دوّنـها الأميـن جورج عبدالـمسيح
النظام الـجديد، بـيـروت،الـحلقة السادسة، 1/4/1949
أيها الرفقاء والأصدقاء،
في حديثنا في الاجتماع الأخير قرأت لكم الـمبدأ الأساسي الرابع من مبادئ الـحزب السوري القومي الاجتماعي وشرحته، وعلّقت على الشرح درساً يوضح بعض النقاط إيضاحاً ضرورياً لفهم قيمة هذا الـمبدأ وقيمة شرحه وما يعنيه الـمبدأ والشرح لـحركتنا القومية الاجتماعية.
وقد قلت، تعليقاً على الـمبدأ والشرح الـمذكورين، مع أننا لا نقول بأصل سلالي واحد للأمة أو بسلالة واحدة يتكوّن منها الـمجموع القومي، لا بدّ لنا من الإقرار بحقيقة جوهرية هي حقيقة الـمزيج السلالي الـمعين الذي هو عامل أساسي، جوهري في إعطاء الأمة صفتها، حقيقة طبيعتها وأسباب مواهبها التي تظهر في أفعالها في مجرى التاريخ، أي أنه إذا لم يكن السوريون يعودون إلى أصل سلالي واحد، فإن لهم خصائص سلالية واحدة، حاصلة من مزيجهم، تـجعل لهم مزايا تتميز من مزايا، مزيجات سلالية أخرى مزايا شعوب أخر في العالم.
يساعـدنـا إدراك هذه الـحقيقة على فهم روح الأمة ـ فهم نفسيتها ومواهبها. وكما قلت في الاجتماع الـماضي إنه لا يـمكننا أن نفهم، فهماً صحيحاً، نفسيات الأفراد ونفسيات الـجماعات البشرية إلا بفهم فسيولوجيا وحقيقة تركيبها الوراثي أيضاً. إنّ هنالك علاقة وثيقة جداً بين نفسية الفرد الإنساني، بسيكولوجيته، وتركيبه العضوي، فسيولوجيته. وقد ضربت مثلاً، حينذاك، الشعوب الـمتأخرة كشعوب هنود أميركة التي لم تتمكن من إنشاء ثقافة مادية ولا ثقافة روحية أو نفسية. ومـما لا شك فيه أنّ من أسبـاب العجز عن إحـداث ثقافة مادية أو روحية راقية شيئاً من طبيعة الشعب، من طبيعة تكوينه الذي يعطيه مقدرته وإمكانياته النفسية.ومن باب التكملة لـما قلت في الـحديث السابق أضيف: إنّ هناك علاقة وثيقة بين الشكل والروح، بين فراسة الإنسان التشريحية، الـخارجية ونفسيته ومقدرته العقلية. فمن مجرّد النظر إلى وجه إنسان أو رأسه ندرك حالاً وسريعاً ولأول وهلة ما ينم عليه شكله من مقدرة وقوة نفسيتين، من ذكاء وتوقّد ونشاط روحي ونباهة عقلية، أو من تـحجّر عقلي وترهّل في القوى الـمدركة ـ من نقص لا يجيز مقدرة عقلية عالية أو مؤهلات ثقافية، ذاتية راقية.
إذا درسنا الشعب السوري كله، هذا الـمزيج السلالي السوري الذي أثبت خصائصه العالية وطابعه التفوقي في التاريخ ـ إذا درسنا هذا الشعب من الوجهة التشريحية، من الوجهة الأنتربلوجية الطبيعية، وجدنا توافقاً عظيماً بين إنتاجه الثقافي العمراني، وأفعاله التاريخية العظيمة من جهة، وأشكاله الأنتربلوجية الـممتازة. وهو توافق لا يـمكن أن يكون من سبيل الـمصادفات أو بلا مغزى. فالشعب السوري راقٍ جداً بـمزيجه السلالي الـمتجانس الذي مكنه من إنشاء الثقافة الـمادية والروحية وتقديـم إنتاج ثقافي مهم للتقدم الإنساني العام. ولا يـمكننا أن نتصور هذه الـمقدرة الإنشائية عارضاً لا علاقة له بالتركيب والشكل الطبيعي الفيزيائي وبطبيعة الـحيوية الوراثية فيه القادرة على الـخلق والاكتساب. فإذا نظرنا إلى شكل رأس الإنسان السوري وجدناه شكلاً مستوفي الـمطاليب لدماغ قوي نام في إمكانيات خصائصه: فالـجبهة عالية متقدمة تسمح لـمركز الفكر والإدراك في الدماغ بالـحرية ونـمو الـمقدرة، وعلو قمة الرأس وبروز القحف يسمحان للحواس ولـمركز الشعور ببلوغ كل قوّتها الطبيعية.
يصعب علينا كثيراً أن نتصور مقدرة عقلية عالية في جمجمة مشوهة وحيوية دماغية ضعيفة: أو في رأس ليست له هذه الزاوية الأمامية التي تـمثل علواً وبروزاً في مقدمة الرأس، وجبهته مضغوطة ومتراجعة كثيراً إلى الوراء. لذلك فإننا ندرك جيداً أننا إذ نقول بالـمزيج السلالي، وبأنه لا يوجد أصل سلالي واحد للأمة، لا نعني مطلقاً إهمال أهمية الـجنس وخصائص الـمزيج الـمتجانس، وإهمال الـحقائق العلمية الثابتة التي تعطينا أساساً جديداً للنظر في أصول الأمـم وأحوال الـجماعات البشرية على وجه العموم.
أنتقل بكم الآن إلى الـمبدأ الأساسي الـخامس من مبادىء الـحزب السوري القومي الاجتماعي. يقول هذا الـمبدأ:
الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية. وهي ذات حدود جغرافية تـميزها من سواها تـمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري في الشمال الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الـجنوب، شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب، شاملة جزيرة قبرص، إلى قوس الصحراء العربية وخليج العجم في الشرق. (وتوصف بالهلال السوري الـخصيب ونـجمته جزيرة قبرص).
لنلق نظرة على هذه الـخريطة ولنتعرف حدود وطننا الطبيعية. (وقام الزعيم إلى الـخريطة الكبيرة الـمعلقة على الـجدار وراءه) هذه جبال طوروس في الشمال الغربي أمام أضنة ومرسين وراء منعطف خليج الإسكندرونة الذي يحتضن جزيرة قبرص. وهذه الـجبال تـمتد نحو الشرق سلسلة محدودبة تبتدىء فيها أصول النهرين السوريين الكبيرين، الفرات ودجلة، إلى جبال البختياري أو زغروس، كما تدعى هذه الـجبال الفاصلة بين سورية وإيران، وتنعطف حول الأهواز السورية التي يليها خليج العجم الذي تنتهي عليه حدود سورية الشرقية. ومن هذه النظرة على حدودنا الشمالية الـممتدة من الشرق إلى الغرب نرى أنّ هذه الـجبال تكوّن قوساً طبيعية تـحيط من الشمال بهذه الأرض الغنية بالكنوز، الـخصبة التربة، الغزيرة الأنهر الـمنبسطة بين الـجبال الـمذكورة والعُربة (الصحراء) والبحر الأحمر وخليج العجم والبحر السوري. أما جزيرة قبرص فترون موقعها في حضن خليج الإسكندرونة وذراعها مـمتد نحو الـخليج السوري، فكأنها تقول من هذه الأرض أنا وإليها أنتمي. إنّ هذه الـجزيرة تكاد تكون ملتصقة بالشاطىء السوري، فهي، كما قلت في شرح الـمبادىء، قطعة من الأرض السورية في الـماء. إنّ تكوينها الـجيولوجي من تكوين هذه الأرض وموقعها الـجغرافي يجعلها تابعة لها ومركزها الاستراتيجي يكسبها أهمية عظيمة لسلامة الوطن السوري. وهي كانت في القديـم في قبضة السوريين فنزلها الكنعانيون (الفينيقيون) وتوطنوها وبقاياهم لا تزال فيها.
والآن لنسمع ما يقوله شرح الـمبدأ في كتاب التعاليم القومية الاجتماعية.
«هذه هي حدود هذه البيئة الطبيعية، التي حضنت العناصر الـجنوبية والشمالية الـمتجانسة التي نزلت واستقرت فيها واتخذتها موطناً لها تدور فيه حياتها، ومكنتها من التصادم ثم من الامتزاج والاتـحاد وتكوين هذه الشخصية الواضحة، القوية، التي هي الشخصية السورية، وحبتها بـمقومات البقاء في تنازع الـحياة».
إذن هذه الـحدود هي حدودنا، حدود وطننا، ويندر أن تكون لبلاد حدود أوضح أو في مـثل وضـوح هذه الـحـدود: طـوروس ـ البختيـاري (زغروس) ـ خليج العجم ـ قوس الصحراء العربية ـ البحر الأحمر ـ قناة السويس ـ البحر السوري، وفيه جزيرة قبرص. وضمن هذه الـحدود دارت حياة العناصر التي نزلت هذه البقعة عند فجـر التاريخ واستمرت تدور أثناء الأجيال وامتزجت في استمرارها وصارت شعباً واحداً. إنّ هذه الـحدود الواضحة، الفاصلة هي التي جعلت الامتزاج وتكوين الشعب السوري العظيم أمراً مـمكناً، حاصلاً في الواقع. فهي قد دفعت الأصول السورية إلى التمازج وإنشاء نسيج شعبي واحد، بقدر ما منعت التمازج الشعبي ما وراءها. وهكذا أمكن الشعب السوري أن ينمو وينشىء ثقافته وتـمدنه اللذين وجّها الثقافة والتمدن في العالم كله. إنّ الغرب والتمدن الغربي والثقافة الغربية تبتدىء هنا في سورية.
بعد أن رأينا الـحدود الطبيعية التي تكوّن وطناً لشعب ـ لأمة ودولة ـ في حدود الوطن السوري التي هي من أشد الـحدود وضوحاً وقوة في العالم، قد يخطر للبعض أن يسألوا سؤالاً سياسياً هو: هل تـحدّد الـحدود الطبيعية الأمـم فتلزم كل أمة حدود وطنها؟
إني عرضت لهذه الناحية في مؤلفي نشوء الأمـم ـ الكتاب الأول. وقد قلت هناك: «الأمة تـجد أساسها، قبل كل شيء آخر، في وحدة أرضية معينة تتفاعل معها جماعة من الناس وتشتبك وتتحد ضمنها. ومتى تكوّنت الأمة وأصبحت تشعـر بشخصيتهـا الـمكتسبـة من إقليمهـا ومــواد غـذائها وعمرانها، ومن حياتها الاجتماعية الـخاصة، وحصلت من جميع ذلك على مناعة القومية أصبحت قادرة على تكميل حدودها الطبيعية أو تعديلها، على نسبة حيويتها وسعة مواردها ومـمكناتها». فتعديل الـحدود سياسياً أمر متعلق بـمقدرة الأمة وحيويتها. فإذا كانت الأمة مقتدرة، زاخرة بالـحيوية، وكانت حيويتها واقتدارها أقوى من الـموانع تـمكنت من أن تتجاوز حدود بيئتها الطبيعية الأصلية. وبالعكس إذا كانت حيوية الأمة ناضبة وقوّتها في تقلص، فالأمة، في هذه الـحالة، تتراجع عن حدود وطنها الطبيعية أمام ضغط الأمـم الـمجاورة التي تطغى على حدودها. وقد عرفت بلادنا الـمد والـجزر كليهما في حدودها السياسية. ففي الشمال إتّسعت قوس الـجبال بقوة الدولة السورية الآشورية ولم تكتفِ هذه الدولة بتوسيع حدود بيئتها الطبيعية، بل رمت إلى التسلط على بلاد أجنبية فافتتحت مصر، كما سبق للدولة السورية الكنعانية افتتاحها، وأدخلتها تـحت سيادتها: والدولة السورية السلوقية بسطت سلطانها على كل الأناضول وراء طوروس وبلغت فتوحاتها شرقاً إلى الهند. فلما تعاقبت الفتوحات على سورية، وكان بعض هذه الفتوحات بربرياً، وأدّى تعاقبها إلى زوال السيادة السورية وإلى إدارة البلاد إدارة أجنبية لـمصلحة أجنبية، تناقصت حيوية الأمة وقلّ عددها وانحطت ثقافتها وتـمدنها، وأخذ الشعب السوري يتقلّص وعمرانه يذوي، وأخذت حدود سورية السياسية تتقلص من جراء ذلك، عن حدودها الطبيعية. وكانت البلاد السورية تتجزأ تبعاً لـمقتضيات الفتوات ولسياسة المتغلبين.
عندما تـحررت سورية بعد الـحرب العالـمية الأولى (1914 ـ 1918) من التسلط التركي وقعت تـحت الاحتلال الـمقرر في الـمعاهدة البريطانية ـ الفرنسية الـمعروفة بـمعاهدة سايكس ـ بيكو. فقسمت البلاد إلى قسمين بخط يـمتد من الشرق الشمالي قرب الـمكان الـمعروف اليوم بجزيرة ابن عمر إلى الـجنوب الغربي في الناقورة. فما كان جنوبي هذا الـخط وشرقيه كان حصة بريطانية وما كان شمالي هذا الـخط وغربيه كان حصة فرنسة. ولـما كانت سورية رازحة تـحت قرون التسلط التركي، لم تكن فيها نهضة قومية تقاوم خطط الاستعمار الأجنبي. فاغتنم الأتراك ضعف فرنسة الـخارجة من الـحرب منهوكة وضعف سورية الذي كان نتيجة تسلطهم، واستولوا على كيليكية التي هي الـجزء الشمالي الأعلى من سورية. ثم استولوا على منطقة الإسكندرونة الـمهمة ومدينة أنطاكية التاريخية التي كانت العاصمة السورية في عهد الإمبراطورية السورية، حقبة البيت السلوقي. ولا تزال حلب ومنطقة «الـجزيرة» العليا مهددة بتوسع تركي جديد، ما دامت الأمة السرية تتخبط في حزبياتها الدينية ومنازعاتها العائلية التي تهدد معظم حيويتها وفاعليتها.
لا يوجد حدود طبيعية في العالم تقدر أن تـمنع أمة قوية من الامتداد وتوسيع مدى حيويتها وحياتها. وإننا نرى، مع تقدم وسائل النقل وإتقان الصناعات، أنّ الـحدود الطبيعية، إذ لم تؤيدها قوة إنسانية فنية، لا تقدر على صد جماعات لها فاعلية وقدرة على تخطي الـحدود.
لنعد إلى متابعة نص الشرح الأصلي:
«وكما تنبه الكلدان والآشوريون إلى وحدة هذه البلاد، من الداخل، وسعوا لتوحيدها سياسياً، لعنايتهم بالدولة البرية، كذلك عرفت هذه الـحقيقة كل شعوب هذه البيئة الأخرى واهتمت بالـمحالفات وإنشاء نوع من اللامركزية في بعض الأزمنة، اتقاءً للمنازعات الداخلية واستعداداً لـمواجهة الأخطار الـخارجية. وقد تنبه العرب، في دقة ملاحظتهم السطحية إلى وحدتها الـجغرافية الطبيعية، وسمى هذه الوحدة أحد العلماء، ولعله بريستد «الهلال الـخصيب».
«إنّ سر بقاء سورية وحدة خاصة وأمة مـمتازة، مع كل ما مرّ عليها من غزوات من الـجنوب والشمال والشرق والغرب، هو في هذه الوحدة الـجغرافية البديعة وهذه البيئة الطبيعية الـمتنوعة الإمكانيات من سهول وجبال وأودية وبحر وساحل، هذا الوطن الـممتاز لهذه الأمة الـممتازة».
نرى أنّ نص التعليم يتناول عند هذا الـحد أمرين: الأول تنبّه الشعوب أو الـجماعات السورية الأولى والدول التي نشأت في سورية إلى وحدة الأرض السورية ووحدة الـحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية فيها، وسعي جميع هذه الدول إلى تـحقيق وحدة الدولة في هذه البلاد. وقد رأينا في نص شرح الـمبدأ الرابع، الذي كان مدار حديثي إليكم في الاجتماع الـماضي، أنّ الـحروب التي كانت تنشب بين الآشوريين والكلدانيين والآراميين والـحثيين كانت حروباً داخلية أو منازعات على الـحكم بين عائلات تنزع إلى الـمُلك وتستند إلى عصبية خاصة في نهوضها إلى السيطرة، خصوصاً حروب الكلدان والآشوريين والآراميين والكنعانيين الـمتحدين في الثقافة والـممتزجين أصلاً في الدم. ودخول الـحثيين والـمتني الآريي اللغة لم يغيّر حالة البلاد ولا وضعها السياسي، إذ إنّ الـحثيين والـمتني تفاعلوا مع الـجماعات السامية اللغات حربياً وسياسياً، تفاعلاً سورياً داخلياً لم يسبب اختلاطات خارجية قط. وقد اشترك الـحثيون في الـمحالفات واللامركزية.
الأمر الثاني العظيم الأهمية الذي يظهره نص التعاليم هو أهمية البيئة في طبيعتها ومواردها وإمكانياتها التي لها شأن أولي خطير في تغذية حيوية الأمة ونشاطها. فإن الأنهر التي تتفجر من قوس الـجبال الشمالية، خصوصاً النهرين العظيمين دجلة والفرات في الـمنحنى الكبير ما بين البختياري وطوروس، ومن جبال لبنان، تـجعل الأودية والسهول القائمة فيما بين هذه الـجبال والبحار والعُربة أرضاً خصبة تفيض لبناً وعسلاً. ولست أشير الآن لا إلى نهرين آخرين في الشمال هما جيحون (أو جيحان) وسيحون (أو سيحان) يرويان الأراضي الـخصبة ما بين أفسس ومرعش وأضنه وطرسوس ومرسين. وهذه الأخيرة لا يزال بحّارتها إلى اليوم سوريين. وأهمية الأنهر الـمنحدرة من جبال لبنان هي للعاصي الذي يروي سهول الغرب الشمالية ماراً بحمص وحماه إلى أنطاكية، وللأردن الذي يسقي الـجنوب في اتـجاهه نحو العقبة على البحر الأحمر.
قلت في الكتاب الأول من مؤلفي نشوء الأمـم في الـمكان عينه الذي ذكرته آنفاً: «وبقدر ما هي الـحدود جوهرية لصيانة الـمجتمع من تـمدد الـمجتمعات الأخر القريبة منه كذلك هي، إلى درجة أعلى، طبيعة البيئة ومواردها. فالأمة تكون قوية أو ضعيفة، متقدمة أو متأخرة، على نسبة مـمكنات بيئتها الاقتصادية ومقدرتها على الانتفاع بهذه الـممكنات والإمكانيات». فالوحدة الـجغرافية البديعة وهذه البيئة الطبيعية الـمتنوعة الإمكانيات التي يذكرها نص التعاليم والتي زدتها الآن شرحاً وتفصيلاً، وترونها على الـخريطة أمامكم بكل قوّتها وسحرها، هي الوطن الـممتاز بإمكانياته وموارده وإقليمه الذي مكن الأمة السورية الـممتازة بتركيبها السلالي وزخم حياة زاخرة بالقوة من تـحقيق منشآتها الثقافية والعمرانية البديعة التي أطلقت تيار ثقافتها وتـمدنها من هذه الأرض القدسية، فأضاء أرجاء العالم ودفع الـمجاميع الإنسانية الـمؤهلة للثقافة والتمدن في مجراه السحري. لنعد إلى النص:
«وهي هذه الوحدة الـجغرافية، التي جعلت سورية وحدة سياسية، حتى في الأزمنة الغابرة حين كانت هذه البلاد مقسمة إلى كنعانيين وآراميين وحثيين وأموريين وآشوريين وكلدانيين. وقد ظهرت هذه الوحدة السياسية في عقد الـمحالفات أثناء أخطار الـحملات الـمصرية وغيرها وفي الـحملات السورية على مصر من أيام «الهكسوس» كما ظهرت مكتملة نهائياً، فيما بعد، من تكوين الدولة السورية في العهد السلوقي، التي صارت إمبراطورية قوية بسطت سلطتها على آسية الصغرى وامتدت فتوحاتها إلى الهند».
لا بد لي هنا، قبل إكمال قراءة نص التعاليم، من إبراز أهمية الـمحالفات بين الدول السورية ضد الدول القائمة خارج حدود سورية. فهذه الـمحالفات كانت تعبيراً عن شعور الدول السورية باشتراكها في التركيب الدموي وفي الأرض وفي ترابطها في وحدة مصير الشعب والوطن. وإذا كانت بعض هذه الـمحالفات حدثت ضد بعض الدول السورية الطامحة إلى توحيد سورية كلها تـحت سلطانها ورايتها، فلم يكن لهذه الـمحالفات الشمول القومي الوطني، بل كانت نوعاً من تـحالف الأمراء ضد الـملكية الـمطلقة الشاملة.
النص: «إنّ فقد الأمة السورية سيادتها على نفسها ووطنها، بعامل الفتوحات الـخارجية الكبرى، وإخضاع البلاد السورية لسيادات خارجية عرّض البلاد إلى تـجزئة وإطلاق تسميات سياسية متجزئة عليها. ففي العهد البيزنطي ـ الفارسي بسطت الدولة
البيزنطية سيادتها على سورية الغربية كلها، واقتصر إسم سورية على هذا القسم وبسطت الدولة الفارسية سيادتها على سورية الشرقية (ما بين النهرين) وأطلقت عليها إسم «إيراه» الذي عرّبه العرب فصار «العراق». وبعد الـحرب العالـمية الأولى (1914 ـ 1918) بسطت السيادة الأجنبية الـمثناة (بريطانية وفرنسة) على سورية الطبيعية وجزئت حسب الـمصالح والأغراض السياسية وحصلت التسميات: فلسطين، شرق الأردن، لبنان، سورية (الشام)، كيليكية، العراق. فتقلص إسم سورية إلى منطقة الشام الـمحدودة. وكانت قد أخرجت جزيرة قبرص من حدود سورية مع أنها قطعة من أرضها في الـماء.
«إنّ سوريـة الطبيعية تشمل جميع هذه الـمناطق التي تكـوّن وحدة جغرافية ـ زراعية ـ اقتصادية ـ استراتيجية، لا يـمكن قيام قضيتها القومية الاجتماعية بدون اكتمالها».
إنّ لنا في هـذه البيئة الطبيعية وحدة زراعية ـ اقتصادية متشابكة بالأنهر التي ذكرتها لا يخطئها نظر عارف بشؤون الـجغرافية والطبغرافية. فترابط الزراعة في وحدة الأرض وريّها بالأنهر السورية، دجلة، الفرات، جيحون، سيحون، بردى، العاصي، الليطاني، الأردن، وما بينها من جداول وبحيرات وبرك هو أمر واقع، طبيعي وتاريخي. ووحدة الأرض الزراعية هي أساس وحدة الـحضارة السورية، ووحدة الإنتاج السوري بأنواعه هي أساس الاقتصاد القومي في سورية. وإيجاد نظام جديد لهذا الإنتاج وأغراضه هو الإنشاء الأساسي لقيام النهضة السورية القومية الاجتماعية، وللارتقاء بالأمة السورية إلى أوج حياة العز والـخير. ولا بد من الإشارة إلى هذه البقعة الكبيرة (مشيراً على الـخريطة إلى الصحراء السورية) التي تفتح ثغرة كبيرة خالية من الزراعة في أسفل متوسط الأرض السورية، ما بين الفرات وبردى والأردن، فهذه سيأتي تفصيل حقيقتها وشأنها في ما يلي. ولكني أتناول الآن قضية الوحدة الاستراتيجية.
إنّ الأرض السورية بيئة طبيعية واحدة تقوم عليها وحدة شعبية وأنحاؤها تكمل بعضهـا بعضـاً، وصيانـة أيـة جهة من جهاتها ضرورية لصيانة الـجهات الأخر، فالسوريون الـمقيمون في الـجنوب تهمّهم الـحدود الشمالية كما تهمّ السوريين الـمقيمين في الشمال الـحدود الـجنوبية. وهنالك مراكز في الـحدود إذا خرجت من قبضة الـجيش السوري عرّضت البلاد كلها لأشد أخطار الفتوحات والاستعمار والذل. فالـمكان الـمعروف بـ «البوّابات الكيليكية» أي بالـمداخل التي لا بد لأي جيش قادم من جهة آسية الصغرى من محاولة العبور منها، هو مكان ضروري جداً وجوده تـحت السيـادة السورية دائماً، حفظاً لسلامة البلاد السورية كلها وليس لسلامة منطقة أضنه ـ مرعش ومنطقة الإسكندرونة ـ حلب فقط. وكذلك جبال البختياري أو زغروس فوجودها في أيدي الدولة الكلدانية والدولة الآشورية حفظ سلامة الدولة ومكّن الدول السورية الشرقية الـمتعاقبة من غلبة العيلاميين وغيرهم. وقد رأينا في التـاريخ أنه عندما عبر جيش الفرس الـجبال السورية الشرقية سقطت سورية كلها في قبضتهم. وكذلك لـما عبر الـجيش الـمكدوني «البوابات الكليليكية» لم يعد يتمكن جيش من الصمود في وجهه. وقد صمدت صور فقط في وجهه تسعة أشهر لأنها كانت جزيرة. تبقى إمكانية القتال متوافرة في جبال لبنان فقط، إذا كانت الشواطىء السورية مخفورة من البحر. جميع الـجيوس اليونانية والرومانية كانت تـجد سهولة في إخضاع سورية بعد اجتيازها طوروس. ومن الـجنوب كانت النقطة الاستراتيجية في برزخ السويس واليوم في قناة السويس وخليج العقبة وصحراء سورية الـجنوبية سيناء. فالـجيوش الـمصرية التي كانت تعبر هذا الـخط الاستراتيجي كانت تستسهل، بعد ذلك، التوغل في سورية الغربية إلى الفرات. والـجيوش السورية التي كانت تعبر هذا الـخط الـجنوبي إلى أفريقية كانت تخضع مصر والتي كانت تعبر طوروس كانت تخضع آسية الصغرى، والتي كانت تعبر زغروس كانت تسير إلى الهند. ولكي لا تكون الشواطىء السورية منكشفة لعدو مقبل من البحر، من الضروري الاحتفاظ بجزيرة قبرص، لأنها حصن سورية من جهة البحر.
أي اجتيـاح حربي للخطوط الاستراتيجية الـجنوبية أو الشمالية جعل سورية الطبيعية كلها تـحت خطر السقوط في قبضة الـجيش الـمجتاح، لأنه لا تعود توجد فواصل داخلية بين أجزاء البلاد إلا في الـمنطقة اللبنانية التي يـمكن تـجنبها إذا كانت الـمقاومة فيها شديدة. فعند أي خطر على أية نقطة استراتيجية في الشمال أو في الـجنوب أو الشرق يجب أن تواجه الأمة السورية كلها الـخطر، لأنه خطر عليها كلها. فلا يـمكن حفظ سلامة الوطن السوري إلا باعتباره وحدة حربية في وحدة استراتيجية. أي جيش يحتل أية منطقة صغيرة ضمن نطاق الوحدة الاستراتيجية يـمكن اعتباره محتلاً البلاد كلها احتلالاً استراتيجياً! فيمكننا القول إنّ الـجيش التركي الذي يرابط في كيليكية والإسكندرونة يـمثّل احتلالاً استراتيجياً لسورية!
من النص: «أشرت في شرح الـمبدأ الرابع إلى تضارب التواريخ الأجنبية في تـحديد سورية ومتابعة الـمؤلفين والكاتبين في التاريخ من السوريين التواريخ الأجنبية في تعاريفها واعتمادهم بالأكثر التحديد الذي عرف في العهد البيزنطي ـ الفارسي، الذي جعل حدود سورية الشمالية الشرقية نهر الفرات وسمّى القسم الشرقي، ما بين النهرين، «إيراه».
«وإنّ اقتسام البيزنطيين والفرس سورية فيما بينهم وإقامة الـحواجز السياسية بين سورية الشرقية وسورية الغربية عرقل كثيراً، وإلى مدة طويلة، عودة النمو القومي ودورة الـحياة الاجتماعية والاقتصادية، ونتج من ذلك إبهام في حقيقة حدود سورية».
مـما لا شك فيه أنّ الإبهام في حدود وطننا وفي حقيقتنا القومية يعود بالأكثر إلى انهيار سيادتنا وانقطاع استمرار تاريخنا القومي، وإلى انعدام مصادرنا التاريخية وإلى أنّ كلاً من الـمؤرخين الذين كان كُتَّابُنا يعتمدونهم في فهم أمور وطننا، وندر من شذّ منهم، هم مؤرخون أجانب من الـمدرسة الإغريقية ـ الرومانية التي شوهت حقيقة السوريين الاجتماعية والنفسية.
التواريخ الأجنبية والـمؤرخون الأجانب لم ينظروا إلى سورية من وجهة حقيقة الأمة وحقيقة الوطن، بل من وجهة النظر السياسية الأجنبية. والـمصادر التاريخية الأجنبية كانت تطلق الـمصطلحات السياسية بلا تـحقيق للوضع الطبيعي والاجتماعي. والـمصـدران اليونـاني والرومـاني هما عـدوّان تاريخياً للأمة السورية ولاتـجاهها التاريخي. لذلك استحال على هذين الـمصدرين الأولين للتاريخ أن ينصفا السوريين في حقيقة نفسيتهم، في حقيقة وجودهم في العالم.
إذا اعتمدنا فوليبيو في شرحه للحروب الفينيقية (أو الفونكية) مع رومة (بيونك أو فونك هو اللفظ اللاتيني الـمحرف للفظة فونك اليونانية)، إذا اعتمدنا هذا الـمصدر الرئيسي لدرس الـحروب الفونكية (الفينيقية) كنا مضطرين، بحسب رواية هذا الـمؤرخ ـ إلى التسليم بانحطاط السوريين الكنعانيين (الفونكيين) وتفوّق الرومان عليهم. مع أنّ الـحقيقة كانت عكس ما رمى فوليبيو إلى إظهاره، لأن الرومان دهشوا للآثار الفنية التي احتملها جيش سيبيو (الأفـركـانس) من بين أنقـاض عاصمة الامبراطورية السورية الغربية، قرطاضة العظيمة!
لا شـك عنـدي في أنّ فوليبيو، الإغـريقي الذي ورث حقد اليونان على الكنعانيين، رمى إلى تشويه القيم السورية وحطّ شأن السوريين ورفع قيمة الرومان وتقليل أهمية الأفعال التي قام بها السوريون الكنعانيون في السلم والـحرب. فهو قد صوّر حملة هاني بعل على إيطالية وعبوره جبال البيرينيه ثم جبال الألب الشاهقة تصويراً يحط كثيراً من قيمة تلك الـحملة العسكرية العديـمة الـمثيل، فقال إنها لم تكن شيئاً خارقاً العادة لأن بعض القبائل الـمتوحشة عبرت، في ارتـحالها، جبال الألب. فسـاوى بين ارتـحـال قبائـل همجية تضرب في الأرض على غير هدى، بلا هدف، وحملة عسكرية منظمة خططت بعناية فائقة وبجرأة عديـمة الـمثيل في التاريخ وبعزيـمة كأنها القضاء والقدر!
يساوي فوليبيو بين قبائل همجية تتوقل [تتسلق] جبالاً لا تدري ما وراءها وحملة عسكرية منظمة أنشأها وعيّن أهدافها ومسيرها قائد يدرك أخطار الـجبال العظيمة التي قرر اجتيازها بتصميم لم يسبق له مثيل ويدرك، فوق ذلك، أنه سائر بجيش نصفه أو أقل من نصفه قومي والباقي مأجور أو مسيّر، وأنه يجتاز جبالاً تنتظره وراءها جيوش رومة التي ربحت الـحرب الفونكية الأولى، لأنه زاحف على رومة نفسها!
بهـذه الطريقـة دَوّنَ الـمؤرخـون اليونـان والرومـان أفعال السوريين العظيمة فشوهوها وحطوا من قيمتها.
إنّ ما رزحت تـحته الأمة السورية إلى اليوم هو حكم تاريخ كتب بقلم العدو والغريب الـجاهل. لذلك كانت مهمة هذه النهضة القومية الاجتماعية، كما قلت وكررت، تغيير وجه التاريخ!
من النص: «وزاد الطيـن بلّة هجوم الصحراء ودخولها في تـجويف الهلال السوري الـخصيب، بعامل تناقص السكان وتقلص العمران بسبب الـحروب والغزوات وبعامل قطع الغابات وتـجريد مناطق واسعة جداً من البلاد من حرجاتها. وإنّ عدم وجود دراسات سابقة، موثوقة في أسباب زيادة الـجفاف في تـجويف الهلال السوري الـخصيب وتناقص العمران فيه ساعد على اعتبار التمدد الصحراوي حالة طبيعية دائمة، الأمر الذي أثبت بطلانه تـحقيقي الأخير».
يشير نص التعاليم هنا إلى البقعة الكبيرة الصحراوية الـممتدة ما بيـن الفرات وبردى والأردن الـمعروفة بالصحراء السورية أو البادية السورية. فهذه الصحراء التي تبدو كأنها لسان من العُربة، من الصحراء العربية، ليست صحراء بكامل معنى الكلمة. إنها مجرّد قفر من النبات والعمران. وقد ساعد انحطاط الثقافة والتمدن السوريين من جراء فقد السيادة السورية، وتغاور البلاد بالفتوحات وقطع الغابات في الـمناطق الـمجاورة، جفاف الصحراء العربية على الامتداد إلى هذه البقعة الـخالية من الأنهر، فأقفرت أرضها وتعرّت تربتها وصارت شبه صحراء بسبب عوامل غير طبيعية. ولكن هذه البقعة ليست صحراء كالصحراء العربية، فهذه صحراء رملية تتوسطها النفود وتـمتد إلى الربع الـخالي فهي ليست ترابية ولا تصلح للفلح والزرع. أما الصحراء السورية فهي بادية ترابية صالـحة للفلح والزرع ولم تكن في غابر عهدها جرداء كما تبدو اليوم. ولكن ازدياد الـجفاف في الصحراء العربية وتخريب الـحضارة السورية بالفتوحات البربرية تعاونا على تـجريد هذه البقعة الكبيرة من النبات. مع ذلك فهي صالـحة لاستعادة الـخضرة بنهوض الثقافة السورية والعمران السوري من جديد. ووسائل الري من دجلة والفرات تفتح مجال إمكانيات زراعية عظيمة لهذه البقعة. وإذا أمكن تـحريج الـمناطق الـمحيطة بهذه الثغرة الـمقفرة تعدّل الإقليم وكثافة الرطوبة في الهواء وزادت الأمطار.
إنّ الإقفار الاصطناعي لم يقف عند حد هذه الصحراء السورية، بل امتد في جميع الـمناطق السورية ووصل حتى إلى ساحل البحر حيث يرتفع لبنان. فقد كانت جبال لبنان مشهورة بكثافة غاباتها، أما الآن فهذه الـجبال تبدو جرداء، إلا رقعاً صغيرة من الأخضر تراها العين عن بعد في أماكن متفرقة. ولولا علوّ الـجبال والأنهر الـمتدفقة منها لكانت الصحراء عمت البلاد ولكنّا كلنا تـحوّلنا إلى عرب (أي صحراويين من العُربة: الصحراء).
إننا نؤمن أنّ نهضة شعبنا الـجديدة بالـحركة السورية القومية الاجتماعية ستعيد إلى هذه الـمناطق الـجرداء خضرتها وخصبها.
من النص: «إنّ تـحقيقي أثبت وحدة البلاد وأعطى التعليل الصحيح لوضعها وأسباب تـجزئتها الـخارجة عن حقيقتها. فثبّتّ منطقة ما بين النهرين ضمن الـحدود السورية وأصلحت التعبير الأول «ضفاف دجلة»، الذي كنت اعتمدته بجعله أوضح وأكمل بإعطائه مدى معنى منطقة ما بين النهرين التي تصل حدودها إلى جبال البختياري، إلى الـجبال التي تعيّن الـحدود الطبيعية بين سورية وإيران».
إنّ منطقة ما بين النهرين دجلة والفرات لم تكن تاريخياً منطقة تقتصر على شقة الأرض الواقعة بين هذين النهرين، بل كانت تعني كل الأرض الـمجاورة النهرين، الواقعة بين الصحراء العربية وجبال البختياري أو زغروس. وقد ابتدأت الدولة الآشورية في العدوة الشرقية من أعالي دجلة وكانت عاصمتها نينوى تقوم مقابل الـموصل فوق الزاب الكبير. ولا شكّ في أنّ التحديد السابق «حتى الالتقاء بدجلة» أو «إلى ضفاف دجلة» كان تـحديداً غير جلي كل الـجلاء، ولم يكن بدّ من ترك التحديد مطاطاً ريثما يكتمل التحقيق في متناقضات الـمرويات التاريخية وفي ما اعتمده الكثير من كتّاب التاريخ.
النص: «أمـا جـزيرة قبرص فقد احتلها الفـونكيون من قديـم الزمـان وصارت من مراكـزهم الـمهمة. وفيها وُلِـد الفيلسـوف السـوري الفونكي زينون صاحب الـمدرسة الرواقية.
«إنّ سورية الوطن هي عنصر أساسي في القومية السورية وكل سوري قومي اجتماعي يجب أن يعرف حدود وطنه ويبقي صورة بلاده الـجميلة ماثلة لعينيه ليجدر به أن يكون سورياً قومياً اجتماعياً صحيحاً.
«ولكي يقدر السوري القومي الاجتماعي أن يحفظ حقوقه وحقوق ذريته في هذا الوطن الـجميل يجب عليه أن يفهم جيداً وحدة أمته ووحدة حقوقها وحجة الوطن وعدم قابلية تـجزئته.
«قلت في كتابي الأول من نشوء الأمـم إنّ فاعلية الأمة وحيويتها تعدّل حدود بيئتها الطبيعية. فإذا كانت الأمة قوية نامية تغلبت على الـحدود وامتدت وراءها فتوسعت حدودها. وإذا كانت الأمة ضعيفة، ذاوية تقلصت عن حدود بيئتها الطبيعية. وبعد انهيار الدول السورية العظمى طمت على الأمة السورية موجة ضعف وتقلص فتراجعت عن حدودها وخسرت قبرص لليونان ومن أتى بعدهم وخسرت شبه جزيرة سيناء لـمصر، وخسرت كيليكية للأتراك، وجزّأتها الدول التي غزتها واحتلت وطننا أو بعض أجزائه.
«إنّ النهضة القومية الاجتماعية تعبّر عن عودة فاعلية الأمة السورية وحيويتها إليها لتعود إلى القوة، والنمو واستعادة ما خسرته من بيئتها الطبيعية».
نحن نهضة إذاً تنهي عهد التخاذل والتقلص والتراجع، وتبتدىء عهد النمو والتقدم والتوسع. إننا ننمو بحيويتنا وفاعليتنا، لا بـما يتراكم علينا من الـخارج. إنّ حقيقتنا هي حقيقة النمو الذاتي من داخلنا والتوسع على كل مدى ما تقدمه الطبيعة وما تستطيعه مقدرتنا.
وقد قلت في نشوء الأمـم إنّ البيئة الطبيعية تقدم الإمكانيات وليس الـحتميات فالأرض هي الـجانب الإيجابي من الـحياة، أما الـجانب السلبي الذاتي الفاعل فهو نحن.
نحن الفنان الذي يستخدم ما تقدمه الطبيعة من إمكانيات ليبدع وينتج ويبني.
أنتقل بكم الآن إلى الـمبدأ الأساسي السادس القائل: «الأمة السورية مجتمع واحد». فلنتتبع نص الشرح:
«إلى هذا الـمبدأ الأساسي تعود بعض الـمبادىء الإصلاحية التي سيرد ذكرها وتفصيلها ـ فصل الدين عن الدولة، إزالة الـحواجز بين مختلف الطوائف والـمذاهب ـ وهذا الـمبدأ هو من أهم الـمبادىء التي يجب أن تبقى حاضرة في ذهن كل سوري. فهو أساس الوحدة القومية الـحقيقي ودليل الوجدان القومي. والضمان لـحياة الشخصية السورية واستمرارها. أمة واحدة ـ مجتمع واحد. فوحدة الـمجتمع هي قاعدة وحدة الـمصالح ووحدة الـمصالح هي وحدة الـحياة. وعدم الوحدة الاجتماعية ينفي الـمصلحة العامة الواحدة التي لا يـمكن التعويض عنها بأية ترضيات وقتية».
إنّ قاعدة الأمة الواحدة في الـمجتمع الواحد هي القاعدة الصحيحة للوجود القومي. لا يـمكن أن تكون أمة واحدة إذا لم يكن هنالك مجتمع واحد، أي إذا لم تكن الهيئة الاجتماعية واحدة. فإذا حصلت تـجزئة في الـمجتمع تعرضت الأمة لـخطر الانحلال النهائي والاضمحلال. فصحة الأمة وتقدمها لا يكونان إلا في مجتمع واحد. فالـحركة القومية الاجتماعية تقيم بهذا الـمبدأ وما يتعلق به حرباً عنيفة مـميتة على عوامل تـجزئة الـمجتمع إلى مجتمعات والأمة إلى أمـم ـ هذه العوامل التي تـجعل من كل طائفة دينية ومن كل عشيرة أو طبقة مجتمعاً قائماً بنفسه وأمة منفصلة عن الطوائف والعشائر أو الطبقات الأخرى.
لا يـمكن للأمة الواحدة أن تتجه في التاريخ اتـجاهاً واحداً بعقليات متعددة، متباينة أو متنافرة. هذا أمر مستحيل. وجميع البهلوانيين السياسيين الذين يقومون بضروب كثيرة من البهلوانية في شؤون التاريخ والسياسة والاجتماع، ويحاولون التوفيق بين تناقض الـمجتمع في كيانه والوحدة القومية، يـمكنهم أن ينجحوا في إنشاء الأحزاب التي تفيدهم هم شخصياً أو في اكتساب مكانة ومنفعة عن طريق استغلال الـحالة الراهنة، ولكنهم لن يستطيعوا النجاح في إنقاذ الـمجتمع من مصير الفناء الذي يصير إليه أو من إكسابه قوة الوحدة والانطلاق.
الأمـة في أساسها الـحقيقي هي وحدة حياة فإذا لم تكن وحدة حياة لن تكون أمة حقيقية.
متى كانت الـمصالح مصالح محمديين ومصالح مسيحيين ومصالح دروز، أو مصـالح سنييـن ومصالح شيعييـن ومصالح علوييـن ومصالح إسماعيلييـن، أو مصالح موارنة ومصالح روم كاثوليك ومصالح أرثوذكس ومصالح بروتستانت، إلخ. لم تكن هنالك مصالح قومية واحدة. ولا يـمكن توحيد شعور الشعب واندفاعه وراء أية حملة باسم الأمة أو الوطن تقوم بها طائفة واحدة، مهما كانت كبيرة، ولن تتمكن من تـحويل أية حركة استقلالية قامت بها طائفة معيّنة إلى حركة شعبية في طول البلاد وعرضها. الثورة الدرزية سنة 1925، التي سميت «الثورة السورية الكبرى» لم يـمكن أن تتحول إلى ثورة سورية عامة، لأنها لم تنشأ بإرادة عامة موحدة. وكم من الناس قالوا: «خلي الدروز يتفزّروا مع الفرنسييـن»! وليس بالإمكان جعل مجموعة مصالح الطوائف مصالح عامة واحدة، لأن ذلك يكون مخالفاً لطبيعتها.
النص: «في الوحدة الاجتماعية تضمحل العصبيات الـمتنافرة والعلاقات السلبية وتنشأ العصبية القومية الصحيحة، التي تتكفل بإنهاض الأمة.
«في الوحدة الاجتماعية تزول الـحـزبيات الدينية وآثـارها السيئة وتضمحل الأحقاد وتـحل الـمحبة والتسامح القوميان محلها ويفسح الـمجال للتعاون الاقتصادي والشعـور القـومي الـموحد وتنتفي مسهلات دخـول الإرادات الأجنبيـة في شـؤون أمتنا الداخلية.
«إنّ الاستقلال الصحيح والسيادة الـحقيقية لا يتمان ويستمران إلا على أساس وحدة اجتماعية صحيحة. وعلى أساس هذه الوحدة فقط يـمكن إنشاء دولة قومية صحيحة وتشريع قومي اجتماعي مدني صحيح، ففيه أساس عضوية الدولة الصحيحة وفيه يؤمن تساوي الـحقوق لأبناء الأمة».
إنّ التسـاوي في الـحقـوق والتوحيـد القضـائي هما أمران ضروريان لنفسية صحيحة موحدة. فبدون هذا التساوي تظل العقليات الـمختلفة التي كوّنتها الشرائع الـمختلفة معضلة تـمنع الأمة من الاضطلاع بقضاياها. فالـمجتمعات الـمتعددة الـمستقلة بشرائعها وأنظمتها الـحقوقية تـجزىء الأمة وتـمنعها من التقدم.
وإنّ لنا اختباراً عملياً مهماً في تطبيق الـحكم الوطني في لبنان والشام بـموجب الـمعاهدة سنة 1936 بين هاتين الدولتين والدولة الفرنسية. فما كاد الوطنيون يتسلمون الـحكم في دمشق حتى طبق نظام جعل مناطق عديدة كجبل حوران (جبل الدروز) ومنطقة اللاذقية ومنطقة الـجزيرة تتحرك طالبة الانفصال عن الـمركز. ونزاع الـمجتمعات الدينية في لبنان ليس أقل منه في الدول الأخر.
لا إنقاذ للأمة من مصير التضعضع والهلاك إلا بحركة أصلية تقيم مجتمعاً جديداً واحداً وعقلية جديدة وشعوراً واحداً. وإنّ هذه الـحركة قد وجدت، وإنّ عملية الإنقاذ تـجري ولكنها عملية طويلة شاقة. فلا نكن لـجوجين بل لنعمل مؤمنين بقوة الـحركة القومية الاجتماعية ومقدرتها على الغلب على كل صعوبة(1).
(1) من دائرة الإنشاء: أعلن في العدد الأخير من النظام الـجديد أنّ هذه الـمحاضرة ستنشر فيه. ولكنها أبقيت لهذا العدد ليتسنى ملء الفراغ في بعض فقراتها. إذ إنّ التدوين لم يتمكن من تسجيل كل العبارات.