت هذه النظريـة الاستراتيجيـة فاعلـة إلى أن جاء نابوليون. نابوليون استعملها في مواقع وعدل عن استعمالها في مواقع أخرى وابتدع قاعدة تقول إنه لا يجوز للجيش الأقل أن يطوّق الأكثر لأن الضغط من الداخل يـمكن أن يفتح ثغرة في الـجيش القليل الـمطوق.
في تـحليل فون شليفن يثبت أنّ نظرية هاني بعل مع أنها الأقدم هي الأصوب فقد استعملت هذه النظرية بجيش أقل على جيش أكثر بثلاثين ألفاً، وبفضل هذه النظرية تـمكن من التغلب وسحق العدو سحقاً تامّاً.
في الـحـرب الأخيرة كيف كانت تـجري حركات التطويق؟ الـمصفحات والدبابات تـمثّل الـخيالة. تسير على الـجوانب، تفتح طرقاً، تدور حول العدو في حركة كلها ترمي إلى التطويق مثل الكلاليب فإما أن تأسر أو تسحق القوة التي تطبق عليها، وهو تطبيق لـما أجرى في (كني).
نوع آخر في التطويق. السبق إلى احتلال الـجوانب، الأراضي، التي يـمكن منها أن يحارب العدو من جوانبه في جيوشه وحتى على بلاده بجملتها.
في الـحرب الأخيرة حصل نزاع بين ألـمانية وبريطانية على منطقة كانت هامّة جداً للفريقين من الوجهة الاستراتيجية، النروج. إما أن تـحتل بريطانية تلك البلاد لتصل إلى جانب ألـمانية أو أن تـحتل ألـمانية النروج لتتمكن من الضغط على بريطانية.
هذا الاتـجاه هو تكرار لـما حصل تـماماً بين قرطاضة ورومة، حدثت هكذا:
كان مركز قرطاضة قرب الـموقع الذي فيه تونس. ففي الـحرب الفينيقية الأولى، جرى نزاع في جزيرة سردينية فاندحرت الـجيوش السورية، واضطرت إلى توقيع معاهدة لم تكن في مصلحة قرطاضة.
من الـمستحسن أن نذكر حوادث صغيرة تدل على النفسية.
في الـمعارك الأولى بين الـجيش الفينيقي والروماني كان الرومان هم الرابحون في أكثر الـمعارك فاختار مجلس شيوخ قرطاضة إرسال والد هاني بعل للقيادة فوجد أنّ الـجيش كان في حالة من الـميعان والفوضى، فاستعمل ما يعيد معنويات الـجيش واستعمل الـحكمة في إعادة روح النظام إليه.
في معركة كبيرة انكسر جيشه أمام الـجيش الروماني واضطر إلى الانسحاب دون أن يتمكن من سحب القتلى.
أرسل القائـد السـوري في اليوم الثاني يستأذن القائد الروماني بسحب القتلى فأجابه القائد الروماني «قل لهميلكار الأفضل له أن يهتم بالأحياء لا بالأموات». ولم يأذن بسحب القتلى.
بعد مدة قليلة جرت معركة أخرى انتصر فيها هميلكار وانسحب الرومان من غير أن يتمكنوا من سحب قتلاهم. فطلب قائدهم الإذن في لمّ القتلى. فأجابهم هميلكار «إني آذن بذلك، يـمكن أن تأتوا وتسحبوا القتلى لأننا نحارب الأحياء لا الأموات».
بعد هذه الـحرب الأولى التي خسرت فيها نهائياً قرطاضة صار هناك تزاحم لأن الـحرب كانت ستعود إلى أن تغلب إحدى القوتين الأخرى غلبة نهائية.
حاول الاثنان، نظر الـجانب القريب، الإمكانية الـجانبية. إسبانية وجنوب فرنسة.
هميلكار، بعد أن خُسرت الـحرب الفينيقية الأولى اهتم بتحسيـن مركز قرطاضة، ثم بحث عن الـمواقع الاستراتيجية وأدرك أنه يجب الإتيان من الـجانب.
إهتم من جهة بقرطاضة لتكون أقوى. وأدرك أنه يجب امتلاك إسبانية ليصير عن جانب رومة ليتمكن أن يناور في البر والبحر أكثر تـجاه رومة.
وفي الـحال توجه جيش واحتل إسبانية. وبنيت قرطاضة الـحديثة (قرطاجنة) ومدن كثيرة أخرى. ومن هنا أمكن هاني بعل أن يدرب جيشاً يسير به، يقطع جبال (بيرينيه والألب): ويهبط إلى بلاد إيطالية. ولولا الـخلاف بين قيادة الـجيش ومجلس شيوخ قرطاضة ـ حتى إنّ الـمجلس لم يحاول أن يـمد هاني بعل بجيش واحد وحتى حدث في الأخير أنّ الرومان أرسلوا جيشاً إلى أفريقية فترك هاني بعل إيطالية عائداً ليقوم بـمعركة ـ زاما ـ التي انكسر فيها وخسرت قرطاضة تلك الـحرب الفاصلة.
إذا رجعنا إلى تاريخنا وجدنا أنّ عوامل التفوق عندنا كانت عظيمة جداً. كنا أسرع من غيرنا في أوقات عصيبة وحرجة. ولكن داخلياً لم نكن كغيرنا. الـمنازعات الداخلية، الفوضى الداخلية، ضعف النظام الداخلي هو الذي قتل التفوق السوري.
لا سبب عندنا لنخاف العراك من أجل تثبيت حقنا في الـحياة. نحن لا نبحث اليوم في إنشاء إمبراطوريات. لكننا نبحث في حق صحيح، في حق الـحياة في الوطن الذي هو ملك الأمة. وكما قلت سابقاً إنّ اعتمادنا على مجرّد إيضاح الـحق ليس كافياً ولم يكن كافياً. قد يذهب وطننا من أيدينا قطعة بعد قطعة ونحن لا نفعل غير كتابات وخطب وفوضى عظيمة في الداخل. جاسوسية خبيثة تعبث بعقول الناس. خيانات بيع الوطن. تـجزؤ وتفسخ اجتماعي وسياسي. وتـحدث الـحرب بهذه الـحالة.
لا يـمكن مطلقاً أن نحافظ على حقوقنا بخطب ومذكرات. وقد عرفتم ما هو رأيي في الرسالة التي وجّهتها في نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة الـماضية حيث قلت عن (جامعة الأمـم الـمتحدة):
«إنّ هذه الـمنظمة لم تنشأ كنتيجة عامة لإنسانية عامة. نشأت من أمـم منتصرة لتقرّ الـحق الذي تقرره الأمـم الـمنتصرة».
هذه هي الـحالة. إذا كنا نحن لا ننهض ولا نعتمد على أنفسنا ولا نستعد لإثبات حقنا ولتنفيذ إرادتنا في ما يخص حقنا، كان باطلاً كل مجهود وثمنٍ في أن نصل أن نكون أمة يـمكن أن تـحصل على الـخير الذي تستحقه.
نحن حركـة هجوميـة لا حركـة دفاعية. نهاجـم بالفكـر والـروح، ونهاجم بالأعمال والأفعال أيضاً. نحن نهاجم الأوضاع الفاسدة القائمة التي تـمنع أمتنا من النمو ومن استعمال نشاطها وقوّتها. نهاجم الـمفاسد الاجتماعية والروحية والسياسية.
نهاجم الـحزبيات الدينية،
نهاجم الإقطاع الـمتحكم في الفلاحين.
نهاجم الرأسمالية الفردية الطاغية،
نهاجم العقليات الـمتحجرة الـمتجمدة،
نهاجم النظرة الفردية. ونستعد لـمهاجمة الأعداء الذين يأتون ليجتاحوا بلادنا بغية القضاء علينا، لنقضي عليهم.
هذه هي وجهة سيرنا. هذا موقفنا في الـمشاكل السياسية الكبرى الـمحيطة بنا.
إذا كان لا بد من هلاكنا يجب أن نهلك كما يليق بالأحرار لا كما يليق بالعبيد.
نحن لا نعني بحركتنا لعباً ولا تسلية،
نحن نعني بناءً جديداً، نعني إعادة النفسية السورية الصحيحة إلى الأمة، إعادة الثقة والإيـمان بالنفس إلى هذه الأمة التي فقدتها.
نحن نعني أننا لا نرضى إلا حياة الأحرار ولا نرضى إلا أخلاق الأحرار.
قد تكون الـحرية حملاً ثقيلاً، ولكنه حمل لا يضطلع به إلا ذوو النفوس الكبيرة. أما النفوس العاجزة فتنوء وترزح وتسقط، تسقط غير مأسوف عليها.
تسقط محتقرة مهانة،
تسقط مستسلمة في ذلها.
تسقط وقد قضت على نفسها قبل أن يقضي عليها غيرها.
نحن بنظرنا سلبيون في الـحياة. أي إننا لا نقبل بكل أمر مفعول يفرض، وبكل حالة تقرر لنا من الـخارج.
لسنا ضعفاء إلا إذا أردنا أن نكون ضعفاء،
إذا سلّمنا بالأمور الـمفعولة وللأحداث التي تفرض علينا، قبلنا بالانحطاط الأخلاقي والـمعنوي والـمادي الذي لا مناص منه ما دمنا مستسلمين.
الذي يسقط في العراك غير مستسلم قد يكون غلب لكنه لم يقهر.
يقهر قهراً الذي يستسلم ويخنع.
ويل للمستسلمين الذين يرفضون الصراع فيرفضون الـحرية وينالون العبودية التي يستحقون.