دوّنـها الأميـن جورج عبدالـمسيح
النظام الـجديد، بـيـروت، الـمجلد 1، العدد 3، 1/5/1948
(مـوضـوع محـاضرة الزعيـم الثالثـة في قـاعة الندوة الثقافية تعاليم الـمبادىء الأسـاسية الأول والثاني والثالث من مبادىء الـحركة السورية القومية الاجتماعية ومفهومها والقضايا الأساسية التي تـجد حلها فيها. وقد مهّد الزعيم لقيمة الـمبادىء وشـروحها بقراءة كتابه إلى الأستـاذ حميد فرنـجيـة من سجن الرمل وقد أوجز فيه الدوافع التي دفعته إلى إنشاء الـحزب السوري القومي الاجتماعي، وقراءة فقرات من رسالة له إلى الـجالية السورية في البرازيل سنة 1934 على أثر وفاة والده العلاّمة الدكتور خليل سعاده في تلك البلاد. إنّ للتمهيد الـمذكور قيمته الفكرية والتاريخية، من حيث الـمهمة في نشأة الـحركة القومية الاجتماعية وسيرها وكتاب الزعيم إلى الأستاذ فرنـجية ورسالته إلى الـجالية السورية في البرازيل هما من الوثائق الـمهمّة. فلنتابع الزعيم في محاضرته):
بعد أن تناولت في الاجتماعيـن الـماضييـن مسألـة أنّ النهضة القومية هي خروج من البـلبـلـة والفوضى إلى الوضـوح في القصـد والوضوح في الأهـداف الاجتمـاعيـة، ولذلك هي نهضة بالـمعنى الصحيح، تناولت في الاجتماع الثاني الـخطاب الأول الذي ألقي في أول اجتماع عام للحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1935، هو بالـحقيقة أول شـرح لأهـداف الـحزب ومنهاجه العملي. وإني أنتقل في هذا الاجتماع إلى الـمبـادىء نفسهـا لنـرى على ضـوئها طبيعـة النهضة السورية القومية الاجتماعية الـمتولدة من إرادة حية قوية فعّالة.
أمهّد لابتداء درس الـمبادىء بقراءة كتاب أرسلته من السجن الأول، من سجن الرمل، في 10 ديسمبر/ كانون الأول 1935 إلى الـمحامي الأستاذ حميد فرنـجية الذي كان أحد الـمحاميـن الذين تقدموا للدفاع عن الزعيم في الدعوى الأولى في الـمحكمة الـمختلطة، التي تعني الـمحكمة الفرنسية.
كان الـمحـامي الـمذكور طلب إليّ أن أضع على ورقة أو في كتاب ما هي الأسباب التي دفعتني إلى إنشاء الـحزب السوري القومي الاجتماعي، وهاكم ما كتبت في ذلك الـحيـن:
في ما دفعني إلى إنشاء الـحزب السوري القومي الاجتماعي
«كنت حدثاً عندما نشبت الـحرب الكبرى سنة 1914 ولكني كنت قد بدأت أشعر وأدرك. وكان أول ما تبادر إلى ذهني، وقد شاهدت ما شاهدت وشعرت بـما شعرت وذقت ما ذقت مـما مُنِيَ به شعبي، هذا السؤال: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟
«ومنذ وضعت الـحرب أوزارها أخذت أبحث عن جواب لهذا السؤال وحل للمعضلـة السياسية الـمزمنة التي تدفع شعبي من ضيق إلى ضيق فلا تنقذه من دبّ إلا لتوقعه في جبّ.
«وكان أن سافرت أوائل سنة 1920 وقد بُعثت الأحقاد الـمذهبية من مراقدها والأمة لـما تدفن أشلاءها.
«ولم تكن الـحال في الـمهجر أحسن إلا قليلاً. فقد فعلت الدعاوات فعلها في الـمهاجرين فانقسموا شيعاً. وكانوا كلهم سورييـن. ولكن فئة كبيرة منهم خضعت للنعـرات الـمذهبيـة فنشـأت هنـاك أيضاً الفكـرة اللبنـانيـة التي هي نتيجـة بقـاء عامة الـمؤسسات الدينية وسلطانها ونفوذها.
«وبـديهي أني لم أكـن أطلب الإجابـة على السـؤال الـمتقدم من أجـل الـمعرفة العلمية فحسب. فالعلم الذي لا يفيد كالـجهالة التي لا تضر. وإنـما كنت أريد الـجواب من أجل اكتشاف الوسيلة الفعّالة لإزالة أسباب الويل، وبعد درس أولي منظم قررت أنّ فقدان السيـادة القومية هو السبب الأول في ما حـل بأمتي وفي ما يحـل فيها. وهذا كـان فـاتـحة عهد درسي الـمسألة القومية ومسألة الـجماعات عموماً والـحقوق الاجتماعية وكيفية نشوئها. وفي أثناء درسي أخذت أهمية معنى الأمة وتعقدها في العوامل الـمتعددة تنمو نـموها الطبيعي في ذهني. وفي هذه الـمسألة ابتدأ انفرادي عن كل الذين اشتغلوا في سياسة بلادي ومشاكلها القومية. هم اشتغلوا للحرية والاستقلال مطلقيـن فخرج هذا الاشتغـال عن العمل القومي بالـمعنى الصحيح. أما أنا فأردت «حرية أمتي واستقلال شعبي في بلادي». والفرق بين هذا الـمعنى التعييني والـمعنى السابق الـمطلق الـمبهم واضح. وكنت أحاول في جميع الأحزاب والـجمعيات السورية التي اتفق لي الانخراط فيها أو تأسيسها أو الاتصال بها أن أوجه الأفكار إلى ما وصلت إليه فلم أوفق كثيراً.
«ويـمكنني أن أعيّـن موقفي بالنسبة إلى موقف الـمتزعميـن السياسييـن من قومي بأن موقفي أخذ يتجه رويداً حتى ثبت على الأساس القومي، بينما موقفهم كان ولم يزل على الأساس السياسي. والسياسة من أجل السياسة لا يـمكن أن تكون عملاً قومياً.
«بناءً عليه، ولـما كان العمل القومي الشـامـل الـمتناول مسـألة السيادة القومية ومعنى الأمة لا يـمكن أن يكون عملاً خالياً من السياسة، رأيت أن أسير إلى السياسة باختطاط طريق نهضة قومية اجتماعية جديدة تكفل تصفية العقائد القومية وتوحيدها وتوليد العصبية Espirt de corps الضرورية للتعاون القومي في سبيل التقدم والدفاع عن الـحقوق والـمصلحة القومية.
«ولـمـا كانت دروسي الاجتماعية والسياسة والاقتصادية قد أوصلتني إلى تعييـن أمتي تعييناً مضبوطاً بالعلوم الـمتقدمة وغيرها، وهو حجر الزاوية للبناء القومي، وإلى تعييـن مصلحـة أمتي الاجتماعيـة والسياسيـة من حيث حـالاتها الداخلية ومشكلاتها الداخلية والـخارجية وجدت أن لا بد لي من إيجاد وسائل تؤمن حماية النهضة القومية الاجتماعية الـجديدة في سيرها. ومن هنا نشأت فيّ فكرة إنشاء حزب سرّي يجمع في الدرجـة الأولى عنصر الشباب النزيه البعيد عن مفاسد السياسة الـمنحطة. فأسست الـحزب السوري القومي الاجتماعي ووحّدت فيه العقائد القومية في عقيدة واحدة هي «سورية للسورييـن والسوريون أمة تامة». ووضعت مبادىء الـجهة الإصلاحية كفصل الدين عن الدولة وجعل الإنتاج أساس توزيع الثروة والعمل، وإيجاد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن، واتخذت الصفة السرية للحزب صوناً له من هجمـات الفئـات التي تخشى نشـوءه ونـموه ومن السلطات التي قد لا ترغب في وجوده، وجعلت نظامه فردياً في الدرجة الأولى مركزياً متسلسلاً (Hierarchique) منعـاً للـفـوضى في داخـلـه واتـقـاء نشـوء الـمنـافسـات والـخصـومـات والتحـزبـات والـمماحـكات وغير ذلك من الأمراض السياسية والاجتماعية، وتسهيلاً لتنمية فضائل النظام والواجب. ولقد وضعت كل ذلك وأسست الـحزب بصرف النظر عن وجود الانتداب أو عدم وجوده. فالـحزب لم ينشأ خصيصاً لأن الانتداب موجود بل لـجعل الأمة السورية موحدة وصاحبة السيادة على نفسها والإرادة في تقرير مصيرها. ولـما كان الانتـداب أمـراً عارضـاً فإن النظـر في موقفـه وموقف الـحـزب منـه يـأتي في الدرجـة الثانية أو الطور الثاني، السياسي. ولذلك فالـحزب ليس مؤسساً على مبدأ كره الأجانب أو (Chauvinisme) بل على مبدأ القومية الاجتماعية. وأما أنّ الانتداب قد ساعد كثيراً في انتشار الـحزب في مدة وجيزة وقوّى الدوافع إلى إنشائه فذلك من الـمسائل الفرعية التي لها أهميتها الـمحدودة.
«وإذا كانت الـمسألة القومية تتجه بطبيعتها نحو تنازع البقاء بيـن السيادة القومية والانتداب فذلك أمر من طبيعة القومية وطبيعة الانتداب».
سجن الرمل، 10 ديسمبر/ كانون الأول 1935
الإمضاء: أنطون سعاده
من هذا الكتاب تتضح مسائل تـحتاج إلى شيء من الدرس. فالـمسألة الأخص تتضح من العبارة هذه: «إنّ الـحزب لم ينشأ خصيصاً لأن الانتداب موجود، بل لـجعل الأمة السـورية موحدة وصاحبة السيادة على نفسها والإرادة في تقرير مصيرها. ولـما كان الانتداب أمراً عارضاً، فإن النظر في موقفه وموقف الـحزب منه يأتي في الدرجة الثانية أو الطور الثاني، السياسي».
أول شيء نستخرجه من هذه العبارة هو الفرق بين الأمور العارضة والأمور الـجوهرية، الأساسية، الثابتة. من هذه العبارة يتضح جلياً أنّ الـحزب لم يتأسس لشيء عارض كالانتداب أو غيره، بل لـمسألة ثابتة هي حياة الأمة السورية وسيادتها والغرض من استقلالها وسيادتها.
لـم يتأسـس الـحزب لـمجرّد محاربـة الانتـداب القائـم، حتـى إذا زال الانتـداب زال الـحـزب. لأنه لـو كـان هذا هو السبب الرئيسي لكـان من الـمحتـم أنه إذا زال الانتـداب كان زواله موجباً لزوال الـحزب، لأن الـمسبب يزول بزوال السبب. لكنّ شيئـاً من هذا لم يحـدث لأن سبـب نشـوء الـحـزب القومي الاجتماعي ليس عارضاً: فالـحـزب نشـأ لشيء جـوهري ثابت يتقدم ويجاوز باستمرار كل الأمور الوقتية أو الفرعية أو الشكلية الزائلة أو العارضة. إنه يقوم من أجل حقيقة ثابتة مستمرة. فقضيته هي قضية كلية أساسية، دائمة. إنها قضية حياة الـمجتمع واستمرار حياته وتقدمها نحو الأفضل والأجمل.
وهذا الاتـجـاه الواضح يتقـوى بالعبـارة التـي تقول «إنّ موقفي أخـذ يتجه رويـداً حتى ثبـت على الأسـاس القومي، بينمـا موقفهم (الـمتزعميـن) كـان ولا يـزال على الأساس السياسي. والسياسة من أجل السياسة لا يـمكن أن تكون عملاً قومياً». هذا يقـوي القـول إنّ الـحـزب لم يـوجـد من أجـل السيـاسـة أو لأجـل بعض الأهداف السياسية العارضة.
إنّ هذا الكتاب الـموجز هو استمرار في شرح مبادىء الـحزب السوري القومي الاجتماعي وغايته وقد ابتدأ بخطاب 1935. وتظهر في هذا الكتاب الصفة الاجتماعية التي تشتمل عليها الـمبادىء ظهوراً جلياً.
من ابتداء هـذا الكتاب يشعـر الفاهم الـمدقـق أنه يواجـه قضيـة حزب من نوع فلسفـي عميق ابتـدأت بهذا السـؤال البسيـط: «ما الذي جلب على شعبـي هذا الويـل؟» هذا السـؤال يعنـي البحـث عن الأسـباب التي أخضعـت الشعـب السـوري لإرادة غير إرادته وقادته إلى ما قادته إليه. وقد قلت في صدد هذا السؤال: «لم أقصد الإجابة على السؤال الـمتقدم من أجل الـمعرفة العلمية فحسب»، بل من أجل تعييـن الأهداف بالعقل وإنقاذ الأمة من العوامل العمياء التي لا فهم ولا إرادة لها فيها.
ننتقل من هذا الكتاب إلى رسالة وجّهتها إلى الـجالية السورية في البرازيل عام 1934،بعد سنتيـن من نشوء الـحزب،على أثر وفاة والدي في البرازيل ونشرت في جريدة الرابطة في 28 يوليو/ تـموز 1934، قلت:
«إذا كان هذا العصر عصر تنازع الأمـم، فهو، إذاً، عصر أعمال لا عصر أقوال. وإذا كان لا بد من القول فيجب أن يكون مدعوماً بالقوة العملية ليكون من ورائه نفع أو نتيجة هيولية محسوسة. ونحن أمة واقفة الآن بين الـموت والـحياة ومصيرها متعلق بالـخطة التي نرسمها لأنفسنا والاتـجاه الذي نعيّنه.
«ويتراءى لي أنّ أمتنا كانت، منذ عصور قديـمة جداً، أمام عدة مسائل تتطلب أجوبة صريحة هي:
«هل نحن أمة حية؟
«هل نحن مجتمع له هدف في الـحياة؟
«هل نحن قوم لهم مثل عليا؟
«هل نحن أمة لها إرادة واحدة؟
«هل نحن جماعة تعرف أهمية الأعمال النظامية؟»
وهـذه الأسئلـة هي أيضاً بسيطـة وواضحة جداً ولكنها أسئلة خطيرة وأهميتها واضحـة للمدقـق البصـير الـمتبصر في القيـم الإنسانيـة وفي طـرق التفكير الفلسفـي وأهدافه:
هل نحن أمة؟ هذا السؤال، الذي يعني أيضاً «ما نحن؟»، يعني ابتداء البحث عن حقيقتنا،ما هي.إنه نقطة الابتداء في أي تفكير إنساني يحاول إدراك حقيقته ومحيطه ومقاصده في الـحيـاة والـمحيط. يعني ابتداء التفكير في معنى مـاهيـة الـجماعة الإنسانية التي هي نحن وأهـدافنـا الـكبـرى التي تعبّر عن حقيقتنـا ووجـودنـا نحن وجوارنـا نحن.كل هذا يعني أنّ قواعد الفكر التي نشأت عليها هذه النهضة القوية وينمو بها الـحزب السوري القومي الاجتماعي هي قواعد فلسفة عميقة تتناول الـمسائل الأساسية،ولا ترتبط بوقت معيّـن تـمضي بـمضيه أو بشكل من الأشكال الـجزئية،بل هي عامة ثابتة،أو،بالـمعنى الفلسفي الـمطلق، ليست منسوبة إلى وقت أو حالة معيّنة وقتية تزول بزوال تلك الـحالة.
من هذه الأسئلة الأساسية انطلقت لوضع مبادىء الـحـزب السـوري القومي الاجتماعي لتعطي الـجواب على الأسئلة العلمية الفلسفية العميقة الـمتقدمة. فلنتقدم الآن إلى هذه الـمبادىء لندرسها وندرس كيف عيّنت من نحن وكيف عيّنت أهدافنا ومقاصدنا:
الـمبادىء كما هو معروف مقسومة إلى قسمين: أساسية وإصلاحية، ولكنها جميعها، كما هو وارد في الشرح في غاية الـحزب، تشكل قضية واحدة ـ قضية الـحياة واتـجاهها التي في سبيلها نحارب ونـجاهد ونفكر ونعمل.
الـمبدأ الأول: سورية للسورييـن والسوريون أمة تامة
في شرح هذا الـمبدأ أقول: «حين ابتدأت أفكر في بعث أمتي ونهضتها وألاحظ الـحركـات السياسية الاعتباطية القائمة فيها، لـحظت أنه لا يوجد إجماع على تعييـن هويتنا وحقيقتنا الاجتماعية، ورأيت أنّ كل عمل قومي صحيح يجب أن يبدأ من هذا السـؤال الفلسفـي: من نحن؟ (في صيغـة رسالتي إلى الـجاليـة السورية في البرازيل: هل نحـن أمـة حيـة؟) والذي وضـعتـه لأول مـرة أمـام نفسـي،منـذ بـدء تفكيـري القومي الاجتماعي،وطرحته على الشعب في رسالة مني إلى النزالة السورية في البرازيل، بـمناسبة وفاة والدي هناك،سنة 1934، والذي شـرحت أهميتـه التأسيسيـة في أحـاديث ومحاضرات عديدة في بداية نشر تعاليمي القومية الاجتماعية. وقد أجبت نفسي بعد التنقيب الطويل وقلت: نحن سوريون ونحن أمة تامة. وكان وضعي هذا الـمبدأ.
«إنّ هذه التعاريف الـمبلبلة التي جزأت حقيقتنا القومية أو أذابتها ومحتها: نحن اللبنانييـن، نحن الفلسطينييـن، نحن الشامييـن، نحن العراقييـن، نحن العرب، لم يـمكن أن تكون أساساً لوعي قومي صحيح ولنهضة الأمة السورية التي لها دورتها الاجتماعية والاقتصادية في وحدة حياة ووحدة مصير.
«القول بأن السورييـن هم أمة تامة هو إعلان حقيقة أساسية تقضي على البلبلة والفوضى، وتضع الـمجهود القومي على أساس من الوضوح لا يـمكن،بدونه،إنشاء نهضة قومية في سورية.والـحقيقة أنّ قومية السورييـن التامة وحصول الوجدان الـحي لهذه القوميـة أمران ضروريان لكون سورية للسورييـن،وهما شرطان أوليان لـمبدأ السيادة القومية،وسيادة الشعب الشاعر بكيانه على نفسه وعلى وطنه الذي هو أساس حياتـه وعامل أسـاسي في تكوين شخصيته.فإذا لم يكن السوريون أمة تامة لها حق السيادة وإنشاء دولة مستقلة فمعنى ذلك أن سورية لم تكن للسوريين تـحت مطلق تصرفهم،بل كانت عرضة لادعاءات سيادة خارجة عن نطاق الشعب السوري،ذات مصالح تتضارب،أو يحتمل أن تتضارب مع مصلحة الشعب السوري في الـحياة والاتقاء.
«يعني هذا الـمبدأ سلامة وحدة الأمة السورية وسلامة وحدة وطنها وانتفاء كل إبهام من الوجهة الـحقوقية في أنّ السورييـن أمة هي وحدها صاحبة الـحق في ملكية كل شبر من سورية والتصرف به والبتّ بشأنه.
«ويعنـي من الوجهـة الداخليـة أنّ الوطـن ملك عام لا يجـوز، حتى لأفراد سورييـن، التصرف بشبر من أرضه تصرفاً يلغي، أو يـمكن أن يلغي، فكرة الوطن الواحد وسلامة وحدة هذا الوطن الضرورية لسلامة وحدة الأمة السورية.
«كل سوري يرغب في أن يرى أمته حرة، سائدة، مرتقية يجب أن يحفر هذا الـمبدأ على لوح قلبه حفراً عميقاً.
«إنّ الذين لا يقولـون بأن سوريـة للسورييـن وبأن السورييـن أمة تامة يرتكبون جريـمة تـجريد السورييـن من حقوق سيادتهم على أنفسهم ووطنهم، والـحزب السوري القومي الاجتماعي يعلنهم باسم ملاييـن السورييـن التائقيـن إلى الـحرية، الراغبيـن في الـحياة والارتقاء، مجرميـن».
هذا هـو الـمبدأ الأول وشرحـه فلنحلل قليلاً ولندخل في بعض النواحي التاريخية.هل زعيم الـحزب السوري القومي الاجتماعي هو أول من قال: سورية للسورييـن والسـوريـون أمـة تـامـة؟ ولـنجـزىء هـذا الـموضـوع إلى (أ) سـوريـة للسورييـن (ب) السـوريون أمة تامة: هل زعيـم الـحـزب القومي الاجتمـاعي هو أول من قـال سـوريـة للسورييـن؟ لست أول من قال سوريـة للسورييـن.فإن هذه العبارة مستعملة من قَبل استهلها بعض الكتّاب والأحزاب.وهذا التعبير جرى على الأقلام والألسنة فلست أول من قال سورية للسورييـن.ولكن الـجزء الثاني: السوريون أمة تامة،هو قول قيل لأول مرة في التعاليم الســورية القوميـة الاجتماعيـة. قال زعيـم الـحـزب السـوري القومي الاجتماعي. وقيمة الإنتاج من الوجهة الفكرية هي في هذا الـجزء الثاني من هذا الـمبدأ للحزب الذي يعيّـن بالضبط قيمة الـجزء الأول ويعطيه اتـجاهه الذي لا يـمكن أن يعطيه إياه أي تأويل.
عبارة «سورية للسورييـن» كان يـمكن أن تعني أشياء كثيرة لأنها لم تعيّـن من هم السوريون، هل هم أمة أم ما هم؟ يـمكننا أن نقول بيروت للبيروتييـن ولا نقول إنهم أمة. والاقتصـار على العبـارة الـمتقدمـة يـمكن أن يبقيها معرضـة لتأويلات تلغي كوننـا أمة. فالذيـن استعملـوا العبـارة استعملـوها بطرق مختلفة ومعـانٍ متضـاربـة لا يـمكـن أن تعيـّن فهماً صافياً لا يتغيّر مع تغيّر الـحالات، أو أن تعيّـن قاعدة أساسية غير معرضة لـحالة الـمسائل الـجزئية أو العارضة.
كـانت العبارة لفظـة لا نعرف ماذا يجب أن نفهم منها. أما بعد إدخال الـجزء الثاني: السوريون هم أمة تامة، فقد تـم تكوين القضية القومية من أساسها. صرنا نعرف بأي معنى يـمكن أن نقول: «سورية للسورييـن»، بـمعنى قومي وليس بـمعنى سياسي يتغيّر بتغيّر الأحـداث السيـاسية. صارت العبارة تعني لنا أمراً ثابتاً ومبدأ أساسياً يبقى مهما تغيّرت الأحداث والأحوال. فهو مطلق أساسي لاغنى لنا عن تفهمه لكي يكون جزءاً من عقيدة قضية ثابتة في نفوسنا لا تغيّرها أحداث الأشياء النسبية العارضة.
وضعُ هذا الـمبدأ عيّـن، إذن، الـجواب للسؤال الأول: «من نحن؟» وأخرجنا من بلبلة التعرض للمسائل الـجزئية أو النسبية للوقت أو الظروف أو السياسة أو الزمان،التي بالنسبة إليها وحدها كنا نسمي أنفسنا أحياناً لبنانييـن، وأحياناً سورييـن، وأحياناً عرباً، بأسمـاء تضيـع فيها حقيقتنا وليست إلا نتيجة لعوارض وظروف تضيع فيها الـمفاهيم الـحقيقية الثابتة.
خرجنا،بهذا الـمبدأ،من بلبلة الشخصية وفوضى تـحديد «نحن» وصارت لنا شخصية واضحة فيمكن،بعد هذا التأسيس الـمتيـن،أن تـجزأ بلادنا إلى مئة دولة وأن نسمي كل دولة باسم نخترعه،ويـمكن أن يحتل بلادنا أجنبي واحد أو أكثر من أجنبي واحد ويُقتسم وطننا بين دولتيـن أو أكثر.يـمكن أن تنشأ في بلادنا أشكال سياسية كثيرة ويـمكن أن تتبدل هذه الأشكال،لكن حقيقة واحدة تبقى ثابتة،هي حقيقة أمتنـا وشخصيتنا القومية التي تتغلب في الأخير على كل العوارض.
لغيـرنا يـمكن أن تتغيـر الشخصيـة بتغير الظـروف والعـوارض،أمـا لنـا نحـن،القومييـن الاجتماعييـن،فلا يـمكن ذلك مهما تـجزأت بلادنا وكيفما تشكلت،إحتلها أجانب أم بقيت حرة سائدة.هناك حقيقة واحدة تبقى هي أنّ السورييـن أمة تامة،وأنّ سورية البلاد هي لسورية الأمة.
ينتج من ذلك تعييـن الـحقوق القومية: «إذا لم يكن السوريون أمة تامة لها حق السيادة وإنشاء دولة مستقلة لم تكن سورية للسورييـن تـحت مطلق تصرفهم».
هـنـا الشـخصيـة الـواضحـة أصـبـحـت الأسـاس الـحقـوقي لهـذه الأمـة الواعية، الـخالـدة.إننا،بفضل الـمبدأ الأول من مبـادىء حركتنـا القومية الاجتماعية، أصبحنا نعـرف من نحن ونعـرف ما يخصنـا ونعرف ما يخص غيرنـا ـ ما هي حقـوقنـا ومـا هي حقـوق سوانـا في جميع الأمـور والقضايـا التي تعرض في حياة الأمـة،كقضية فلسطين وقضية العقبة وقضية الإسكندرونة وقضية سيناء،التي تواجه الأمة اليوم وجميع القضايا الـمتفرعة منها والتي لها مساس بسورية الأمة وسورية الوطن.
هذه القضايا كلها أصبحت متشابكة ومكونة قضية حق وحياة واحدة من ضمن قضية كلية واحدة ثابتة هي قضية الأمة السورية وحقوقها بصفتها هذه الشخصية.
إنّ الذين أدركوا واتضحت لهم هذه الـمعاني الأساسية لم يستغربوا رسالتي التي وجّهتها في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني الـماضي إلى القومييـن الاجتماعييـن والأمة السورية جمعاء في صدد تصريح بلفور لـمصلحة اليهود وقضية فلسطين الناشئة من التصريح الـمذكور. في رسالتي هذه شـددت على نقطة هي أنّ قضية فلسطين يجب أن تـحسب قضية سورية كلها وتهم السورييـن وحدهم قبل كل واحد سواهم.
يـمكن أن يعاون السورييـن من الـخارج دول لها بسورية صلات تاريخية ودموية وثقافية وقرابة مصالح.ولكن لا يجوز أن يقرر أحد،مهما كان قريباً لنا،قضية تخصنا نحن.يجب أن ينتظر إلى أن نقرر نحن ليوافقنا على تقريرنا.فيجب أن نضطلع نحن بـمسؤولية قضايانا القومية،وأن نقرر مصيرنا بإرادتنا،وأن نبقي تقرير الـمصير من حقنا وحدنا.بهذا الـمبدأ يـمكننا أن نفهم كيفية نظرنا إلى الأمور،ويـمكن أن نخطط سياسة وسياسات،وأن نعيّـن الأهداف التي نريد.
إنّ عـدم اعتبار السورييـن قضية فلسطين قضية سورية محضة بالـمعنى القومي، وعدم تناديهم إلى عقد مؤتـمر في ما بين الدول السورية للبت في قضية فلسطين ـ للدفاع عنها ـ أخرج القضية من حقوق السورييـن إلى نطاق مشاع بين حقوق عدة دول ضمن العالم العربي.صارت حقوق مصر والعرب ومراكش، إلخ.مثل حقوقنا نحن، وهذا غلط كبير.هذا تفريط في الـحقوق القومية.ومع شدة تبجح السورييـن بأنهم يـمتازون بالفكر والعقل على بقية العالم العربي كانوا من هذه الناحية متأخرين ولنا بعصبية مصر مثل. إذا قابلنا بيـن قضية فلسطين وقضية السودان،وقابلنا بين موقف السورييـن من الأولى وموقف الـمصرييـن من الثانية،اتضح الفرق الكبير بين وضوح مصالح مصر للمصرييـن وغموض مصالح سورية للسورييـن.الـمصريون لم يضعوا قضية السودان في يد الـجامعة العربية ولم يسمحوا بجعلها قضية غير مصرية بحتة،لأنهم يشعرون أنّ السودان يخصهم ولا حق لأحد غيرهم بتقرير مصير ذاك الـجزء من وطنهم،ولا يقبلون أن يتدخل لبنان أو الشام أو العراق في الأمر،وتنوب عن السودان أو عن مصر في البتّ في مصيره.
أما نحن فقد قبلنا أن تتدخل في قضية فلسطين أية شخصية غير سورية من العالم العربي، وأن تعدّها قضية لها كما هي لنا، وأن تـحسب نفسها متساوية معنا نحن في الـحقوق والـمسؤولية وفي تقرير الـمصير. لم ينتظر العرب والـمصريون إلى أن يقول السوريون كلمتهم ليؤيدوها كدول شقيقة أو محبة أو متألـمة أو مشتركة في بعض الـمخاوف، بل تدخلوا مباشرة كأن الأرض تخصهم كما تخصنا ولهم الـحق نفسه كما لنا.
من الذي يكفل لنا أنّ العمل صار بإخلاص من جميع الـجوانب التي تدخلت في القضية لـمصلحة فلسطين والأمة السورية؟
والصحيح أنّ النتيجـة السيئة في كل الشوط الـماضي في صدد فلسطين حصلت من تلك التـدخــلات الـواسـعــة غيـر الـمضبـوطـة التي عـرّضـت القضيـة إلى مسـاومـات وتأثيرات ما كان يجب أن تتعرض لها.
إننا نشك كثيراً في أنّ الـمملكة العربية السعودية كانت تشعر بالفعل أنّ فلسطين يجب الدفاع عنها كما يشعر السوريون وللغاية السورية عينها التي يريدها السوريون. فالأرجح، الذي تدل الدلائل عليه، أنّ الـمملكة السعودية رأت في تدخلها مجالاً للعمل لـمسائل خاصة بها ويـمكننا أن نعتقد، وهنالك أسباب تؤيد هذا الاعتقاد، أنّ مصالح مادية مهمة تـمكنت الـمملكة العربية السعودية من الـحصول عليها بطرق الـمساومات على كيفيـة تقـريـر مصيـر فلسطين. إنّ الـقـروض الـمـاليـة الـكبيـرة التي تستعـد دولة الولايات الـمتحدة الأميركانية لإقراضها لها دَعِ الـمصالح الـمادية الكثيرة التي حصلت بين الولايات الـمتحدة الأميركانية والـمملكة العربية السعودية، لا تسمح بأن نظن أنها بعيدة عن تنفيذ خطط السياسة الأميركانية في صدد قضية فلسطين. كذلك نرى أنّ الـمصرييـن نظروا إلى قضية فلسطين من وجهة نظر مصرية بحتة.
في الـوقت الـذي لا يـوجـد فيه تخطيط سياسة سورية وليس للسورييـن موقف واحد صريح موحد وسورية مجزأة وكل جزء من أجزائها يكون احتكاراً لبعض الفئات الرأسمالية أو الإقطاعية ـ في الوقت الذي نـجد فيه سورية في هذه الـحالة السيئة، نـجد أمتيـن من أمـم العالم العربي قد كونتا وحدتيهما على أسس أمتن وأقوى على تقرير مصيرهما وأقوى على التدخل في ما يخص الأمة السورية وحدها بدون منازع!
لو كان هذا الـمبـدأ السـوري القـومـي الاجتماعي الأول وجد فعله في الأمة السـورية جميعها بسرعـة لـما وصلت قضية فلسطين إلى الـحالة الـمؤسفة التي وصلت إليها الآن. وكذلك نقول عن الإسكندرونة وكيليكية. وإنّ عندي من الوثائق ما يدل دلالة صريحة على النتائج الوخيمة التي يسببها إهمال هذا الـمبدأ الذي يجب أن يكون مقدساً في كل سورية.حين تـم انتزاع منطقة الإسكندرونة وإلـحاقها بتركية،والأمة السورية جريح دامية، قام عام 1938 وزير خارجية مصر بردّ زيارة لوزير الـخارجية التركية في أنقرة وتبادلا الأنخاب على كل ما تـمّ لإنـجاح تركية،وعلى هذه النتيجة الباهرة الـجميلة: أنه لم يبقَ بين تركية ومصر من أرض حائلة إلا فلسطين! فكان هذا القول من قبل وزير خارجية مصر بـمثابة اعتراف للاشتراك بتنفيذ الـخطط الأخر وهي ضم منطقة حلب ـ دير الزور أيضاً إلى تركية، والإجهاز على غرب شمال سورية كله فلا يبقى بين تركية ومصر أي حائل إلا فلسطين!
إنّ التفريط في حقوقنا بعدم حسبان سورية أمة تامة، وإنّ سورية الوطن هي للأمة التامة، هو الذي أفقدنا أجزاءً غنية ويهددنا اليوم بفقد فلسطين.
الـمبدأ الثاني: القضية السورية هي قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى
بعد أن قلنا إنّ السـورييـن أمة تامة يجب أن نعيّـن ما هي قضية هذه الأمة التامة، فعيّنا في هذا الـمبدأ، أنها قضية كلية «مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى».
في شرح هذا الـمبدأ أقول: «يـمثل هذا الـمبدأ فكرة أنّ جميع الـمسائل الـحقوقية والسيـاسيـة التي لها علاقـة بأرض سورية أو جماعة سورية هي أجزاء من قضية واحدة، غير قابلة التجزئة أو الاختلاط بشؤون خارجية يـمكن أن تلغي فكرة وحدة الـمصالح السـوريـة ووحدة الإرادة السورية.والواقع أنّ هذا الـمبدأ هو نتيجة وتكميل للمبدأ الأول.فبما أنّ سورية للسورييـن الذين يشكلون أمة تامة لها حق السيادة،كان من البديهي أن تكون قضيتها، أي قضية حياتها ومصيرها،متعلقة بها وحدها ومنفصلة عن كل قضيـة أخرى تتناول مصالـح تخرج عن متنـاول الشعب السوري. إنّ هذا الـمبدأ يحفظ للسورييـن وحدهم حق تـمثيل قضيتهم والبتّ في مصير مصالـحهم وحياتهم ويجعل قضيتهم قضية كلية غير قابلة التجزئة.
«ويعني هذا الـمبدأ من الوجهـة الروحيـة أنّ إرادة الأمـة السـوريـة التي تـمثل مصالـحها هي إرادة عامة،وأنّ مثلهم العليا التي يريدون تـحقيقها هي مثل عليا ناشئة من نفسيتهم ـ من مزاجهم الـخاص ومواهبهم،لا يـمكن أن يسمحوا بتلاشيها أو بالفصل بينهم وبينها أو بخلطها مع أهداف أخرى يـمكن أن تضيع فيها.وهذه الـمثل العليا هي الـحرية والواجب والنظام والقوة التي تفيض بالـحق والـخير والـجمال في أسمى صورة ترتفع إليها النفس السورية،فلا يـمكن أن يـمثلها أو يحققها لهم غيرهم، لأن لهم نفسيتهم الـخاصة.
«بناءً على هذا الـمبـدأ يعلن الـحـزب السـوري القـومي الاجتماعي أنه لا يعترف لأية شخصية أو هيئة غير سورية بحق التكلم باسم الـمصالح السورية في الـمسائل الداخلية أو الإنترناسيونية، أو بحق إدخال مصير الـمصالح السورية في مصالح أمة غير الأمة السورية.
«إنّ مــلاييـن الـفـلاحيـن والـعمـال وأصحـاب الـحـرف والـمهـن والتجارات والصنـاعـات الذيـن تتـألـف الأمـة السورية منهم لهم إرادة ومصلحة في الـحياة يجب أن تبقيا من شأن مجموعهم وحده.
«لا يعترف الـحزب السوري القومي الاجتماعي لأية شخصية أو هيئة غير سورية بحق وضع مثلها العليا موضع مثل الأمة السورية العليا».
من هذين الـمبدأين نأتي إلى وضوح كلي في من هم السوريون؟ ماذا يعني هذا الاسم؟ وما تعني حياتهم ومصالـحهم؟ فنرى أمامنا قضية كلية واحدة غير قابلة التجزئة أو الـخلط مع مسائل وقضايا خارجة عن إرادة الأمة أو غير خاضعة لهذه الإرادة.
وهذا يعني بتعبيـر فلسفـي أنّ الذات السورية هي الناظرة،الفاهمة،الباصرة، التي تقرر والتي تعيّن وأنها لا تخضع للأمور الـمفعولة والإرادات الـخارجية. هي ليست الـمادة التي تخضع للفنان، بل الفنان الذي يُخضع الـمادة والوضع لشعوره ليكيّف منه ما شاء بفنه.
إنّ إرادة الأمـة السيـدة هي التي تعبـّر عن حقيقة السورييـن ووجودهم وعما يصبون إليه وهي تعيّـن لهم الهدف والغاية التي تهدف الأمة إليها وليست الظروف أو الأحوال العارضة ولا شيء منها. لذلك كنت أكرر وأقول إننا لا نخضع ولا نسلّم للأمر الـمفعول. لسنا هذه الـجماعة التي يـمكن أن يقرَّر مصيرها بإرادة غير إرادتها في مؤتـمرات من الدول أو منظمة من أغلبية الدول في العالم،أو أن يقرر مصير أية قضية تخص سورية والأمة السورية.
على ضـوء هذه الشـروح نـرى كيف أنّ هذه الـمبادىء الصغيرة تكون أساس انطلاق في اتـجاه واضح،معيّن في جميع الـمسائل والـمشكلات التي تعترض الأمة السورية في سيرها.
هكذا نرى أنّ هذه الـمبادىء ليست أقوالاً جامدة، أو كلمات ميتة، أو حروفاً متناسقة، بل قوة حية فاعلة تتولد فيها مقررات مبدئية أساسية مهمّة، وتبنى عليها خطط في السياسة الـمصلحية وفي السياسة الأخلاقية وفي السياسة الفكرية وأيضاً في السياسة النظامية، وفي السياسة التي تتجه إلى تقرير الاتـجاه والاعتناء بالقيم الـمهمّة، الأساسية، الـجوهرية، السامية التي هي جوهر القضية السورية القومية الاجتماعية وجوهر النظام القومي الاجتماعي.
ونحن نعتقد أنّ للأمة السورية عقلاً إنسانياً رائعاً،وكما قلت سابقاً إننا لا نخضع للأمر الـمفعول،كذلك قلت في معرض آخر إنه ليس أسهل،من أجل إيجاد سلام دائم في العالم، من تنازل بعض الأمـم عن حقها في الـحياة. فإذا خضعت تركية مثلاً أو سواها لإرادة أمة أخرى،كبريطانية مثلاً،تـجنباً للتصادم معها،حققت السلام الذي تفرضه مصلحة بريطانية. فيمكن أن نسمي هذا السلام السلام البريطاني،وإذا أمكن أن تتنازل بريطانية وفرنسة وروسية للسلام الأميركاني حصل سلام تقوده أميركانية،وإذا تنازلت سورية وإيران واليونان والبلقان لضغط تركية أمكن إيجاد سلام تركي. لكن سورية لا تريد أن تكون من هذا البعض من أجل إيجاد سلام يفرضه الأتراك ويقررون مصيره.
من هنا ومن هذه الشروح القليلة البسيطة يـمكننا أن نتعرف ماذا تعني من قيم ثابتة هذه الـمبادىء الـمعروفة باسم مبادىء الـحزب السوري القومي الاجتماعي.
ما قلته حتى الآن، وما يـمكن أن أقـولـه في الاجتمـاعات الـمقبلة،لا يغني عن درس تـحليلي عميق هادىء يوضع كتابة ليستعرض التسلسل التاريخي والـمنطقي للأمور، ويوضح بصورة أكمل وأجلى ما تعني هذه التعاليم وما ينكشف عنها للأمة واتـجاهها الـجديد الآخذ في تغيير حالتها الداخلية ووضعها الإنترناسيوني، وفي تغيير وجـه التاريـخ كمـا قلـت مكـرراً. وإني لا أعني بهـا جمـالاً زخرفيـاً بل حقيقة بكل حروفها.
الـمبدأ الثالث: القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري
وفي الشرح أقول: «يتناول هذا الـمبدأ تـحديد القضية السورية الواردة في الـمبدأ السابق تـحديدأ لا يقبل التأويـل،وهو يظهر العلاقة الـحيوية،غير القابلة الفصل،بيـن الأمة والوطن.فالأمة بدون وطن معيّن لا معنى لها، ولا تقوم شخصيتها بدونه.وهذا الوضوح في تـحديد القضية القومية يخرج معنى الأمة من الـخضوع لتأويلات تاريخية أو سلالية أو دينية مغايرة لوضع الأمة،ومنافية لـمصالحها الـحيوية والأخيرة.
«إنّ وحدة الأمة والوطن تـجعلنا نتجه نحو فهم الواقع الاجتماعي الذي هو الأمة بدلاً من الضلال وراء أشكال الـمنطق الصرف وتراكيب الكلام.
«وإنّ الترابط بيـن الأمـة والوطن هو الـمبـدأ الوحيد الذي تتم به وحدة الـحياة.ولذلك لا يـمكن تصور متّحد إنساني اجتماعي من غير بيئة تتم فيها وحدة الـحياة والاشتراك في مقوماتها ومصالـحها وأهدافها،وتـمكن من نشوء الشخصية الاجتماعية التي هي شخصية الـمتحد ـ شخصية الأمة».
اليهود في تفرقهم في العالم بدون وطن يجمعهم في حياة واحدة توحد نظرهم في جميع القضايا الأساسية، كانوا أمة لا معنى لها فأرادوا أن يحققوا معنى كونهم أمة فأنشأوا حركتهم الصهيونية وجعلوا هدفهم ابتغاء إيجاد «وطن قومي» لهم في فلسطين يصح أن يصير لهم وجود قومي فعلي فيه.
كل فكرة قومية بلا أساس من وطن يخرج الأمة عن وضع واقعها الاجتماعي، فالتأويلات السلالية القائلة مثلاً إننا عرب لأن قسماً منا أتى من العرب،أو إننا فينيقيون أو كنعانيـون لأن قسمـاً منا تـحدر أو انتسب إلى الفينيقيين الكنعانيين،أو إننا آشوريون فقط، هي تأويلات مخالفة لواقع الـمجتمع.
إنّ الاسم الذي تكتسبه الأمة هو في الغالب من الأرض أو من جماعة برزت في أرض معيّنة: ليس صحيحاً أنّ العرب هم عرب لأنهم ولد يعرب. ولا سبيل لنا لتحقيق من هو يعرب أو ما كان يعرب.فيعرب لا يـمثل إلا طريقة واجتهاداً فكرياً للتعبير عن واقع جماعة أو للتعليل عن مصدر جماعة أو عن سبب تسميتها.وهذه طريقة استعملها العرب ليس في جدّهم الـموهوم يعرب فقط،بل في جميع التعليلات التي تعيّن واقعاً جغرافياً أو اجتماعياً.فقالوا إنّ أفريقية بناها أفريقس،مثلاً،ولا سبيل لتحقيق أساس تاريخي عن أفريقس الـمزعوم وكيف بنى أفريقية. وقالوا في العدنانيين الـمستعربين الكنعانيي الأصل إنهم ولد إسماعيل، للتعليل عن دخول الكنعانيين في حياة الصحراء.
العرب اسمهم عرب ليس لأنهم ولد جدّ يدعى يعرب، بل لأنهم سكان العُربة. والعُربة إسم للصحراء. فالعرب هم سكان العُربة كما أنّ السوريين هم سكان سورية وليس لهم جدّ دعي بهذا الاسم، بل لأنهم يسكنون سورية ووحدوا حياتهم فيها.
وأصل اللفظـة أخـذ من آشـور كما يرجح وسميت البلاد سورية والسوريون ينسبون إلى البلاد، وكذلك العرب ينسبون إلى بلادهم العُربة.
أما العلاقـة والقرابـة الدمويـة بين سكان سورية وسكان العُربة، فقد قام عليها الدليل، ولكن من أخذ من الآخر أكثر؟ يـمكن أن يكون السوريون الكنعانيون الـمستعربون أكثر في العُربة من العرب الذين دخلوا سورية وتسرينوا. وإنّ كثيراً من العرب الذين دخلوا سورية بالفتح الـمحمدي هم عرب مستعربة أي أنهم سوريون كنعانيون في الأصل تـحولوا إلى البداوة بعامل جفاف الأرض وقطنوا العُربة (الصحراء) واكتسبوا الطابع العربي (الصحراوي). من هذه الـحقيقة تظهر لنا أهمية الوطن الفاصلة في تقرير شخصية الـمجتمع وحقيقة الأمة.
هذه الـمبـادىء الأسـاسيـة الثلاثة التي قرأتها مع شروحها تشتمل على نقطة الانطلاق الأولية نحو القضية القومية الاجتماعية وكل ما يأتي بعدها مستند إليها. وفي الـمحاضرات الـمقبلة سأتابع شرح التعاليم القومية الاجتماعية.