قبل الـحرب الماضية 1914 - 1918 كانت النقمة في سورية عظيمة على تركية بسبب احتلالها البلاد واستبدادها بها. وقد اهتمت فرنسة لاستغلال هذه النقمة فسمحت لرجال سورية العاملين لإثارة العالم العربي على تركية بعقد مؤتـمر في باريس سنة 1913 وشجّعتهم على الـمضي في أعمالـهم الثورية على تركية، بقصد إضعاف هذه الدولة التي كانت تسمّى في ذلك العهد «الرجل الـمريض»، فتمد يدها هي وتقبض على أكبر قسم مـمكن من تركته بينما أولئك «السياسيون» الـخياليون يحلمون بــإنشاء سيادة قومية للأمـم العربية الواقعة تـحت الضغط التركي.
ولـمّا نشبت الـحرب الـماضية رأى الـحلفاء أن يستغلوا نقمة الأقطار العربية على تركية، فأعلنوا أنـهم يدافعون عن جميع الشعوب الضعيفة ويحاربون في سبيل حريتها وإقامة العدل في العالم. ووعدوا الـمشتغلين بـ «السياسة العربية» والعاملين لاستقلال سورية بالاعتراف باستقلال سورية وإنالتها حريتها بعد انتهاء الـحرب. وكثير من السوريين في الأرجنتين لا يزالون يذكرون اللجنة السورية التي تألفت بــإيعاز وتشجيع فرنسة ومؤازرتها الـمادية والـمعنوية، وزارت هذا الـمهجر السوري في جملة الـمهاجر التي زارتها. وهي لـجنة لكح ومردم التي أمّت، في ذلك الوقت، أميركة الـجنوبية لتحثّ السوريين على اعتناق دعوة الـحلفاء وتأييدهم والتطوع لنصرتهم.
إنّ وعود سياسيّي الـحلفاء لا تزال ترن في آذاننا. ونحن اليوم نذكر تلك الوعود باشمئزاز وننعي على الـحلفاء شرفهم ونرميهم بتهم الـخداع والغش. والـحقيقة أنه إذا كان للحلفاء وزر في إعطاء تلك التصريحات، فالوزر الأكبر يحمله أولئك السياسيون «الـمشتغلون بالسياسة العربية» الذين زيّنوا لنا وعود الـحلفاء تزييناً خلاّباً وأغروا الشعب بها. وكان أكثرهم من الـمغترّين الذين دفعهم غرورهم إلى قبول وعود الـحلفاء وتأكيداتـهم الشخصية لهم وبناء قصور في الهواء وإمبراطوريات ضخمة في عالـم الـخيال.
وإذا درسنا مسألة تصريحات الـحلفاء ووعودهم في الـحرب الـماضية، تبيّن لنا أنـها كانت مسألة خطة إذاعية لاكتساب تأييد الشعوب الـمحايدة والـمظلومة. وهي خطة قصرت دول وسط أوروبة عن إدراك قوّتها، ولكنها كانت أفعل في ربح الـحرب من الـمعارك الكبيرة.
مـما لا شك فيه أننا نحن السوريين ذهبنا ضحية التصريحات والوعود البراقة الـمشار إليها. وساعد على ستر الـحقيقة عنا اغترار عدد من «الـمشتغلين بالسياسة العربية» منّا بهذه الوعود وتزيينها لنا فصار الشعب يثق بها ويعتمد عليها، خصوصاً بعد أن كان أولئك الأفراد «الـمشتغلون بالسياسة العربية» يذيعون أنـهم نالوا تأكيدات من مراجع الـحل والعقد بأن استقلال سورية والأقطار العربية أمر مقرر. فهل نذهب في هذه الـحرب أيضاً ضحية التصريحات والوعود؟
الـموقف السياسي في هذه الـحرب قد تغيّر. فالذين كانوا أصدقاءنا في الـحرب الـماضية هم أعداؤنا في هذه الـحرب. وبعض الذين كانوا أعداءنا في الـحرب الـماضية يذيعون في هذه الـحرب أنـهم أصدقاؤنا ويحبون خيرنا. ويوجد اليوم في أوروبة بعض «الـمشتغلين بالسياسة العربية» تتخذه دوائر الإذاعة الـحربية وسيلة لإحداث أفعال توافق حركات دولها. وهو الآن آخذ في تـمثيل الدور عينه الذي مثّله معنا رفقاؤه في السياسة الـمذكورة. فهل تقع الأمة السورية، في هذه الـحرب أيضاً، فريسة الإذاعات والوعود الـخلابة وضحية جهل «الـمشتغلين بالسياسة العربية» في أوروبة؟
نضع هذا السؤال أمام الرأي العام بـمناسبة إذاعة البرقيات في ديسمبر/كانون الأول الـماضي خبر صدور بلاغات في برلين ورومة تـحمل تصريحات من الـحكومتين الألـمانية والإيطالية: «باستعدادهما لـمساعدة الأمـم العربية في أي جهاد تقوم به لنيل حريتها.» ونص التصريح الذي أعلنته الـحكومة الألـمانية كما يلي:
«إنّ ألـمانية التي شعرت دائماً بصداقتها الـمتينة للأمـم العربية، والتي تـمنَّت لها حياة عزيزة سعيدة وأن تتبوأ مكاناً لائقاً بين شعوب العالم يتكافأ مع عظمتها التاريخية وأهميتها الطبيعية، قد تتبعت دائماً بعين الاهتمام كفاح الأقطار العربية في سبيل استقلالها.
«إنّ الأمـم العربية وهي تـجاهد وتكافح في سبيل هذه الغاية تستطيع أن تعوّل وتعتمد على عطف ألـمانية التام.
«وإنّ ألـمانية، بإعلانها هذا التصريح الرسمي لهي على اتفاق تام مع حليفتها إيطالية بهذا الصدد» انتهى البلاغ.
وقد قام الـمير شكيب أرسلان يؤول هذا التصريح تأويلاً مغرياً احتاط له بعبارة دبلوماسية تـحفظ له خط الرجعة وهي قوله: «إنّ هذا البلاغ وإنْ كنا نـجده حسناً ونعرف جميع الأسباب التي حملت على الاكتفاء فيه بهذا الـمقدار الآن، لا نـجده كافياً». ولكنه في شرحه الإذاعي عليه ذهب في إغراء الشعب بتأييده مذهباً بعيداً يذكرنا ما ذهب هذا الـمذهب في تأييده في الـحرب السابقة أمثال جميل مردم وشكري غانـم.
ونحن نقول للمير شكيب أرسلان إنّ العبارة الدبلوماسية التي احتاط بها ضد من يرميه بالعمل لـمصلحة الإذاعة الألـمانية، وإنْ كنا نـجدها حسنة ونعرف جميع الأسباب التي حملت على إثباتها والاكتفاء بها، لا نـجدها كافية لتبرير الاندفاع في تأييد بلاغ تذيعه الـحكومة الألـمانية بالاتفاق مع حليفتها الـحكومة الإيطالية في ساعة حرجة من ساعات الـحرب.
إننا لا نـجد فيه ما يجده الـمير شكيب أرسلان الذي يصور لنا البلاغ كأنه يعترف بوجود «أمة عربية» ويرغب في عودتها «كدولة مـمتدة من جدار الصين إلى جبال البيرانيه، ومن حدود القوقاس إلى أقاصي السودان» ، في حين يقول البلاغ «أمـم عربية»!
وإذا كان الـمير شكيب أرسلان قد وهم أنّ البلاغ يفيد هذه الفائدة، وهو بلاغ مشترك من الـحكومتين الألـمانية والإيطالية، فهل يجب أن نتابعه في هذا الوهم في حين نرى إيطالية تطلب تونس والتسلط على جميع شواطىء الـمتوسط؟
لـماذا لا تعلن إيطالية استقلال طرابلس الغرب وتخلّيها عن مطامعها في تونس وسورية وتسحب جيوشها من «البلاد العربية» التي تـحتلها؟
في هذا الـموقف يجب علينا أن نلفت نظر السوريين القوميين وجميع السوريين إلى تـحذير سعاده الذي أعلنه في خطابه أول يونيو/حزيران سنة 1935 وهو:
«إننا لا نعترف بـمبدأ الدعاوة الأجنبية. وإنّ الإرادة السورية الـجديدة لا تسكت عن الـمناورات السياسية التي يقصد منها استدراج أمتنا إلى تكرار الأغلاط السياسية التي ارتكبت في الـماضي وكانت وبالاً عليها.»
أيها السوريون استفيقوا وأيِّدوا الـحركة القومية الساهرة على حقوقكم ومصالـحكم.