(لـخّصنا تلخيصاً في العدد السابق الرسالة الـمسهبة التي أرسلها إلينا مراسلنا في مدينة كوردبة. وما فاتنا ذكره في العدد الـماضي نذكره في هذا العدد.
اتصل خبر وجود الزعيم في كوردبة بالأوساط العالية الأرجنتينية، فاهتمت لوجوده وأظهرت عطفاً جميلاً وتأييداً نبيلاً لـمهمة الزعيم. ونذكر، بصورة خاصة، اهتمام الأوساط العلمية التي ما كاد يبلغها أنّ الزعيم رجل علم ومؤلف في العلم الاجتماعي، حتى خفَّ بعض كبار رجالها لزيارته ودعوته لزيارة جامعة كوردبة. فقدم الدكتور فرير، عميد كلية الـحقوق سابقاً، وبلّغه الدعوة ورافقه من قبل الـجامعة، كما رافقه من قبل السوريين الأديب السوري الـمعروف السيد يوسف غريب، الذي تخصص بترجمة مؤلفات الكاتب السوري الكبير جبران خليل جبران إلى الإسبانية، والسيد توفيق سعاده، أحد وجهاء جاليتنا في كوردبة.
وقد قوبل الزعيم، في الـجامعة، من قبل الأساتذة بكل حفاوة وتقدير وقُدِّم إليه عدد منهم. ثم دعي لـحضور فحص في كلية الـحقوق فأظهر أساتذتـها إكراماً يدل على تقديرهم العظماء فقدّموا للزعيم رئاسة اللجنة الفاحصة وجرى فحص أحد الطلاب تـحت رئاسة الزعيم.
وبعد أن زار الزعيم أقسام الـجامعة ومكتبتها الكبيرة شُيّع بالاحترام اللائق وعاد معه مرافقوه فتناولوا جميعاً الشاي معاً. وفي أثناء الشاي جرى حديث شائق شرح فيه الزعيم حالة سورية ومهمته الكبرى.
وفي اليوم التالي للمأدبة استقبل الزعيم موفد جريدة «لا فوص دل إنتريور» وأدلى إليه بحديث نشر في عددها الصادر بتاريخ 29 ديسمبر/كانون الأول 1940.
وفي اليوم التالي لزيارته الـجامعة جرت الـمأدبة الوارد ذكرها ووصفها في العدد الـماضي وإننا نورد في ما يلي خطبة الزعيم القيّمة)
أيها السوريون، أيها الـمواطنون، إنها لفرصة سعيدة هذه الفرصة التي نـجتمع فيها الآن لنتعارف ونتفاهم تفاهماً صحيحاً، خالياً من الرياء والـمحاباة اللذين زيّنا كل حفلة تقريباً من حفلات العهد اللاقومي الـماضي. فكل حفلة من تلك الـحفلات كانت مظهراً من مظاهر الرياء والـمحاباة، تتستر وراء مظاهرها الـخلابة غايات الـمجتمعين الـمتنازعة والـمتضاربة.
إني أعلم أنّ هذا الاجتماع، وإنْ قال الـخطباء إنه دليل شعور واحد في الـجالية نحوي ونحو رسالة الـحزب سوري القومي، يحمل وراء مظاهره قسماً ولو قليلاً من بقايا نفسية ذلك العهد القديـم. فإني أشعر بالصلة الوثيقة بين قلبي وقلوب قسم من جالية كوردبة وأشعر، كذلك، بأنه لا صلة في الشعور بين قلبي وقلوب قسم آخر من مواطنيّ هنا.
إني أشعر بالذين هم معي وبالذين ليسوا معي منكم. وإني أصارحكم القول، لأنـي أريد وضع حد في هذه الـجالية، كما وضعت حداً في غيرها، للتدجيل والرياء. وإني أقول هذا القول الصريح، لأنـي لست في حاجة إلى الـمظاهر الفارغة ولأن عملي لا يقوم على شيء من الـمظاهر الـخداعة.
إني جعلت خطة رئيسية لعملي أن أكتفي بالرجال والنساء السوريين الذين يلبّون الدعوة القومية بعزيـمة صادقة ونفوس تـجرّدت عن الـمآرب النفعية.
لم آتِ إلا داعياً إلى الـحق، فمن غضب منكم لأنـي لا أميل مع أهوائه فليغضب. فإني لا يهمني من يرضى منكم عني ومن لا يرضى، فلست طالباً غير رضى الـحق الذي أعرفه والذي جئت أدعوكم إليه.
ولو أنـي كنت أقصد الدعوة لغير الـحق أو لـما فيه نفعي الـخاص، لكان مجموع الـجالية كله صديقاً لي، لأنـي ما كنت لـجأت إلا إلى كسب رضاكم ومتابعة ميولكم وأهوائكم وإقرار عنعناتكم، فأكون مع الـمسيحي مسيحياً، ومع الـمسلم مسلماً، ومع الدرزي درزياً، ومع الكافر كافراً، ومع الـمؤمن مؤمناً. وكنت أقول لكم إنكم كلكم على الـحق. وكنت رأيت انشقاقكم اتـحاداً وخمولكم نهضة وعيبكم كمالاً وأنانيتكم غيرية.
ولكني ما قصدت غير الدعوة إلى الـحق وتقويـم اعوجاجكم، ولو كره الكارهون، ونفر الذين يسوؤهم قول الـحق ولا يحبون إلا أن يكون الكلام فيهم مديحاً.
إنكم سمعتم من الذين يطلبون كسب مودتكم بالنفاق والزندقة مطاعن كثيرة في الـحزب السوري القومي، وكثير منكم قرأوا مبادىء الـحزب السوري القومي ورأوا أنه لا وجه للطعن فيها، ولكنهم يحتاجون إلى تصريح يقوي عقيدتهم.
إنّ الذين حاربوا النهضة السورية القومية هم فريقان من الرجعيين: فريق الضاربين على وتر الـجامعة العربية ــــ الإسلامية. وفريق الضاربين على وتر الانفصال اللبناني الـماروني. والأولون يكذبون على الناس قائلين إنّ الـحزب السوري القومي عدو للعرب والإسلام. والآخرون يقولون إنّ الـحزب السوري القومي عدو للبنانيين والـمسيحية. وكل من رجع إلى مبادىء الـحزب السوري القومي ووثائقه الرسمية يتأكد له أنّ الفريقين يخدعون الناس وينافقون في الوطنية.
ومع ذلك فإني أشعر أنكم ترغبون وتتوقعون مني تصريحاً عن موقف الـحزب من العالم العربي ومن لبنان. ففي الـمسألة الأولـى أقول إنّ الـحزب السوري القومي يعدّ سورية أمة من أمـم العالم العربي، وقد صرحت في أول مارس/آذار [1940] الـماضي أنه متى كانت الـمسألة مسألة مكانة العالم العربي كله وكرامته فنحن جبهة العالم العربي وسيفه وترسه. ولكننا نحسب ونؤكد أنّ الوجهة القومية الصحيحة تتطلب منا أن نفهم سوريتنا وأن نعمل ضمن نطاق شعبنا.
إنّ العالم العربي لا يـمكنه أن يستفيد من سورية منقسمة على نفسها، مجزأة بين الأحزاب الدينية، ورازحة تـحت نظام اقتصادي ــــ سياسي فاسد. فالنهضة السورية القومية تعمل لتوحيد سورية، ولـجعل العصبية القومية تنتصر على العصبيات الدينية الـمتنافرة، ولإقامة العدل الاقتصادي ــــ الاجتماعي الذي يؤهل سورية لأن تكون أمة حية قوية. ومتى صارت سورية ناهضة قوية كما يريدها ويعمل لـجعلها الـحزب السوري القومي، أيوجد عاقل واحد، غير مصاب بـمرض النفعية، يعتقد أو يقول إنّ ذلك يكون ضد مصلحة العالم العربي؟
ولكن الـمنافقين الذين يحاربون الـحزب السوري القومي لا يهمهم ماذا يكون مصير سورية، أو ماذا يكون مصير العالم العربي. أولئك لا يهمهم سوى ما ينتفعون. وإذا كان للعالم العربي أعداء من داخله فأولئك هم أعداؤه وساؤوا مصيراً.
وفي الـمسألة الثانية أقول: إنّ الـحزب السوري القومي قد أوجد أساس الوحدة القومية التي تنفي جميع الأسباب التي أدت إلى فكرة الانفصال. ولا يوجد في لبنان جنس منفصل عن الـجنس السوري. وجميع الأسباب الاجتماعية والاقتصادية تقضي بأن اللبنانيين هم سوريون لهم حقوق في سورية كلها، وبأن انفصال لبنان عن جسم الوطن السوري ليس له نتيجة غير انحطاط اللبنانيين واستضعافهم واستعبادهم.
وقد قلت وأكرر القول إنه إذا كان للشعب اللبناني أعداء من داخله فهم أولئك الذين يقبلون الإيعاز الأجنبي بعزله وجعله تـحت رحمة الـمطامع الأجنبية، والذين يحاربون فكرة الـحزب السوري القومي التي تفتح باب الـحياة القومية والسيادة القومية في وطن كبير، حر، سعيد، أمام اللبنانيين.
أيها الـمواطنون،
إني وجدت في هذا البلد فئة نيّرة، صالـحة منكم، إليها يعود الفضل في نشوء هذه الـحركة الطيبة بينكم. فأوصيكم بالالتفاف حول هذه الفئة وباتباع صوت الـحق. ولا تعللوا أنفسكم بنجاح الـمبادىء التي لا تتخذ وحدة الأمة قاعدة لها. ولا تعتقدوا أنه يـمكن أن تتغير حالكم ما لم تغيّروا ما بأنفسكم. ولا يقولنّ أحد منكم «على الآخرين أن يسمعوا ويعوا»، بل عليكم كلكم أن تسمعوا وتعوا وتعودوا إلى الـحق، فتكونوا أمة واحدة قوية وتفلحوا ويأتيكم النصر.