«لست أفهم كيف يختصم الناس في هذه الـمسألة العربية وكيف يجعلونها موضوعاً للحوار والـجدل. فهي في نفسي أوضح وأجلى وأصرح من أن تـحتمل خصومة أو جدلاً. لغة واحدة تتكلمها أمـم مهما يكن بينها من أسباب الاختلاف والإئتلاف وحتى تباعد الأماكن وتباين أصول التاريخ فهي تتكلم هذه اللغة وتشترك فيها وتتخذها وسيلة إلى التفاهم في أمورها العادية وفي أمورها الثقافية...فإذا أضفت إلى ذلك أن هذه الشعوب لا تشترك في اللغة وحدها وإنـما تشترك معها في الدين أيضاً فكثرتها مسلمة وقلتها مؤمنة بالديانتين السماويتين الأخريين، كان ذلك داعياً إلى اشتداد ما يجب أن يكون بينها من التقارب والتواصل. فإذا أضفت إلى هذا كله أن هذه الشعوب تشترك في الـخضوع لطائفة من الـمؤثرات الاقتصادية مهما اختلفت فهي تدعو أيضاً إلى التعاون والتظاهر. ثم إذا أضفت إلى هذا أنها خاضعة لألوان من التحكم الأجنبي متحدة في الطموح إلى التخلص من هذا التحكم، كان أمر الوحدة العربية أوضح من أن يحتاج إلى جدال أو حوار.
وحدة في الثقافة، تقارب في الـميول والأهواء، تعاون على الـحياة الاقتصادية، وتعاون على الـحرية السياسية. وإذن ففيم يـمكن أن يكون الـخلاف وفيم يـمكن أن يكون الـجدال؟ في أمر واحد أراه بديهياً بالقياس إلى الـمصريين، وما أعرف أن مصرياً واحداً يستطيع أن يخالفني فيه مهما تكن ميوله ومذاهبه، وهو أمر الوحدة السياسية.
فالـمصريون لا يتصورون اشتراكهم في امبراطورية عربية مهما يكن مستقرها ومهما يكن شكلها ومهما تكن نظم الـحكم فيها، ولا يتصورون إلا أن يكونوا دولة مستقلة معاونة لغيرها من دول الشرق العربي بأساليب الـمعاونة السياسية الـمعقولة التي تلائم الـمنفعة والـحق والعدل. وما أرى أن عليهم من ذلك بأساً، وما أرى أن أحداً يستطيع أن يطالبهم بأكثر من ذلك نفعاً لأحد. وإنـما الكلام في ذلك لغز وإطالة لا عذر فيها، ومن الناس من ينكر على مصر حرصها على تراثها الفرعوني القديـم ويشوه هذا الـحرص ألواناً من التشويه. فليكن رأيي في ذلك واضحاً جلياً وهو فيما اعتقد رأي الـمصريين جميعاً لا يختلفون فيه. فمصر حريصة على تاريخها كله لا تنزل منه عن قليل أو كثير، وهي إذا حرصت على تاريخها الفرعوني لا تريد أن تعود إلى دين الفراعنة، فهذا سخف، ولا تريد أن تتكلم اللغة الـمصرية القديـمة مكان اللغة العربية، فهذا سخف أيضاً، ولا تريد أن نصطنع نظم الـحكم الفرعوني مكان نظمها الديـمقراطية الـحديثة، فهذا سخف أيضاً، وإنـما تريد أن تنظر إلى التاريخ بـما كان فيه من خير وشر على أنه جزء من حياتها ومقوم لوحدتها ومكون لوطنيتها، تعتبر بـما يثير فيه الغيرة وتنتفع بـما يـمكن أن يكون مصدراً للنفع وتـحيي منه ما كان صالـحاً ومستطيعاً للحياة».