رفيقي العزيز وليم بحليس،
لم أتسلم كتابك الـمؤرخ في 13 أغسطس/آب الـماضي، ولكني تسلمت نسخته الـمرسلة في 14 سبتمبر/أيلول الـحاضر. وقد رأيت أن أرسل جوابي عليها وعلى ما أضيف إليها بواسطة إدمون معلوف، أخ شفيق معلوف، الذي اتفق قدومه من بضعة أيام وسيعود بعد بضعة أيام. فيتأمن وصول كتابي هذا إليك.
الذي وقفت عليه من كتابك الأخير جاء برهاناً على ما قدّرته. فقد جرى تهاون في أمر معنويات الرفقاء، وفي الاهتمام بالشؤون العملية حتى فاتت الفرصة أو كادت تفوت. ومنذ سنة تقريباً وردتني أخبار الاهتمام بطبع أبحاث «جنون الـخلود». منذ أقلّ من سنة قليلاً طلبت تـحويل هذا الاهتمام إلى شراء مطبعة لـِ الزوبعة. ولكن مجرى العمل وقف عند حسبان أنّ كل كلام لا حقيقة وراءه، وأنه لا رجاء إلا بفؤاد [لطف الله]، وأنه يجب ترك الأمر بين يديه ليقرر هو ما يراه ساعة يراه. وهكذا مرت الأيام والأسابيع والشهور، ومرت معها إمكانيات، إذا سلّمنا بأنها كلها كانت ضعيفة فلا يـمكننا التسليم بأنه لم يكن في الإمكان تقويتها والاستفادة فائدة حقيقية من بعضها. ولو أنّ الـحركة التي قمت بها الآن قمت بها منذ ستة أو سبعة أشهر لكنّا تقدمنا كثيراً منذ ذلك الوقت. على الأقل كنا خبرنا الـحالة وعرفنا ما يـمكن وما لا ـيمكن. ولكن يظهر أنك فضلت الاقتناع بالتشاؤم حتى أنك لم تعقد اجتماعاً حضره فؤاد وغالب [صفدي] وجورج بندقي وإلياس فاخوري لتبادل الرأي والنظر في الـمساعي اللازمة. فأنت تظن أنّ ما يراه فؤاد وتراه أنت وتتفقان عليه يغني عن نظر الآخرين، وهذا غلط يشبه الغلط السابق بعدم اجتماع لـجنة تدبير سورية الـجديدة والاكتفاء بأخذ رأي كل عضو منها على حدة.
كنت أرى إمكانيات واسعة في سان باولو وريو وسنطس. وكنت أرى أنّ الـحالة تقتضي وجود ذي فكر مُبدئ لا تهوله الصعوبات ولا تَسْوَد الدنيا في وجهه عند الـمشكلات ويعرف من أين تؤكل الكتف.
عندما وصلت إلى الأرجنتيـن وكان برفقتي أسد الأشقر وخالد أديب وجدت كأنّ لبلاد خالية من السورييـن. وبعد أيام قليلة اقترح عليّ الـمرافقان الاستعجال بـمغادرة البلاد، لأنّ النزالة السورية كلها مسممة ضدنا. فتركت رأيهما العاجز وقررت البقاء والانتصار أولاً. وقد انتصرت وظللت أقلب الأمور حتى استتب لي إنشاء الفروع، التي وإن تكن نشأت ضعيفة فهي تقوى، على الأقل معنوياً.
الـحديد يضرب حامياً لا بارداً. وسفرتك إلى الريو لو كانت حدثت منذ ثلاثة أشهر لكانت أعطت غير النتيجة التي أعطتها الآن. وإدراكي جميع ذلك كان من جملة أسباب شدة أسفي لانصرافك وفؤاد عمّا يجب عليكما إلى الاهتمام بوزن مقالات الزوبعة، وإعطائي توجيهات في ما تلزم كتابته وتفيد وما لا تلزم كتابته ولا تفيد.
لا تزال في سان باولو وريو وسنطس إمكانيات كثيرة. ولكنها تـحتاج إلى عناية واهتمام وسعي ومثابرة وقدح زناد الفكر واستنباط الـحيل. وهذه تتطلب الانصراف بالكلية إلى هذه النواحي، بينما هنالك من ينصرف بكليّته إلى نواحٍ أخرى. من الإمكانيات في سان باولو الاتصال بالسيد إلياس عاصي الذي كنت طلبت منك عنوانه. فقد أخبرني إدوار أنه التقى به، وكان قد تسلّم أول عدد مرسل إليه من الزوبعة ولم يكن قد قرأ غيره قبل ذلك! فأبدى إعجابه وإكباره محتوياتها وعلو مستوى علمها وأدبها. هو محب الظهور ولكنه يفهم ويـمكن أن يكون مفيداً وقد ينضم إلى مبادئنا وحركتنا. وهنالك آخرون لـمن يحب البحث والسعي ويدرس النزالة درساً منظماً يشمل كل فئة من فئاتها. ولا تهمل شأن توما توما فهو من الـخبيرين بـمجموع سان باولو. وهنالك نـجيب حنكش فلماذا لا تضمونه ليقوم بنصيبه. وغالب [صفدي] لا تهمل الاجتماع به. فهو كبير الروحية ولكنه قد يكون فتر لانعدام السياسية والدبلوماسية، وعدم إدراك الشؤون النفسية في الأفراد ومتطلباتها. فعد إلى الاجتماع به وانفرد به كل مرة مدة غير طويلة وحدّثه ملياً، واجعله يشعر بتقديري وتقديرك مزاياه ومواهبه، وابحث معه في كيفية تـحريك بعض العناصر. وهو على اتصال بآل معلوف ويوجد في سان باولو عدد من الشبان اهملتموهم كالذي نشرت له مقال «أنا ونحن» في عدد ماض من الزوبعة(). وكان يوجد رفيق من بيت شاهيـن جيد الروحية فماذا جرى له. جميع هؤلاء الأفراد يـمكن أن يشكّلوا مجموعة ذات شأن.
نديـم عبود دفع إليّ مقابل مبلغ أربعة كنط وبتأخره نحو يوميـن أو ثلاثة وقعت خسارة طفيفة تبلغ نحو خمسيـن فاس أرجنتينياً. وقد دعاني إلى العشاء مع عائلته وأخوته ودعا إدمون معلوف، وهناك اجتمعت بهذا الصديق ولم أكن مسروراً من تصرّف نديـم وأخوته والذنب ذنبه. فهو غير متأدب ولا محترم. فكان يخاطبني دائماً «السيد أنطون. ويا سيد أنطون» وصار قدوة لأخوته الذين كانوا يخاطبونني سابقاً «حضرة الزعيم» ولإدمون الذي جاراه وصار يقول «يا سيد أنطون»، ولكنه أحياناً كان يرى ذلك جافاً فيقول يا أستاذ فكان أحسن من نديـم وأخوته. والظاهر أنّ نديـماً يريد أن يؤكد عدم اعترافه بـمركز الزعيم، أو حسبان ذاته فوق هذه الاعتبارات، مع أنه لا صداقة خاصة لي به، وهذه أول مرة يصير فيها تقارب بيني وبينه. ولولا أني مـمثل القومييـن الاجتماعييـن لـما همّني. وإذا كنت وفؤاد تقبلان ذلك فأنا أقبله. والذي أراه أنه يجب على نديـم إعطاء مركز الزعامة حقه، وإن لم يكن هو تابعاً له، فالزعيم معروف زعيم من هو، واحترام هذه الزعامة لا يُنقص شيئاً من قدر السادة عبود.
يظهر أنك نسيت أمر الكتب التي وعدت بإرسالها، خصوصاً فلسفة إبن رشد لفرح أنطون. فعسى أن تنتهز فرصة قدوم أحد الأصدقاء. ولعل السيد أنيس راسي يأتي مرة أخرى قريباً.
بلِّغ القس خليل الراسي، الصديق الـحبيب، أني كتبت إليه منذ أكثر من شهر، والظاهر أنّ كتابي فُقِد فلم يصل إليه، وأني آسف لذلك. وآسف أيضاً لـمرض ابنه فؤاد الرجل الرصيـن الـجيد الصفات، ولم أعلم ذلك إلا منك، فأتـمنى أنّ يكون قد تـماثل إلى الشفاء، وسأكتب للقس خليل في فرصة أخرى لأني أحب أن يبقى على صلة بي.
أرســل إليك نسخــة بالإنكليزيــة من أقــوال رجــال الأدب والفــن والصحـافة الإنترناسيونية في الفنانة فدوى قربان صفرانو [soprano] مـمتازة، ونسخة من جدول غنائها هنا تـحت رعاية السفارة البريطانية ومجلس الـمجموع البريطاني في الأرجنتيـن. وأعتقد أنّ فدوى ستصير قريباً رفيقة. من النسختيـن تعلم مركز فدوى ومـما كتبته وتكتبه الزوبعة في صددها (أنظر ج 6 ص 218 و 230 و 243).
جاءت فدوى الأرجنتيـن وفي تقديرها الانضمام إلى مرسح الكولون هنا. ولكنها مرضت بعيد وصولها واضطرت لـمغادرة بوينُس آيرس إلى الداخلية حيث لها شقيقان في سان خوان قرب الـجبال. وعادت وفصل الغناء والـموسيقى في آخره. ففاتتها فرصة الاتصال بالكولون، ولست أدري هل تنتظر فرصة السنة القادمة أم تعود إلى الولايات الـمتحدة. إذا أمكن الرفقاء الاهتمام بأمر فدوى وتنظيم عدة حفلات لها في سان باولو وريو ويكون ريعها لـحركتنا فليجرِ ذلك. فعسى أن تكونوا عملييـن هذه الـمرّة.
إذا أمكن الاهتمام بـمنهاج غنائي لـما ذكرت فأرسل وأخبرني. وفدوى يـمكنها السفر حالـما يأتي خبر بحصول الاستعداد لإقامة حفلات غنائية تكسبها شيئاً لائقاً معقولاً من الـمدخول الـمالي. ويـمكن بعد ذلك الاهتمام بإدخالها «تياترو مونيسفال» أو غيره. فلا تتأخر بإخباري عن ذلك.
أتـمنى أن تكون والعائلة بخير وعسى أن أسمع منك قريباً. سلامي إلى جميع الرفقاء الـحاضرين. ولتحيى سورية.
بعد: من كتابك إلى جبران [مسوح] علمت أنّ نديـم عبود أرسل يعتذر عن تأخره في إيصال الـمبلغ الـمالي إليّ بانهماكي بأمر جبران مسوح. والـحقيقة أنّ السبب غير ذلك، فنديـم أتى إليّ في صباح أحد الأيام ولم يجدني، إذ كنت في الـمستشفى عند مسوح، ولكنه اتصل بي في ذاك النهار عينه ولم يجرِ أي تأخير من هذا القبيل. ولكن لا يحاسب نديـماً على مثل هذه الأمور، والأفضل أن نحاسبه على ما هو أهم.
كثرة مهامي جعلتني أنسى أن أكتب هذا الكتاب ليذهب مع إدمون معلوف فكتبته على ورق طيارة.
أرسل مع هذا الصديق كتاباً إلى القس الراسي.
(1) مقال «أنا ونحن» بقلم عزيز إبراهيم. العدد 49، 1/8/1942 .