أظهرنا في الـحلقة السابقة بطلان حجة أصحاب فكرة الـجنسية الدينية والدولة الدينية الـمحمدية الذين حاولوا تأويل القرآن على هواهم وتفسير الدين بـما ينطبق على أغراضهم. وقلنا إنّ اجتهادهم الـمستند إلى بعض آي القرآن دون بعض هو اجتهاد باطل، لأنه يلغي فكرة وحدة الكتاب ووحدة الدين، ويجري ضد غاية الدين الأصلية، ويحاول التغرير بالـمؤمنين حتى تختلط عليهم أغراض الدين وأغراض الدولة فلا يـميزوا بين تلك وهذه، وهو غاية الضلال.
وقد جئنا بشواهد كثيرة من القرآن على فساد تأويل صاحبي العروة الوثقى لغرض الدين وعلى أنّ «تنمية الـملة» كان أمراً ضرورياً وفرضاً على الـمؤمنين، لتثبيت دينهم في أرض الشرك (الوثنية)، ولإزالة أخطار الوثنيين عليه. وأثبتنا أنّ فرض القتال كان للتغلب على الذين يقاتلون الـمؤمنين في الدين. ونزيد هنا على ما أثبتناه أنه لا يجوز الاحتجاج بآية: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الـحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الـجزية عن يد وهم صاغرون»([1]) فهذه الآية وردت في إبّان التحريض على قتال الـمشركين والذين ظاهروهم من أهل الكتاب على قتال أتباع محمد واضطهاد دعوته. فهي من قسم نقض العهد مع الـمشركين من سورة الأنفال التي فيها نص صريح بالتحريض على القتال. والآية ظرفية بحتة ومتعلقة بالـحرب بين محمد وأعداء دعوته في العُربة. وتخصيص أهل الكتاب بدفع الـجزية بدلاً من وجوب تغيير صلاتهم ومعتقدهم هو برهان قاطع على أنّ الـحرب بين الـمحمديين وبينهم لم تكن على أساس فساد دينهم واعتقادهم بالله، إذ إنّ القرآن جاء «مصدقاً لـما معهم»([2]).بل على أساس تكذيبهم لـمحمد ومعاونة الـمشركين عليه. وهو مختص بالعرب من أهل الكتاب الذين جعلوا ثلاثة آلهة في محل الله الواحد وقالوا بألوهية مريـم، وفسروا الـمسيحية على ما لا ينطبق على تعاليمها. فحكم الآية الـمذكورة مقيَّد بظرف الزمان وظرف الـمكان. والبرهان على ذلك هو في وجود آيات كثيرة مكية ومدنية لا تـجيز إطلاقها كآية «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»([3]) وآية «وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون»([4]) وآية «لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ»([5]) وآية «ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب»([6]) وآية «الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون»([7]) وغيرها كثير يضيق عنه هذا الـمجال. وانظر الفرق بين آية قبول الـجزية من الذين «لا يدينون دين الـحق من الذين أوتوا الكتاب»([8])، والـمقصود بعض أهل الكتاب وليس كلهم، وآية قتال الـمشركين حتى يتوبوا ويؤمنوا وهي من السورة عينها قال: «فإذا انسلخ الأشهر الـحرم فاقتلوا الـمشركين حيث وجدتـموهم (ولا يدخل معهم أحد من أهل الكتاب) وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إنّ الله غفور رحيم»([9]). فمحاربة «الذين لا يدينون دين الـحق من الذين أوتوا الكتاب»([10]) لا تتناول جميع أهل الكتاب، بل تقتصر على الذين أساؤوا فهم دينهم من العرب الذين وصفنا أمرهم وصفاً مؤيداً بشواهد. وتخصيص الذين «لا يدينون دين الـحق» يعني أنه يوجد من يدينون هذا الدين بـموجب كتابهم. أمّا تأويل الـمعنى على غير هذا الوجه فاجتهاد بعيد جـداً، والعمل بالاجتهـاد غير واجـب، لأن الـمجتهد يقول بـما يصل إليه إدراكه وقصده، فكلامه رأي شخصي لا يلزم النص إذ هو في غير مقام النبوة والوحي. والمصيبة كانت دائماً في الذين يريدون أن يجعلوا اجتهادهم في مقام الوحي والنبوة، ويطلبون من الـمؤمنين ترك النص والتعويل على اجتهادهم.
إنّ أصحاب فكرة الـجنسية الدينية والدولة الدينية من الـمجتهدين في تفسير القرآن وتأويله، وهم أصحاب غاية السلطان والـمطامع في الـحكم عن طريق الدين، لم يحاولوا التفكير في ما هـو أبعد من الطفـرة الوقتيـة ولا في طبائـع الدول والـمجتمعـات الإنسانية.
وأغرب من ذلك أنهم لم يهتموا بدرس نشأة دولة الدين الـمحمدي وتلاشيها، ولا بدرس نشأة دولة الدين الـمسيحي وانقراضها. ولذلك يعزون تفكك وحدة الدولة الدينية الـمحمدية إلى «تخالف طلاب الـملك وتنازع الأمراء» فقد قال صاحبا العروة الوثقى، وهما أستاذا هذه الـمدرسة الفكرية «العصرية» في مقالة «الوحدة الإسلامية»:
«نعم يوجد للتقصير في إنـماء العلوم وللضعف في القوة أسباب أعظمها تخالف طلاب الـملك فيهم (الـمحمديين)، لأنّا بيّنا أن لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم فتعدد الـملكة عليهم كتعدد الرؤساء في قبيلة واحدة والسلاطين في جنس واحد، مع تباين الأغراض وتعارض الغايات. فشغلوا أفكار الكافة بـمظاهرة كل خصم على خصمه، وألهوا العامة بتهيئة وسائل الـمغالبة وقهر بعضهم لبعض. فأدت هذه الـمغالبات وهي أشبه شيء بالـمنازعات الداخلية إلى الذهول عما نالوا من العلوم والصنائع، فضلاً عن التقصير في طلب ما لم ينالوا منها والانحسار دون الترقي في عواليها. ونشأ من هذا ما نراه من الفاقة والاحتياج، وعقبه الضعف في القوة والـخلل في النظام، وجلب تنازع الأمراء على الـمسلمين تفرّق الكلمة وانشقاق العصا»([11])
ثم تأتي فقرة أخرى من الـمقالة عينها في مجلة العروة الوثقى وهذا نصها:
«إنّ رعاة الـمسلمين، فضلاً عمن علاهم، تتصاعد زفراتهم وتفيض أعينهم من الدمع حزناً وبكاءً على ما أصاب ملّتهم من تفرق الآراء وتضارب الأهواء. ولولا وجود الغواة من الأمراء ذوي الـمطامع في السلطة بينهم لاجتمع شرقيهم بغربيهم وشماليهم بجنوبيهم ولبّى جميعهم نداء واحداً.»([12])
أول ما يظهر التحقيق العلمي بعده عن حقائق العلم الصحيح، من كلام العروة الوثقى الـمثبت قبل هذه الفقرة، هو عزو انفراط وحدة الدولة الدينية الـمحمدية إلى «تـحالف طلاب الـملك» في الـمحمديين. فصاحب هذا الكلام لا يعرف من أسباب الاجتماع الإنساني وروابطه غير سبب الدين الإلهي ورابطته، مع أنّ الاجتماع لازم البشريـة منذ أقـدم أزمنـة وجـودها ومع أنّ التاريـخ يخبرنا عن دول عظيمة أقـامـت النظام وفتحت الفتوحات البعيدة قبل عهد الكتب الـمنزلة والتبشير بالإله السماوي الواحد، كما جرى للدول السورية منذ العهد الفينيقي إلى آخر العهد السلوقي. والإمبراطورية السورية الشرقية التي ابتدأت بصـور، بعد صيدا، وانتهت بنهايـة الدولة السلوقية، والإمبراطورية
السورية الغربية، وقاعدتها قرطاضة، قد عمرتا أكثر من أية دولة أو إمبراطورية دينية، وكانت لكل منهما وحدة ورابطة لم تنل مثلهما الدول الدينية. فتخالف طلاب الـملك وتنازع الأمراء قد يكونان السبب الأعظم لفشل دولة من الدول الاجتماعية وتخاذلها، ولكنهما ليسا السبب الأعظم ولا الهامّ في تلاشي الدولة الدينية، لأن طبيعة الاجتماع الإنساني غير طبيعة الدين والإيـمان. فالـمؤمنون من كل دين أخوة بالـمعنى الروحي فقط، أما بالـمعنى الاجتماعي - الاقتصادي فالأخوة هم فقط أبناء الـمجتمع الواحد الذين ألّفت بينهم البيئة وجمعتهم أسباب العيش ومطالب الـحياة لا أسباب السماء ومطالب الإيـمان.
الدولة الدينية الـمحمدية نشأت ونشأ الاختلاف بين الأمراء معها في أصولها. فاختلاف الصحابة وتنازعهم الأمر وحروبهم لم تكن على نص ديني ولا على غاية دينية، بل على السلطة والنفوذ. فطبيعة حياتهم العربية وتقاليد العرب وقبائلهم وعاداتهم ومطالبهم هي سبب هذه الـمنازعات بين الصحابة التي امتدت إلى كل مكان دخله العنصر العربي. وهذه الـمنازعات لم تكن منازعات في الدولة الـمحمدية، بل في البيئة والـمجاميع العربية، فلا يصح إطلاقها على جميع الـمنازعات التي أدت إلى تفكك دولة الدين الـمحمدي. فإن أسباب هذه الـمنازعات الأخيرة التي تفككت من جرائها وحدة الدولة الدينية الـمحمدية هي عينها أسباب الـمنازعات التي انتهت بتفكك وحدة الدولة الدينية الـمسيحية، أي الأسباب القومية. فالقومية قد انتصرت على الدولة الدينية. فلم يطق السوري الـخضوع لدولة فارسية باسم الدين ولا لأية دولة دينية غير سورية، ولم يطق الفرس الـخضوع للعرب، ولم تطق سورية وغيرها من الأقطار العربية الـخضوع لتركية. فاختلاف الأجناس والعقليات والبيئات لا يـمكن أن يزول بوحدة الدين أو بوحدة الشرع، لأنه من طبيعة الواقع الاجتماعي. وجهل هذه القاعدة الاجتماعية هو الذي جعل صاحبي العروة الوثقى يقولان إنّ السبب الأعظم لتفرُّق كلمة الـمحمديين هو «تخالف طلاب الـملك وتنازع الأمراء» وإنّه «لا جنسية للمسلمين (الـمحمديين) إلا في دينهم.» وكلامهما يدل على جهل بنشأة الدولة الدينية الـمحمدية ونهايتها. فهل كان الـخلاف الـجنسي العظيم بين الشعوبيين والعروبيين مجرّد تنازع أمراء وتخالف طلاب ملك؟
أيظن أصحاب فكرة الـجنسية الدينية الـمحمدية أنه لو عم الدين الـمحمدي العالم لأمكن إنشاء دولة واحدة تضم الإنسانية كلها؟ إنهم يظنون هذا الظن وينادون بوجوب الدعوة إلى هذا الوهم، غير معتبرين بعلم ولا بتاريخ. فاختلاف أمزجة الشعوب وطبائعها وتباين مراميها وتعارض غاياتها ليس منشؤه «وجود الغواة من الأمراء ذوي الـمطامع في السلطة»، بل اختلاف الأقاليم والأجناس والبيئات وتباين الـمطالب العمومية، وتعارض الغايات الشعوبية وتنائي الأقطار. ولذلك لا يـمكن التفكير بضم أبناء دين واحد منتشر في الأصقاع في دولة واحدة إلا على أساس الـجهل والغرور، وقد يحتج بأن الـمحمديين ينقصهم ازدياد الـمعارف والفنون ليتّحدوا في دولة واحدة. والـحقيقة أنّ هذا ينقصهم ليعلموا بطلان هذه الفكرة. فالشعوب الـمسيحية التي بلغت ذروة التمدن وأقصى العلم لم يكن اتـحادها في دولة واحدة مع أنّ الـمسيحيين يعدّون أنفسهم أخوة في الدين، وتعاليم دينهم أوصتهم بالأخوّة. ذلك لأن أُخوّة الدين لا يـمكنها أن تـحل محل الأُخوّة القومية والـحاجات والـمطالب الشعوبية. ولذلك خابت الدولة الدينية العامة الـمطلقة في جميع الأديان على السواء. وكل دعوة لإعادة هذه الدولة هي تغرير وشعوذة. والالتجاء إلى مبدأ البدل لإقامة دولة دينية محدودة بدلاً من الدولة الدينية العامة هو شعوذة أخرى، لأن هذا البدل هو دليل على فساد الفكرة الأساسية، التي هي فكرة تأسيس الدولة على الدين، واستحالة تـحقيقها. فلو كانت الفكرة صحيحة للزم عدم انهيار الدولة الدينية بعد تأسيسها وعدم الاقتصار على بعض أهل الدين دون بعض.
وقد أوضحنا في الـحلقة السابقة فساد قضية الدعوة إلى إنشاء دولة دينية محدودة، بدلاً من إنشاء دولة دينية عامة. فأثبتنا عدم وجود وعدم إمكان تعيين أصول ثابتة لفكرة الدولة العربية التي يتخيل الداعون الأساسيون لها إمكان جمع جميع الأمـم الـمتكلمة العربية والدائنة بالـمحمدية تـحت لوائها. وبيّنا عدم استقرار هذه الدعوة على فكرة واضحة والـمجال الواسع للتأويل فيها. فبما أنّها ليست سوى بدل من عقيدة فاسدة لم تصلح لتكون عقيدة في ذاتها ولذلك لم يتمكن أصحابها من توليد حركة واحدة عامة في جميع الأقطار الداخلة ضمن نطاق عالم اللغة العربية والدين الـمحمدي.
العروبة التي تهمل الـمبـادىء الـجغرافيــة والإقليـميــة والسلاليــة والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية الاجتماعية، أي جميع العوامل التي توجد الواقع الاجتماعي وتتكفل بحفظه ولا تستند إلا إلى الدين وإلى اللغة بـمقدار هي عروبة زائفة لا نتيجة لها غير عرقلة سير الـمبادىء القومية الصحيحة في سورية والأقطار العربية عامة، وإعطاء الدول الأجنبية كل فرصة للتسلط على أمـم العالم العربي، والتغرير بها وإذلالها. هي عروبة زائفة لأنها لا ترمي إلى نهوض أمـم العالم العربي، بل إلى إيقاد نار الفتنة الدينية والـحرب الداخلية في كل أمة مؤلفة من أكثر من ملّة الـمحمديين.
إنّ أصحاب هذه العروبة هم أعداء العرب الـحقيقيون لأنهم أعداء نشوء القومية الصحيحة في كل أمة من أمـم العالم العربي، وأعداء نهوض كل من هذه الأمـم كرجل واحد لنيْل سيادتها وحقوقها، والارتقاء نحو مطالبها العليا الـمكونة من نسيج شعورها وآمالها ومطامحها وأشواقها الأصيلة في نفس كل أمة ومزاجها. وهم يتوهمون، لـجهلهم الفنون والعلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، أنّ الأكثرية الـملّية تغني عن الواقع الاجتماعي وعن الوحدة القومية الـمطلقة التامة.
إنّ هؤلاء «العروبيين» قد زيفوا القومية ووضعوها في السوق للتداول، عوضاً عن القومية الـحقيقية التي هي شعور كل أمة بشخصيتها ونفسيتها وحقوقها ومطالبها. وكما يلتبس على غير الـخبراء بالعملة والطباعة الـمالية أمر العملة الزائفة، كذلك يلتبس على غير الـخبراء بالعلوم الاجتماعية والسياسية وغير الـممارسين للقومية الصحيحة أمر القومية الزائفة. فهم قد جعلوا العروبة في مقام الرابطة الدينية، ثم طلوها أو رسموها بروسم القومية زيادة في التمويه والتضليل.
قلنا إنّ القومية هي الشعور بشخصية الأمة وحقوقها ومثلها العليا. وهي في الـحقيقة شخصية الـمجتمع ونفسيته فلا تطلق إلا على الـمجتمع الـمكوِّن شخصية فيزيائية ونفسية واحدة. ولـمّا لم يكن العالم العربي قطراً واحداً وبيئة واحدة وسلالة واحدة ومجتمعاً واحداً فلا يـمكن أن تكون له شخصية فيزيائية ونفسية واحدة، وبالتالي لا يـمكن أن تكون له قومية واحدة ومطالب واحدة ونظرة واحدة إلى الـحياة والفن.
العالم العربي مؤلف من أقطار متباعدة، وأقسام كبيرة منه تتخللها أو تؤلفها الصحارى القاحلة غير الصالـحة للعمران. وإذا كانت قد دخلت هذه الأقطار نسبة دموية عربية قليلة، فوضعها الـجغرافي ومعدل كثافة سكانها وإمكانياتها الاقتصادية لم تؤهل هذه الأقطار لإنشاء مجتمع واحد مترابط بدورة دموية واجتماعية - اقتصادية منتظمة. فلم تنشأ فيها نفسية متمدنة واحدة ولا نظرة إلى الـحياة واحدة. فهي ليست بيئة واحدة، وسكانها لا يؤلفون أمة واحدة. وتسمية شعوب العالم العربي أمة هي من باب إطلاق الأسماء على خلاف مدلولاتها ومعانيها.
العالم العربي بيئات متباينة ومجتمعات متباعدة. وحاجات كل مجتمع ومطالبه العليا ونظرته إلى الـحياة والكون تختلف عن حاجات الآخر ومطالب كل منها ونظرته إلى الـحياة والكون. وبناءً عليه يكون العالم العربي أمـماً لا أمة. وهذه الأمـم لها صلات لغوية ودينية بعضها ببعض توجب عليها سلوك خطة التقارب والتفاهم ما أمكن، والتعاون على نسبة الاشتراك في بعض الشؤون السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية التي يـمكن أن توجد في ما بينها. والطريقة الوحيدة لـحصول هذا التقارب وهذا التفاهم وهذا التعاون هو في أن تنهض كل أمة بنفسها وتفهم وضعها وحاجاتها ومثلها العليا ويتمرن أفرادها على مـمارسة الـحقوق الـمدنية والسياسية، فتصبح قادرة على إدراك ما يـمكنها أن تشترك فيه مع أمـم العالم العربي ويتفق مع حاجاتها ورغباتها، وما هو النصيب الذي تقدر على القيام به، وما لا يـمكنها الاشتراك فيه ولا يتفق مع حاجاتها ورغباتها. وهذه هي العروبة الصحيحة التي تـجمع بين الـمحافظة على شخصيات أمـم العالم العربي وحرياتها وحقوقها من جهة، والتعاون الطوعي أو الاختياري في جميع الـمصالح الـمتبادلة في ما بينها من جهة أخرى. هذه هي العروبة الصحيحة التي وضع قواعدها الـمتينة الـحزب السوري القومي، الذي، مع عمله لنهضة سورية، لم ينسَ مركز سورية في العالم العربي وما تقدر أن تفعله سورية للعالم العربي.
كل وحدة فعلية، لكي تثبت على زعازع الانقلابات السياسية، يجب أن تكون طبيعية لا اصطناعية. فالإمبراطورية العربية - الـمحمدية كانت وحدة سياسية دينية اصطناعية اجتماعياً، لأنها نشأت بالفتح وليس برغبة واختيار الذين انضووا تـحتها. فما كادت سورة الفتح تخمد حتى ذرّ قرن الـمنازعات الشعوبية، واستفاق كل شعب إلى حاجاته ورغباته الـخصــوصيـــة، فتفكــكت الوحــدة الاصطنــاعيــة وانهارت الإمبراطورية. ولا يـمكن قيامها من جديد إلا بالطريقة التي قامت بها من قبل، أي بالقوة والفتح، إذ لا ينتظر أن تكون وحدة اجتماعية - اقتصادية - نفسية - جغرافية نظراً للأسباب التي تقدم ذكرها. ومسألة الفتح تبقى من شؤون الفاتـح، فهي مسألة سياسية إنترناسيونية لا مسألة قومية. إنها مسألة تقرير مصير أمـم وأقطار لا مسألة نهضة أمة واحدة بإرادة واحدة.
النظرية السورية القومية في هذه الـمسألة هي: النهوض القومي بسورية أولاً، ثم سلك سياسة تعاونية لـخير العالم العربي. ونهضة الأمة السورية تـحرر القوة السورية من سلطة الأجانب وتـحولها إلى حركة فعّالة لإنهاض بقية الأمـم العربية ومساعدتها على الرقي.
وهذه العروبة السورية القومية هي العروبة الصحيحة الصريحة غير الـملتوية. هي العروبة العملية التي توجد أكبر مساعدة للعالم العربي وأفعل طريقة لنهوضه.
إنها ليست عروبة دينية ولا عروبة رأسمالية نفعية، ولا عروبة سياسية مرائية: إنها عروبة مثلية لـخير العالم العربي كله.
هاني بعل
للبحث استئناف
[1] سورة التوبة رقم 9 الآية 29.
[2] سورة البقرة رقم 2 الآية 91.
[3] سورة يونس رقم 10 الآية 99.
[4] سورة العنكبوت رقم 29 الآية 46.
[5] سورة البقرة رقم 2 الآية 256.
[6] سورة النساء رقم 4 الآية 123.
[7] سورة الحج رقم 22 الآية 69.
[8] سورة التوبة رقم 9 الآية 29.
[9] سورة التوبة رقم 9 الآية 5.
[10] سورة التوبة رقم 9 الآية 29.
[11] العروة الوثقى، ص 150.
[12] المصدر نفسه، ص 153.