لبست الـجمهورية اللبنانية حلَّة الـمعاهدة بعد أن كانت تلبس رداء الانتداب، وإنه مكتوب على هذه الـحلَّة إسمٌ كان مكتوباً على الرداء، (Made in France). ومع أنّ الثوب قد تبدَّل فإن الـجسم قد بقي على حاله من صحة أو مرض.
لست هنا في مقام النظر في الـمعاهدة ما بين لبنان وفرنسة، بل في مكان درس سياسي يتعلق بحالة نُسبت خطأ إلى الـمعاهدة، هي الـحالة التي أدّت إلى عدة حوادث مؤسفة أهمها حادث مظاهرات بيروت.
الظاهر جلياً من التطورات السياسية والأعمال أو الـمظاهر السياسية التي أخذت مجراها، أنّ الـمقياس السياسي الوطني في سورية كلها لا يزال يُعتبر عند جميع الـجماعات التي لـمّا تتأثر بالنهضة التي ولدها الـحزب السوري القومي، وهذا الـمقياس هو النعرات الطائفية التي أصبحت أحد أسلحة الاستغلاليين من جميع الـمذاهب يستعملونه وراء ألفاظ "استقلال لبنان" و "الوحدة السورية"، وهو سلاح لم يجرَّد في سبيل استقلال لبنان ولا في سبيل الوحدة السورية، بل في سبيل تنازع الـمصالح الاستثمارية الـمطاوع لتنازع مصالح الـمؤسسات الدينية. هذه هي الـحالة السياسية الـمؤسفة التي تُخضع الـمصلحة العامة للمصالح الـجزئية السياسية الأنانية وتضحي مصلحة الأمة على مذبح الـمطامع الاستغلالية.
يريد بعض الناس من خطباء وكتبة ومحدّثين أن يشجبوا فئة دون أخرى أو أن يخطّئوا الـجماعات كلها، فيجدون بذلك مخرجاً للنفعيين فلا تتنبه الـجماعات لوجودهم وخطرهم، ويظل الصراع قائماً على نفس الأساس ولنفس الأسباب، ويظل النفعيون يجدون في دماء الغوغاء مستنداً لنفوذهم وثمناً لأغلاطهم.
ليست الـمسألة الـمطروحة أمام الأمة لتحلّها مسألة إبرام الـمعاهدتين الشامية واللبنانية، بل مسألة الـمصالح الـحيوية والأخيرة التي تبرر تـحريك الـجماعات واستباحة الدماء.
إنّ النفعيين الذين لا همّ لهم سوى استثمار الـحال الراهنة لأغراضهم الـخاصة لا يزالون يرون الـمصالح مصالح مسلمين ومسيحيين ودروز، إلخ. وكل نفعي يلتجىء إلى جماعته الدينية ليسيِّرها في سبيل منافعه ونفوذه. إنهم يجدون في تقسيم الـمصالح وفاقاً للقاعدة الـمذهبية الوسيلة الاستثمارية الأقرب متناولاً.
إنّ حوادث بيروت الأخيرة وحوادث حلب التي سبقتها، دلّت بكل جلاء على الأسباب الباعثة، كما دلّت على النتائج الـحاصلة والنتائج الـمتوخاة. ولولا موقف السوريين القوميين الذي نبَّه الشعب إلى الـخطر الـمحدق بالأمة وأوجد الـمصلحة العامة وسط فوضى الـمصالح الـخاصة، لكانت الـحال بلغت مبلغاً كبيراً وذهبت مذهباً بعيداً.
إنّ موقف رفقائي القوميين قد برهن على أنّ النهضة الـحديثة آخذة في وضع حد لسياسة تضحية مصالح العامة في سبيل الـمصالح الـخاصة. ولا بد بعد تقديم هذا البرهان من أن يصير العراك الـمقبل بين مبادىء النهضة القومية الصحيحة التي لا تـجيز سفك دماء العامة من أجل مصالح الـخاصة وبين مبادىء الـحركات الاستثمارية.
لن تكون الـمعركة هينة، أما النصر فسيكون حليف الـمبادىء التي تؤمِّن الـمصلحة القومية ضد الـمصالح الـخاصة.
إنّ النهضة التي تنظر في مصالح الفلاحين والعمال وأرباب الـحرف والصناعات والتجارات وتتخذ منها أساساً لكل أعمالها خليقة أن تنتصر على جميع الـحركات السياسية التي تشتري الـمنفعة والنفوذ الـخاصّيْن بدماء الغوغاء. وما يؤيد الشعب تأييداً مطلقاً إلا الذين يخدمون مصلحته خدمة مخلصة.