لا بد من الاعتراف – في إطار إعادة بناء الفكر القومي العربي- بأن الايديولوجيا الوحدوية، التي عاش عليها الوحدويون العرب في العقود الـماضية، كانت ايديولوجيا طوباوية، حالـمة، إلى أبعد حد. وليس هذا من قبيل القدح فيها، فالنزوع نحو الطوباوية من خصائص الايديولوجيا، خصوصاً عندما كانت الشروط الـموضوعية الضرورية لتحقيق مشروعها لم تتوافر بعد. ولكن عندما تبدو في الأفق إمكانية تـحقيق الشكل العملي من مشروعها ذاك يغدو من الضروري تصفية الـحساب مع الـجانب الطوباوي فيها والانصراف انصرافاً كلياً إلى ما يقدمه الواقع من مـمكنات.
والـجانب الطوباوي الـحالم في الايديولوجيا الوحدوية خلال العقود الـماضية- وخلال الـخمسينات والستينات بصفة خاصة- يتمثل في كونها لم تكن تقبل عن الوحدة الاندماجية الشاملة بديلاً: كانت ترفض الشكل الاتـحادي بدعوى أن هذا الشكل لا يحقق الوحدة بل يكرس القطرية، وكانت ترفض قيام أي نوع من «الوحدة» بين الأنظمة العربية القائمة بدعوى أن وحدة من هذا النوع هي وحدة حكومات وأنظمة ضد الشعوب العربية، وكانت ترفض الوحدة الاقليمية كوحدة الهلال الـخصيب و»وحدة الـمغرب العربي» بدعوى أن من شأن هذه الاتـحادات الاقليمية أن تلغي الوحدة العربية الشاملة... إلخ.
قد نتساءل اليوم بتعجب واستغراب كيث حدث أن فكرنا وفكر «الزعماء» معنا، أو لنا، مثل هذا التفكير، كيف سلكنا هذا الـمسلك غير الـمنطقي الذي يرفض وحدة الهلال الـخصيب ووحدة وادي النيل ووحدة الـمغرب العربي ويرفض الوحدة بين الأنظمة والـحكومات...إلخ؟ ورغم أن هذا السؤال يبدو اليوم ثقيلاً تفضل النفس التملص منه فإنه من الضروري طرحه من أجل تصفية الـحساب مع الهواجس التي حجبت القاءه في وقته، الهواجس التي منعت الـمنطق عن مـمارسة سلطانه يوم كنا نرفض أي شكل آخر للوحدة غير «الوحدة الاندماجية الشاملة» التي تقوم ضد الأنظمة وضد الـحاكمين.
وقد لا يكون من الضروري التذكير هنا بأن التمويه الايديولوجي لا يصدر عن النية وسبق الاصرار: فالـمتبني لفكر الايديولوجيا الـمموهة يتبناها بصدق واخلاص غير شاعر بالزيف الذي يطبع وعيه لأنه منغمس في الايديولوجيا، يرى الواقع بذهن حالم وليس بعقل عالم...بيد أننا نفضل التذكير بهذا حتى لا يفهم من كلامنا أننا نحاكم النوايا أو أننا نـمارس نوعاً من النقد القادح، إلخ. إن كاتب هذه السطور لا يضع نفسه فوق التاريخ، لا يتعالى ولا يتنكر، ولا ينكر أنه وقع هو نفسه تـحت نظر الأعم الأغلب من الـمؤمنين بالوحدة العربية الفكرة السليمة الصائبة الصادقة، في حين أنه يرى فيها اليوم فكرة غير واقعية قوامها تداخل الطموحات الـمتنافسة الـمتنافية داخل الوعي.
بيان ذلك أننا إذا نظرنا إلى الفكر القومي العربي في مرحلة الـخمسينات والستينات وجدناه مليئاً بالطموحات ذات الطابع الاطلاقي الشمولي: فشعار الاستقلال كان شمولياً في مضمونه ايديولوجياً وجغرافياً، إذ يعني من جهة الشغل والـخبز والتعليم والصحة والعدل والـمساواة إلخ، كما يعني من جهة أخرى حق جميع الأقطار العربية في الاستقلال وبالتالي ضرورة تعاون العرب على تـحقيق استقلال الوطن العربي من الـخليج إلى الـمحيط. وقضية فلسطين قضية عربية تخص العرب من الـمحيط إلى الـخليج لأنها قضية عدوان صهيوني على جزء من الشعب العربي والأرض العربية، والاشتراكية مطلب عربي شمولي، فالـمطلوب هو «اشتراكية عربية» وليس اشتراكية سورية أو مصرية...والتنمية كذلك مطلوبة لا كواقعة قطرية بل كمطلب قومي...إذن، الشعارات كانت قومية عربية شمولية، فليس غريباً أن يكون شعار «الوحدة العربية» شعاراً شمولياً بهذا الـمعنى.
لـماذا هذه الشمولية في الشعارات؟ سؤال يطرح طبيعة مرحلة بأكملها، مرحلة من تطور الوعي العربي تشكل بدورها مظهراً من مظاهر التطور على صعيد الفكر العالـمي، مرحلة الـمد التحرري الثوري. لقد كانت مرحلة، ولا بد لكل مرحلة من أن تـمر، وقد مرت بخيرها وشرها ومن دون شك فخيرها كثير، وكثير جداً. ومن جملة الأشياء الـخيرة فيها الطابع الطوباوي الذي ميز طموح الناس خلالها، أن الطوباوية ليست عيباً كلها بل أن لها جانبها الايجابي هو رؤية «الـمستحيل» مـمكناً، وكما قيل «الـمفكر الطوباوي رفيق للمستحيل» رفيق له لأنه يراه مـمكناً بل واقعاً حاصلاً، وبذلك يكون رائداً وهو في الغالب «رائد لا يكذب أهله» وكل ما في الأمر هو أن نبوءته تخبر عن الـمستقبل البعيد...لا القريب.