يتخـوف اللبنانيـون من الانضمـام إلى سوريــة، لأنهـم يعتقـدون أنّ بالانضمـام تُسلب أوطانهم وامتيازاتهم وحقوقهم، ويصبحون عبيداً لشعب آخر ومستعمرة لدولة أجنبية. وقد كثرت مخاوفهم إلى حد صاروا معه ينظرون إلى سورية نظرهم إلى غولة تريد ابتلاعهم أو وحش يريد افتراسهم.
لا نعلم ما الداعي لهذه الـمخاوف والأوهام، وما السبب الذي يحمل اللبنانييـن على الاستقلال عن سورية. فإذا كان ذلك السبب هو تـجنّب الـمذابح التي تـحدث بسبب التعصب الديني، فإنهم بالانقسام يزيدون تلك النار استعاراً ولهيبها اندلاعاً، من حيث يظنون أنهم يخمدونها. وإذا كانت الأسباب غير ما ذكرت، فإنني لا أعلم أنّ هناك أسباباً سيـاسيــة أو غير سيـاسيــة تدعو إلى هذا الانفصال. وإذا كان يظن اللبنانيون أنّ باتـحادهم مع سورية تسلب حقوقهم ووطنهم، فهم بذلك على ضلال مبيـن، لأنهم باتـحادهم مع سورية يتسع وطنهم ولا تعود حقوقهم منحصرة في لبنان فقط، بل تكون حريتهم ووطنهم كل سورية من ترعة السويس حتى بر الأناضول ومن البادية إلى البحر الـمتوسط، يؤلفون دولة عظيمة ذات شأن وقوة ينظر إليها العالم بعيـن الاعتبار.
بينما نحن نرى في هذا الوقت العصيب إمبراطوريات عظيمة ومـمالك قوية تريد الانضمام إلى إمبراطوريات ومـمالك أخرى لتصبح أقوى وأعظم، نرى في ذات الوقت أنّ هنالك أمـماً ليست مستقلة، ولم يتقرر مصيرها بعد، تريد الانقسام على بعضها وكل مقاطعة منها تريد أن تكون دولة مستقلة عن الأخرى تـمام الاستقلال مع أنهم شعب واحد وبلاد واحدة. والغريب في هذه أنّ مصيرها ليس بيدها، وأنها لا تقدر أن تأتي أمراً إلا بـمصادقة الدولة الوصية أو الـحامية، وهذه لا تصادق عليه إلا إذا كان يوافق مصلحتها الاستعمارية.
غـورو منـدوب وصيّتنـا يقـول للبنانييـن إنّ لبنان يقدر أن يكون دولة ضخمة ذات قوة وعظمة متناهية إذ إنه أمنع حصون الشرق. أما أنا فأقول إنّ باتـحاد لبنان مع سورية يصبح دولة أضخم وذات قوة وعظمة غير متناهية، ولا يعود أمنع حصون الشرق فقط، بل الدولة ذات الأراضي الواسعة والـجيوش الكثيرة التي تـجعل حداً لـمطامع فرنسة الاستعمارية.
أيها اللبنانيون إفتحوا أعينكم وانظروا - أنظروا إلى إمبراطورية النمسة، تلك الإمبراطورية العظيمة ذات الـحصون الـمنيعة والقوة الهائلة التي كانت صدمات جيوشها في الـحرب العالـمية تزعزع الـجبال والتي كانت تعدّ نفسها أعظم دول العالم طراً. ها هي اليوم تريد الانضمام إلى ألـمانية، ليس لتكون مستعمرة لألـمانية ولا لتهب ألـمانية أراضيها بل لتصبح أعظم وأقوى وأمنع. أيعلم اللبنانيون لـماذا أرسل الـحلفاء بلاغاً إلى النمسة يتهددونها به باحتلال أراضيها إذا هي ظلت تعمل على الانضمام إلى ألـمانية؟ ليس ذلك شفقة منهم عليها لكي لا تهب نفسها لألـمانية بل خوفاً وارتياعاً من نتائج ذلك الاتـحاد.
ما هي الأسباب التي دعت اللبنانييـن لطلب الاستقلال عن سورية؟ أليس اللبنانيون والسوريون شعباً واحداً؟ فلماذا هذا الانفصال الذي لم يغيّر حال لبنان من الشقاء إلى السعادة، بل زاد شقاءه شقاءً حتى أصبح أبناؤه يودون بيعه للصهيونييـن، ليدفعوا ثمنه (أجرة ناولون) إلى أميركة أو أوروبة أو أي محل آخر يستنشقون فيه نسيم الـحرية اللطيف. أليس الأجدر أن تكون جميع البلاد السورية دولة واحدة مستقلة ذات حصون وقلاع وجيوش وأعلام وطنية من أن تكون مقسمة إلى دويلات مستعمرة من الأجانب؟
لو علم اللبنانيون عواقب تشبّثهم بالانفصال عن سورية والـحالة التي سيصلون إليها بفضل عناية فرنسة، لـما أبدوا ذلك التشبث مطلقاً. غير أنهم تسرّعوا في الأمر حاسبيـن أنّ استقلالهم تـحت عناية فرنسة يكون أفضل لهم من استقلالهم التام الـمطلق مع إخوانهم السورييـن، وأن يكون لبنان وحده وطناً لهم أحسن من أن يكون لبنان وسورية معاً.
كيف يقبل اللبنانيون أن يكون لهم قسم محدود من الأراضي السورية يعيشون فيه مع أنهم سوريون ووطنهم سورية بأجمعها ولهم فيها من الـحقوق ما لإخوانهم السورييـن؟ هذا شيء تـحار فيه العقول لأنه لا يوجد أسباب تقضي على اللبنانييـن بذلك، والظاهر أنهم يريدون هذا الانقسام لـمجرد أنهم يريدونه فقط.
لا شك بأن اللبنانييـن مخطئون باستقلالهم عن سورية. ولكن تبعة هذا الـخطأ لا يجب أن تقع على جميع اللبنانييـن، بل على نوابهم وقادة الرأي الذين لا ينظرون إلا إلى كل ما يعود عليهم بالنفع الشخصي ولو أدى ذلك إلى هلاك اللبنانييـن بأسرهم.
يوجد فريق من اللبنانييـن الذين إذا سألتهم لـماذا تريدون للبنان الاستقلال عن سورية، يجيبوك على الفور إنّ لبنان جدير بالاستقلال. ويؤيدون قولهم باتخاذهم استقلال الـجبل الأسود([1]) برهاناً على ذلك، مع أنّ هذا لا يصح أن يُتَّخذ حجة أو برهاناً لأن سكان الـجبل الأسود أرادوا أن يتحرروا من نير الأتراك لأنهم ليسوا أتراكاً، وأرادوا أن يستقلوا في بلادهم ويحكموا أنفســهم بأنفسـهم لأنهم لا يريدون أن يُستعبدوا لشعب آخر. ولكن مـمن يريد اللبنانيون أن يتحرروا، ولـماذا يريدون أن يستقلوا عن سورية؟ هل هم شعب والسوريون شعب آخر لا يريدون أن يُستعبدوا له أم ماذا؟ أليسوا هم والسوريون شعباً واحداً؟ إنني لست من الذين ينكرون جدارة لبنان بالاستقلال، ولكنني أرى أن يكون لبنان وسورية دولة واحدة هو الأجدر إذ هما شعب واحد في بلاد واحدة غير قابلة للتجزئة.
أنطون سعاده
[1]الـجبل الأسود: مقاطعة في البلقان مساحتها 14000 كلم2 اتـحدت مع صربية وكرواتية لتكوّن دولة يوغسلافية بعد الـحرب العالـمية الأولى.