كان للمقالات الـمتتابعة التي كتبها الزعيم الـجليل ونشرت تباعاً في »كل شيء» دوي عظيم في الشعب السوري قاطبة ووقع كبير في نفوس الفئة الـمتنورة من الشعب، لأنها ازاحت عن بصيرة الأمة غشاوات القضايا الوهمية والرجعية التي هدرت في سبيلها دماء أبنائها وبذرت قواها فرأت حقيقة تلك القضايا جلية الـجلاء الذي لا يقدر أن يظهره غير نظر الزعيم وبيانه. وكانت للرجعية الـجديدة ردود على مقالات الزعيم ضعيفة التفكير، مشوشة الـمنطق، قليلة العلم. وكان لهذه الردود أنصار في أوساط التفكير النايورجعي فلم يكن بد من الرد عليها وتفنيدها لكي لا تقع في أغاويها وفخاخها نفوس لا تقدر بـمعرفتها ومقدرتها وبلا مساعدة على رؤية الثغرات والانحرافات الـمترادفة في تلك الردود. وقد كتب أكثر من قومي اجتماعي واحداً ردوداً على ما صدر من ردود على كتابات موجه الوعي القومي في الأمة السورية وقائد حركة بعثها، ولكن كل الصحف التي سئلت نشرها وهي أكثر صحف بيروت، لم تقبل نشر الردود القومية الاجتماعية لأسباب وأعذار متنوعة. بناء على هذه النتيجة اجتمعت اللجنة الإذاعية الـمركزية التابعة لعمدة الإذاعة ودرست الـموقف وقررت تقديـم هذه الرسالة التفنيدية لكلام النايورجعيين العروبيين:
من بضعة أسابيع أخذت جريدة »كل شيء» الأسبوعية تنشر للزعيم مقالات متتابعة يتناول بها الـمسائل السياسية والقضايا العقائدية التي تواجهها الأمة السورية في هذا العصر. وقد كتب الزعيم إلى الآن أربعة مقالات تناول في الأول منها تفشي العمل في بلادنا وفي الطبقة الـمثقفة والعليا، خاصة، لـمصالح الدول الأجنبية التي أصبح لها في وطننا نفوذ ومصالح قوية وصارت، بفضل الطبقة الـمأجورة لها، قادرة على تسيير أهم القضايا السياسية والاقتصادية الـحيوية وفاقاً لـمآربها. وبيّن الزعيم في مقاله الأول نفسية الشعب الذي تعود الاستسلام للأمر الـمفعول والـحالة الراهنة إلى حد أنه يُعرض عن أية حركة لا تستند إلى نفوذ دولة أجنبية ولا تعمل بإرادة دولة أجنبية ويُقبل على أية شخصية أو تشكيلة سياسية تعمل لمصلحة دولة قوية. وتناول الزعيم في مقاليه الثاني والثالث، وعنواناهما : »العروبة أفلست» »...والانعزالية اللبنانية أفلست» وهم الرجعيين الـمتجددين الذين تنادي فئة منهم بأمة عربية واحدة، ووطن عربي واحد في غرب آسية وشمال أفريكة وتدعو إلى »القومية العربية»، وتنادي فئة أخرى بالعمل على »إنشاء أمة لبنانية، وتكوين وطن لبناني» في سورية الغربية وتدعو إلى »القومية اللبنانية»، فأظهر بعد كل من الفئتين عن الـحقيقة وإفلاس الدعوتين الرجعيتين الدينيتين في معالـجة قضايا يتوقف عليها مصير الأمة السورية والوطن السوري ومسؤوليتهما في الكوارث القومية.
ما إن صدر الـمقال الثاني بعنوان »العروبة أفلست» في عدد »كل شيء» الصادر في 20-21 كانون الثاني الـماضي حتى انبرى بعض كتبة الرجعيين الـجدد الذين أطلق الزعيم عليهم نعت »النايورجعيين» الفني للرد عليه، دفاعاً عن الرجعية العروبية. فنشرت جريدة »بيروت الـمساء» في عددها الصادر في 23-24 كانون الثاني الـماضي، مقالة افتتاحية بقلم السيد أنيس النصولي عنوانها »إلى أنطون سعاده...» وكلمة لصاحب الـجريدة السيد عبدالله مشنوق تـحت العنوان الدائم »مساء الـخير» ونشرت جريدة »بيروت» في عددها الصادر في 23 كانون الثاني مقالة افتتاحية، بقلم رئيس تـحريرها الـمسؤول السيد محيي الدين النصولي عنوانها: »إلى أنطون سعاده» فلما صدر مقال الزعيم الثالث في عدد »كل شيء» في 27-28 كانون الثاني صدرت مقالة ثانية للسيد أنيس النصولي في عدد »بيروت المساء» الصادر في 31 كانون الثاني وكلمة للدكتور نبيه فارس تـحت العنوان الدائم »مفكرة نبيه فارس» وفيما سوى ذلك صدرت في »كل شيء» نفسها بعض الردود، أهمها رد رئيس التحرير الأستاذ محمد البعلبكي الذي نشر في العدد عينه الذي نشر فيه مقال الزعيم »العروبة أفلست» فلنتناول هذه الردود بالدرس مبتدئين بـمقالتي السيدين أنيس ومحيي الدين النصولي الـمدافعتين عن النايورجعية الـمتعربة:
تناول الزعيم في مقاله »العروبة أفلست» تفكير النايورجعيين الـمتعربين السخيف، الذي يصور العالم العربي، الـموزع أقطاراً وشعوباً في بيئات طبيعية مختلفة منتشرة على شواطئ غرب آسية شمال أفريكة، كأنه »وطن عربي» مـمتد شريطة طويلة ملتفة ومتمعجة على شواطئ غرب آسية وشمال أفريكة. فقرأ السيد أنيس النصولي متجمعة بدلاً من متمعجة! وعرض الزعيم للتضليل العروبي الذي يقوم به »اقطاعيون ومتزعمون لـحزبيات دينية لا يفتأون يثيرون نعرات تلك الـحزبيات ويستغلون عماوة الغوغاء الـمستعد دائماً للإندفاع في تيار قوة الاستمرار الرجعي» فقرأ السيدان أنيس ومحيي الدين النصولي الغوغاء الـمستعدة بدلاً من الغوغاء الـمستعد مؤنثين الـمذكر تـحاشياً من الوقوع فريسة »التحذلق السوري» الذي يتطير منه السيد أنيس النصولي في رده الأول.
ابتدأ السيد أنيس النصولي رده الأول بإبداء سروره بأن أنطون سعاده ينشر مبادئه »التي لا يدين هو بها» في جمهورية عربية رئيسها أديب عربي كبير ورجل حكومتها الأول زعيم من زعماء العرب الـمعروفين» ثم يقطع سروره بهذا التزلف الـمتحذلق ليقول »ومع ذلك فإن الـحرية التي نعيش كلنا بوارف ظلها في هذا البلد العربي الكريـم قد حمته وحافظت عليه ولم تقل له كلمة سوء رغم ما تناله العروبة من قلمه الـمتعسف الظالم.
ينسى السيد النصولي حقائق هامة يجب أن نذكره بها. أنه ينسى أن ثلاثة أرباع اللبنانيين يئنون من فرط »الـحرية التي نعيش كلنا بوارف ظلها» وإن الـحرية التي يتمتع بها أنطون سعاده بعد إقامته سبعة أشهر في معسكره الـمسلح الذي ذكرت »بيروت المساء» طرفاً من أخباره إنـما يعود الفضل فيها إلى العراك العظيم الذي قامت به الـحركة القومية الاجتماعية والـحرب التي حاربتها في سبيل الـحرية – حريتها هي وحرية الشعب وحرية عضو الدولة- من يوم انبثق فجر نهضتها إلى يوم مقالة السيد النصولي العربية في هذا الوطن السوري وستظل تـحاربها إلى يوم النصر الأخير.
وينتقل السيد أنيس النصولي من سروره الـمتقدم إلى أسفه لأن أنطون سعاده الذي يسعى لنشر القومية السورية »تراجع حينما استبدل إسم حزبه بإسم الـحزب القومي الاجتماعي بدلاً من الحزب القومي السوري فإن الذي يبشر بالقومية السورية لا يهاب أن يظل متعلقاً بها وأن يفنى في سبيلها إلخ» ثم يقول السيد النصولي »والغريب أن السيد سعاده الذي يدين بالقومية السورية أخذ يكتب فعلاً باللغة السورية فيقول »أفريكة» بدلاً من »أفريقية» وهذا نوع من التحذلق السوري الـجديد».
إن السيد أنيس النصولي يتخبط في محاولته مهاجمة انطون سعاده تخبطاً ظاهراً. فهو يزعم أن انطون سعاده تراجع عن عقيدته السورية القومية الاجتماعية لأنه أضاف صفة حزبه الاجتماعية إلى إسم الـحزب ولأنه لا يكتب إسم حزبه دائماً كاملاً. ثم هو لا يراه قد تراجع مطلقاً لأنه لا يزال يدعو إلى القومية السورية ويدين بها فانطون سعاده، في تخبط السيد النصولي، قد تراجع عن عقيدته التي يدعو إليها. وانطون سعاده، في تخبط السيد النصولي، لا يزال يدين بالقومية السورية ويدعو إليها حتى أنه »أخذ يكتب فعلاً باللغة السورية. فأنطون سعاده في عرف السيد النصولي، تراجع لأنه لم يتراجع ولم يتراجع لأنه تراجع! وهذا من مدهشات بيان النايورجعية العروبية غير الـمتحذلقة. أما البيان الـمتحذلق تـحذلقاً عربياً أو عروبياً فهو حين يصيح السيد النصولي قائلاً: أين هي القومية السورية ؟ أين الروابط التي تربط الـجماهير بها؟ هل يـمكنك أن تدلنا على اللغة السورية التي يتخاطب الناس بها؟ ثم أين رابطة الدم التي تـجمع السوريين بعضهم إلى بعض لولا رابطة الدماء التي ارتضت العروبة حسبًا ونسبًا ومدنية؟ ثم قل لي أيها السيد ألا تعتقد ان حدودنا الـجغرافية تـجمعنا كلنا من أقصى شطآن البصرة إلى أقصى شطآن الـجزائر، وبحسب لغتك، في هذا الوطن الـممتد شريطة ملتفة ومجتمعة (بدلاً من متمعجة) على شواطئ غرب آسية، وشمال أفريكة؟ ثم ألا ترى أن الـمصلحة الـمشتركة تـجمعنا وأن هذا الشرق العربي يؤلف كتلة لها قيمتها في الأمور الدولية والقضايا الانترنسيونية بحسب زعمك؟ ثم ألا تـجد أنك إذا نزلت في الاسكندرية أو دمياط أو بيروت أو بشري أو الأرز أو بغداد أو الكوفة أو الـموصل أو يثرب أو جدة أو القدس أو دمشق أو حلب أو صفاقس أو تونس أنك تنزل عند أهلك وعشيرتك وأبناء عمك وأبناء خالك؟ وأقسم لك أيها السيد أنك لم ترحل إلى هؤلاء الأخوان في البلدان العربية لتتعرف إليهم وتـحس بحسهم وتشعر بشعورهم الواقعي ونهضتهم الـمتوثبة نحو الـحياة والنور والعلم والاختراع والعمل والرجولة ولكنك تعيش في وهم السورية الهزيلة التي لن تعيش ولو كتب لها القدر وجود زعيم يفكر مثل تفكيرك ويحقد على العروبة مثل حقدك».
إن هذا البيان التعريبي لـمما يدهش العقل ويصعق المنطق. فالسيد أنيس النصولي يعصب عينيه ويعمى عن الواقع ثم يصيح : »أين الواقع؟ أين الواقع؟» فكأن نحو سبع مئة ألف كيلومتر مربع من الأرض السورية ونحو عشرة ملايين سوري- وهو كل ما تبقى من ملايين السوريين بعد الفتوحات- ملازمين لهذه الأرض على ضفاف دجلة والفرات والعاصي والأردن وما بينها من سهول وجبال وأودية، وكأن هذه الوحدة الـحياتية الـحيوية الـمستقلة في تركيبها الدموي وتاريخها وخططها النفسية والثقافية ليست شيئاً موجوداً! وهي ليست موجودة لـمن عصب عينيه عن الـحقيقة أو لـمن ضربته الآلهة بالعمى، أو بـمرض بعد النظر حتى لا يرى ما هو قريب ويرى ما هو بعيد فيصير القريب، في نظره، بعيداً والبعيد قريباً!
إن السيد أنيس النصولي لا يرى الأرض ولا وحدة الـحياة الاجتماعية رابطة قومية. إن القومية عنده سبب لا نتيجة، فهو لا يوافق على القاعدة التي وضعها الزعيم وذكرها في مقاله الأخير الصادر في عدد 4 شباط من »كل شيء» وهي: »القومية هي وعي الأمة وجودها وحقيقتها». القومية عند السيد النصولي هي »كائن» له »روابط» تربط الـجماهير به، كما تربط الـمراكب في الـميناء بحبال تشد إلى الأوتاد. وقد ذكر السيد النصولي هذه »الروابط» التي »تربط الجماهير بالقومية» فقال أن أولها اللغة وسأل: »هل يـمكنك أن تدلنا على اللغة السورية التي يتخاطب الناس بها؟» فاللغة إذن شرط أساسي »لاتصال الناس بقومية»- قومية اللغة، إذا شئت!- فاللغة العربية هي رابطة القومية العربية واللغة الانقليزية هي رابطة القومية الانقليزية واللغة الاسبانية هي رابطة القومية الاسبانية، وحين يتكلم السوريون اللغة العربية التي فرضت عليهم بدل لغتهم الأصلية بعامل الفتح يصيرون عرباً قومياً وحين يتكلم الأميركان والكنديون والاستراليون اللغة الانقليزية يكونون انقليز قومياً وحين يتكلم الارجنتينيون والشيليون والمكسيكيون وغيرهم اللغة الاسبانية تبطل القومية الارجنتينية والشيلية والمكسيكية وغيرها ويصير متكلمو الاسبانية اسبان قومياً لأنهم يرتبطون بالقومية الاسبانية برابطة اللغة! ولـما كانت اللغة »رابطة الـجماهير بالقومية» فإن إنتشار اللغة العربية في العالم كله يصيّر العالم كله عربي القومية!
النفسية والفكر لا قيمة لهما توازي اللغة في التفكير النايورجعي »العربي». فإذا فكر مفكر سوري وتأمل في الـحياة والكون وكتب تأملاته باللغة الصينية صار تفكيره صينياً قومياً لأنه استخدم اللغة الصينية أداة عرضية للتعبير عن فكره الـجوهري وموحيات نفسيته. فالقيمة هي للغة وهي الرباط النايورجعي الأول الذي يربط الـجماهير »بكائن» القومية. فما أبدع هذا التفكير الذي يسميه أنطون سعاده تفكيراً تقدمياً رجعياً، أي أنه يتقدم رجوعاً إلى الوراء!
الرابطة الثانية من الروابط التي تربط الـجماهير بالقومية هي رابطة الدم. وفي رأي السيد أنيس النصولي أن السوريين لا رابطة دموية لهم إلا ما كان دماً عربياً. فقبل الفتح العربي لسورية لم تكن للسوريين رابطة دموية فهم لم يكونوا يتزاوجون ويولدون ويلدون. فالعناصر السورية الأصلية السامية اللغات والآرية اللغات التي امتزجت بعضها ببعض وانصهرت بعامل البيئة والتمدن والثقافة السورية – وصارت شعباً واحداً- أمة واحدة، لم يكن لها بادئ بدء رابطة دم، وهي إلى الآن لا رابطة دموية بينها إلا ما كان من »رابطة الدماء التي ارتضت العروبة حسباً ونسباً ومدنية». فإذا تزوج سوري آرامي الأصل من دمشق سورية حثية الأصل من لبنان أو حماه أو كنعانية الأصل من فلسطين أو يونانية الأصل من اللاذقية أو انطاكية، فهذان لا رابطة دم بينهما وبين أولادهما لأن الدم هو »الدم الذي ارتضى العروبة حسباً ونسباً ومدنية» فقط. وتأمل أيها القارئ العزيز هذا التعبير العلمي الاتنلوجي البيولوجي لرابطة الدم: »الذي ارتضى العروبة»! فإذا لم يكن الدم عربياً »وارتضى العروبة» لم يـمكن أن يكون رابطة! فكل دم غير الدم العربي أو الدم الذي »ارتضى العروبة حسباً ونسباً ومدنية» لا يجمع السوريين بعضهم إلى بعض!!
الرابطة الثالثة التي »تربط الـجماهير بالقومية» هي رابطة »الـحدود الـجغرافية. فمن أقصى شطآن البصرة إلى أقصى شطآن الـجزائر توجد »حدود جغرافية تـجمعنا كلنا». والسيد أنيس النصولي يجعل حدود اللغة والدين »حدوداً جغرافية» ولولا ذلك لقال: الكرة الأرضية حدود جغرافية تـجمع كل الناس! فالـجغرافية والطبقرافية اللتان تعنيان علم هيأة الأرض وتكوين بيئاتها، هما في علمه »علم اتساع اللغات وانتشار الأديان! وإلا فماذا يـمنع جغرافياً، بعد اجتياز الصحارى والبحار من شطآن البصرة إلى شطآن الـجزائر متابعة الشطآن على الأطلسي هبوطاً نحو الغرب والـجنوب إلى أن نبلغ أقصى شطآن السنغال وجنوب وشرق »أفريقية العربية التي بناها أفريقس العربي»، إلى أقصى شطآن اليمن والربع الـخالي! ولـماذا يجب أن تقف »الـحدود الـجغرافية» عند »شطآن البصرة» ما دام الـخليج متقارباً فنقفز فوقه كما قفزنا »جغرافياً» فوق البحر الأحمر، ونستمر في شطآن آسية إلى الهند التي تريدها بريطانية »باكستانية» وإلى الهند الهندية أو الهندستانية؟ ولـماذا نقف عند خلجان وشطآن والشطآن تـمتد لا تقف؟ فآسية وأوروبة وأفريكة كلها شطآن متماسكة و»متحدة». الـجواب على كل هذه الأسئلة الساذجة هو في نظرة النايورجعية الـمتعربة »الـجغرافية»، فالـحدود »الـجغرافية» هي حدود اللغة والدين!
يعود السيد أنيس النصولي، بعد أن يشرح لنا رابطة »الـحدود الـجغرافية» الشرح البديع الـمتقدم وصفه، إلى شرح »رابطة الدم» شرحاً »جغرافياً» حسب مفهومه الـجغرافي فيقول: »ألا تـجد أنك إذا نزلت في الاسكندرية أو دمياط أو بيروت أو بشري أو الأرز أو بغداد أو الكوفة أو الـموصل أو يثرب أو جدة أو القدس أو دمشق أو حلب أو صفاقس أو تونس أنك تنزل عند أهلك وعشيرتك وأبناء عمك وأبناء خالك؟» ففي هذا الشرح البديع لرباط الدم والـحدود الـجغرافية الـمبرم من الآيات البينات ما تقف حياله عقولنا الـمشدوهة حائرة! إن عقولنا الضعيفة تقدر أن تتصور احتمال النزول كل آن في بيروت أو القدس أو العقبة أو عمان أو دمشق أو اللاذقية أو حلب أو الـموصل أو بغداد أو البصرة وتـماسك هذه البلاد في عمرانها واجتماعها وروابطها الدموية التي ترتضي والتي لا ترتضي العروبة حسباً ونسباً ومدنية هو أمر واقع وألوف عديدة من السوريين يتنقلون كل يوم بين هذه الـمدن بأسباب تفاعل الـحياة القومية الدائمة، الذي سيزيد زيادة عظيمة حالـما ترتفع الـحدود السياسية التي أقامتها الارادات الأجنبية في هذا الوطن. أما أن نتصور هذا »النزول» التخيلي في صفاقس ودمياط وتونس والقيروان وفاس، وأن نتوهم أن »النزول» اللغوي أو الديني يقوم مقام النزول الاجتماعي – النزول القومي- النزول الواقعي، العملي، فأمر يجب أن نعترف بضعف مخيلتنا وعجز أدمغتنا التي تفكر في »وهم السورية» عن بلوغ مداه! إننا لا نرى أي عدد من الألوف العديدة من الذين يتجولون ويتنقلون فيما بين الـمدن السورية يجوب تلك الآفاق العروبية الواسعة و»ينزل» عند »أهله وعشيرته وأبناء عمه وأبناء خاله». وإن إمكانية الـمواصلات و»تقصير الـمسافات عن طريق السيارة والباخرة والقطارات الـحديدية والطائرات وفي التلفون والبرق والبريد الخ....» التي يشير إليها السيد محيي الدين النصولي في مقاله الـمشار إليه فهي غير موجودة لأبناء »الـحدود الـجغرافية التي تـجمعنا كلنا من أقصى شطآن البصرة إلى أقصى شطآن الـجزائر»! إن البواخر تـمر بـمضيق جبل طارق حذاء »شطآن الـجزائر» ولكنها لا تنزل في هذه الشطآن أحداً من السوريين الـمسافرين إلى أقصى شطآن غرب أفريكة وأقصى شطآن الأميركتين! أما الطيارات فإنها تتطلب تعويضاً مالياً عن تقصير الـمسافة ليس في مقدور أبناء الشعب في سورية وفي الـمغرب فلا يستطيع أحد منهم القيام برحلة إلى صفاقس أو فاس أو من صفاقس وفاس »تا يشق على أولاد عمه أو أولاد خاله» ولو مرة واحدة في السنة! إن دماء اللغة والدين لا تـجعل من السوريين والـمصريين والعرب والـمغاربة »أهلاً وعشيرة» أو مجتمعاً. إن قربى الشعور وقربى الدم الضعيفة والبعيدة العهد لا تـجعل السوريين والعرب والـمصريين الـمغاربة شعباً واحداً – مجتمعاً واحداً- أمة واحدة. وقد يكون السيدان أنيس ومحيي الدين النصولي سمعا أن النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر قد يكونان، مع ذلك، نسيا مفهوم هذا القول. ولذلك يريد السيد أنيس النصولي من أنطون سعاده أن ينزل عند أبناء عمه وأبناء خاله عند ماء لبني عذرة وعند ماء لبني أسد وعند ماء لبني قيس وعند ماء لبني وائل وفي يثرب وجدة وفي دمياط وصفاقس وفي أقصى شطآن الـجزائر وأن يقوم برحلة تنزه وترفيه في الربع الـخالي! وإذا كان البرق والبريد لا يحملان لأنطون سعاده الدعوات الـملحة من أبناء عمه وأبناء خاله في أنحاء هذا »الوطن العربي» الـمذكورة وتذاكر السفر في الطائرات والقطارات الـحديدية وقطارات الـجمال وقطارات الألفاظ الـمترادفة وقطارات القوافي الـمتواردة وقطارات الـحماسة العروبية وقطارات الأفكار النايورجعية فما ذلك إلا لأنه »يعيش في وهم السورية الهزيلة». أما السيدان النصولي اللذان يعيشان في حقيقة العروبة فلهما كل شهر تقريباً رحلة في أحد تلك القطارات إلى كل بقة من بقاع »الوطن العربي العزيز»! وهذا شأن كل نايورجعي عروبي حتى أنك ترى دنيا العروبة الاتكالية العاجزة – دنيا »القومية العربية»- تزدحم بالقطارات الذاهبة والآتية، خصوصاً قطارات الألفاظ الـمترادفة والقوافي الـمتواردة والـحماسة العروبية والأفكار النايورجعية! وقريباً جداً تنشئ لنا العقلية التعريبية أسطولاً ضخماً من مدرعات البحور تـمخر بنا عباب البحار وعصابات من طائرات الأحلام الـمجنحة تجعل الفضاء يضيق بنا على رحبه!
والرابطة الرابعة والأخيرة التي تشد الـجماهير إلى وتد القومية هي رابطة »الـمصلحة الـمشتركة» ولم يفدنا السيد أنيس النصولي ما هي هذه الـمصلحة الـمشتركة التي تـجمعنا وتشدنا إلى »القومية العربية» ولم يعين لنا نوع هذه الـمصلحة الـمشتركة هل هو خارجي انترنسيوني أم داخلي قومي. ولكن ما دام هو وشقيقه السيد محيي الدين النصولي يعترفان بإن العالم العربي يتألف من شعوب لا من شعب واحد وما دامت الـحقيقة تقضي بأن نترك جانباً سفسطة أن الأمة ليست شعباً فلا بد من حسبان الـمصلحة الـمشتركة التي يشير إليها السيد أنيس النصولي مصلحة خارجية بين أمـم لا مصلحة داخلية لشعب واحد وأمة واحدة. أما قوله »ألا ترى أن هذا الشرق العربي يؤلف كتلة لها قيمتها في الأمور الدولية والقضايا الأنترنسيونية بحسب زعمك؟» فلا ندري ما هو الـمحصل »القومي العربي» لهذه الكتلة. كل تكتل أنترنسيوني فعال يكون له وزن في القضايا الأنترنسيونية، من غير أن يعني أنه »قومي» بل من حيث هو تكتل أمـم (أنترنسيوني).
تلك هي كل الروابط التي »تربط الـجماهير بالقومية العربية» وذاك هو شأنها. وقد انتقل منها السيد أنيس النصولي إلى تعيير الزعيم بأنه »لا يفرق بين معاني الشعب والأمة وأنه يخلط بينهما، فهو حيناً يقول »الشعب السوري» وحيناً »الأمة السورية» ثم يضع قاعدة العلم النايورجعي الباهرة القائلة »والـحق أن الشعب فرع من أصل والأمة أصل ولها فروع». وقد تناول الزعيم هذه القاعدة العلمية النايورجعية في مقاله الرابع الـمنشور في عدد »كل شيء» الصادر في 4 شباط الـحاضر وعنوانه »انتصار القومية السورية يحقق الـجبهة العربية القوية» فقال أنه لم يعد في إمكانه، بعد أن عانى ما عانى في سبيل بناء الـحقيقة القومية، أن يتقدم إلى الوراء كل الشوط الدراسي الذي تقتضيه معرفة سفسطة النهضة النايورجعية وأن يتعلم »أن الأمة ليست الشعب وأن الشعب جزء من الأمة وأن هذه أصل وذاك فرع» أما نحن فنقول للسيدين النصولي أن اعترافهما بوجود شعوب في العالم العربي لا شعب واحد، يوازي الاعتراف بوجود أمـم في العالم العربي لا أمة واحدة. ذلك لأن كل أمة شعب، كما قال الزعيم، وما قول الزعيم إلا قول عالم اجتماعي راسخ. فإذا كان العالم العربي شعوباً لا شعباً واحداً فهو ليس أمة واحدة لأن الأمة هي الشعب الواحد الـمستفيق لنفسه والـمكتسب شخصية سياسية. وقد اكتسب الشعب السوري وعيه القومي فهو أمة واكتسب الشعب الـمصري وعيه القومي فهو أمة أيضاً أما الشعوب التي لم تكتسب وعيها القومي أو التي لا قدرة لها على اكتساب الوعي القومي فهي ليست أمـماً ولا أجزاء من أمة، بل جماهير لا شخصية لها!
يستطرد السيد أنيس النصولي في تراكيبه النثرية فيقول أن العروبة كانت الأساس الأول للحركة الاستقلالية في »مصر ولبنان وسورية والعراق والـحجاز في القرنين التاسع عشر والعشرين» وقوله يعني أنه لولا العروبة لـما قام في سورية من يطلب التحرر من نير الترك. والـحقيقة هي أن نبضة الـحياة السورية وتـحركها نحو الـحرية هما اللذان اتخذا فكرة تأليب الأمـم العربية على الترك أو فكرة »العروبة» وسيلة أولية قبل يقظتهم القومية وليست »العروبة» هي التي اتخذت من السوريين وسيلة. إن الشعب السوري حر بذاته وله في التاريخ أمجاد خالدة وهو يتحرك بفطرته الـحرة لا بدافع من عروبة أو غيرها.
ويسأل السيد النصولي الزعيم قائلاً: ترى لو كان الناس في سورية قوميين اجتماعيين أما كنا نخسر الاسكندرونة فيما مضى ثم نخسر فلسطين اليوم؟ والـجواب واحد: ما كنا نخسر لا الاسكندرونة ولا فلسطين!
إن القوميين الاجتماعيين هم نهضة إيـمان جديد ووحدة عقيدة ووحدة نظام ووحدة عمل وحركة وصراع ولهم عقلية أخلاقية ومناقبية جعلتهم يتغلبون على جميع أنواع الـمقاومات والاضطهادات والاعتقالات هم حركة لم تر حركة أخرى في العالم كله مثلما رأت من صعوبات وتغلبت عليها!
وإن للقيادة القومية الاجتماعية علمها وفهمها وتخطيطها ومقدرتها التنظيمية، ولو كانت قوى الأمة السورية محتشدة في الـحركة القومية الاجتماعية لـما كنا خسرنا الاسكندرونة ولـما خسرنا فلسطين!
إننا نعترف مع السيد النصولي بأن لكل قضية عوامل تدفع نحو النجاح أو نحو الإخفاق. وأن هذه النقطة التي يثيرها السيد أنيس النصولي هي النقطة الوحيدة في رده التي تستحق البحث الـجدي. ولولا ما نعرفه من ضعف الـمعرفة العلمية الاجتماعية والسياسية ومن تفشي مصطلحات نايورجعية غير صحيحة في أوساط واسعة من الشعب، لـما احتجنا إلى معالـجة كلامه في »الروابط التي تربط الـجماهير بالقومية» بالإسهاب الذي عالـجناه به وبالسخرية والتهكم اللذين تستحقهما روح الـمكابرة والتهكم والسيطرة في معظم مقالته.
إن الزعيم أعلن من زمان رأيه في فساد القضية »العروبية» وفساد نظرتها إلى الواقع التي هي نظرة غفلة وذهول لا نظرة وعي ووجدان والتي لم تقدر أن تنشيء إيـماناً جديداً محيياً وعقيدة صحيحة فعالة تزود النفوس بقوة اليقين وعزيـمة الـحقيقة وفاعلية الإيـمان والتي أبقت القديـم على قدمه الفاسد الـمهتريء وأوجدت للرجعية سفسطة نايورجعية تثبت الرجعية الفاسدة غير الصالـحة لـحياة الأمة وقضايا النهوض القومي والصراع التقدمي، كما أعلن من زمان رأيه في فساد القضية »التلبننية» وفساد نظرتها إلى الواقع وعجزها عن إنشاء إيـمان جديد محي وفاعلية وقوة انطلاق. وأعلن الزعيم من زمان أن سياسة الـخصوصيات والاحتكارات السياسية التي أخذت تغرر بالشعب بتعابير النايورجعية الـمتعربة والـمتلبننة تقود الأمة السورية إلى الـخراب. وأعلن الزعيم من زمان فساد القضية والـخطط التي تعالج بها الـمسألة الفلسطينية. وهذا الرأي أظهره الزعيم صراحة في مباحثة دبلماتية لسماحة مفتي فلسطين، الـحاج أمين الحسيني، رئيس اللجنة العربية العليا والـمجلس الإسلامي الأعلى في الزيارة التي قام بها الزعيم للمفتي في دار الدكتور سامح الفاخوري سنة 1937 حين رفع الـحظر عن سماحته، وكانت مباحثة الزعيم مع سماحته في تلك الزيارة التي شهدها جمهور من القوميين الاجتماعيين وأعضاء اللجنة العربية العليا. وأعلنه أيضاً للقائد فوزي القاوقجي في اجتماعه به في مصر بحضور الرفيقين أسد الأشقر ومعين بشناق والسيد عبدالهادي الـمعصراني وسكرتير القاوقجي. وكان ختام كلام الزعيم للقاوقجي شديداً الشدة التي تقتضيها خطورة الـموقف حتى أنه قال له في ختام الـحديث: »يظهر أنكم لا تزالون متشبثين بالأسس والأساليب والأهداف عينها التي أوصلت قضية الأمة السورية والـمسألة الفلسطينية إلى الـموقف الـحاضر الـخطر، وأنكم لا تزالون تعدون الشعب السوري بـمثابة »حمير أكراد تتعلمون البيطرة بها»! وقد وقع هذا الكلام الشديد الـمدفوع بألم نفس الزعيم للحالة الـمؤسفة التي وصلت إليها الأمة السورية. والـمسألة الفلسطينية وللفوضى والأفكار الرجعية والنايورجعية التي تـمعن في شل روحها وملاشاة عزيـمتها وصرفها عن هدفها الصحيح وصرفها عن قوميتها الـحقيقية وقعاً عظيماً في نفس القائد القاوقجي. وكانت نتيجة تلك الـمقابلة أن القاوقجي قال للزعيم أنه يكون مستعداً، بعد الوصول »إلى الوطن والفراغ من الاستقبالات، للقدوم إلى أي موضع يكون فيه الزعيم وصرف عدة »أيام» إذا لزم الأمر، في بحث القضية القومية ومسألة فلسطين وكيفية إنقاذها. واتفق أن الزعيم والقاوقجي ركبا طيارة واحدة من مصر إلى بيروت وقبل خروج الزعيم من الطيارة تـجدد الوعد بينه وبين القاوقجي بالاجتماع القريب. ولكن حدث في اليوم التالي لاستقبال الزعيم وإلقائه خطابه الـمشهور أن الأمن العام، عملاً بـمبدأ الـحرية الذي يعيش في وارف ظله السيدان النصولي وتنفيذاً لأوامر الـحكومة، طلب الزعيم ليستجوبه في صدد خطابه الصريح الواضح والذي لا حاجة لأي استجواب في صدده فرفض الزعيم أن يُستجوب وقامت صحافة النايورجعيين الـمتلبننين تؤيد الـحكومة اللبنانية في الضغط على حرية الفكر وهب الـحزب القومي الاجتماعي كله هبة رجل واحد للذود عن مبدأ الـحرية وعن حقوق أعضاء الدولة اللبنانية الـمدنية والسياسية فكانت تلك الـمعركة الطويلة الشهيرة بين الـحزب القومي الاجتماعي والـحكومة اللبنانية. وكان قد حدث في اليوم السابق لتدخل الأمن العام ضد الزعيم حادث الاصطدام الـمشهور في طرابلس بين الـحزبيتين الـمحليتين فيها الذي أسفر عن قتلى وجرحى واضطرار القاوقجي إلى مغادرة الـمدينة فوراً فلم يعد في الإمكان تـحقيق الاجتماع الذي كان مقرراً. مع ذلك فقد قام الزعيم بـمحاولة حين كان متحصناً في بشامون لاستقدام القاوقجي إلى مقره، وكان القاوقجي حينئذ في....فأرسل إليه الرفيق كامل حسان، ناموس منفذية الساحل الـجنوبي، وأحد الرفقاء فاتصلا به فاعتذر عن القدوم في الـحال وسأل تعيين موعد يكون بعد عدة أيام وصادف انتقال الزعيم من تلك الـمنطقة، وبعد أن انتهت معركة الـمطاولة مع الـحكومة لم يقم القاوقجي بأية محاولة لإعادة الاتصال بالزعيم وعادت مسألة فلسطين تدور ضمن نطاق الاحتكارات الرجعية والنايورجعية!
وكان أول ما وجه إليه الزعيم عنايته، بعد سحب الـحكومة مذكرة التوقيف،قضية جنوب سورية الغربية، فلسطين، فدعا الـحزب إلى حشد عام في بيروت ينفذ في 2 تشرين الثاني سنة 1947 بـمناسبة وعد بلفور ويعلن فيه الزعيم موقف الـحزب من الـمناورات الانترنسيونية ضد حقوق الأمة السورية في وطنها ولكن الـحكومة »اللبنانية العربية» منعت الـحشد القومي الاجتماعي! فاستعاض الزعيم عن الـحشد برسالة وجهها إلى القوميين الاجتماعيين والأمة السورية حلل فيها حالة الأمة والقضية القومية وفساد القضايا والأهداف والـخطط اللاقومية التي زادت الفوضى في الأمة السورية وأوضح الأسس الصحيحة التي يـمكن أن تقوم عليها نهضة حقيقية تقدمية تقدر أن تـحتفظ بفلسطين. وفي هذه الرسالة تنبأ الزعيم بوقوع كارثة فلسطين لأن الرجعيات والرجعيات الـجديدة لم تشأ أن تأخذ توصيات الزعيم بعين الاعتبار، بل تشبثت بتحكمها ومكابرتها واستخفت بقيمة الـحركة القومية الاجتماعية وقوة فاعليتها وصممت على السير على طريق عقلية »العروبة» اللاقومية واللاتعميرية إلى الكارثة التي تنبأ بها الزعيم!
إن العوامل التي تدفع أية قضية نحو النجاح أو نحو الاخفاق هي عوامل داخلية وعوامل خارجية وقد عدد السيد أنيس النصولي العوامل الـخارجية فقال أنها »قوة الدولار اليهودي والسلاح الروسي والدبلوماسية الاميركانية البريطانية في الشرق! وفي رأي السيد النصولي ورأي جميع النايورجعيين العروبيين أنه لم يكن للسوريين تـجاه هذه العوامل الـخارجية ألا أن يتمسكوا بالعقلية »العروبية» وينادوا »لا حول ولا قوة إلا بالله»!
أما العوامل الداخلية في خسارة فلسطين فهو يعزوها إلى »رجال الكلام الذين لم نر لهم تضحية واحدة في حرب فلسطين ولم يسفكوا نقطة من دمائهم في سبيلها» ثم يتابع فيقول »أن جيش اليرموك أو جيش الانقاذ بذل بعض البذل وضحى شباباً كالزهر بينما كان بعضهم ينعمون بالدفء في سرائرهم ويجعجعون بالـمباديء» ولسنا ندري هل كان السيدان أنيس ومحيي الدين النصولي بين الذين قاموا بالتضحية أو بين الذين كانوا ينعمون بالدفء العروبي في سرائرهم ويجعجعون بـمباديء العروبة و»بالـخمسين مليون عربي»!، كما فعل أكثر الـمجعجعين بالعروبة الوهمية الاتكالية ، العاجزة!
إذا كان السيد أنيس النصولي يقصد القدح في الـحركة السورية القومية الاجتماعية فهو يدل على جهله هذه الـحركة وأفعالها جهلاً تاماً.
قلنا أن سهر الزعيم على القضية الفلسطينية في طورها الأخير ظهر حالاً بعد انتهاء الـمشادة الـمسلحة مع الـحكومة حول الـمذكرة الـمشهورة فأراد أن يهيء لتدخل الـحزب القومي الاجتماعي في الأمر تدخلاً فعالاً فوقفت الـحكومة اللبنانية في وجه الـحشد الذي كان مقرراً ليوم بلفور قبل اجتماع منظمة الأمـم الـمتحدة للنظر في مصير الـمسألة الفلسطينية بنحو شهر، ووقفت العقلية العروبية تـجاه هذا الـحادث جامدة كأن ما يجري حولها يجري في الصين بين روسية وأميركانية!
وقد رأينا أن الزعيم أعلن عدم موافقته على كيفية معالـجة العروبة الوهمية، الاتكالية، العاجزة، للمسألة الفلسطينية وتنبأ بوقوع الكارثة قبل وقوعها بزمان. وبـما أنه مسؤول عن القضية القومية الاجتماعية بكاملها وعن العمل لانقاذ الـمصير القومي بعد التخريب الذي تقوم به العقلية »العربية» وما سينتج في الـمستقبل من أخطار لم يكن جائزاً له أن يفض نظام القوميين الاجتماعيين ويسلمهم لقادة العقلية العربية ليهدروا دماءهم كما هدروا دماء الألوف غيرهم في أهداف وخطط لا يسلم بصحتها العقل السوري القومي الاجتماعي!
إن موقف الزعيم، بعد نزول كارثة قرار التقسيم الـمسؤولة عنها سياسة الـخصوصيات والـحزبيات الدينية والعشائرية والنفسية النايورجعية، واضح في البلاغ الذي أذاعه في أول كانون الأول 1947، إذ قال مخاطباً الأمة السورية: »سنرى منذ اليوم بقية رواية الشعوذة »الوطنية» و»العروبية». وسنرى استمرار انتصار الباطل إلى أن يلوح انتصار الـحق، إن انتصار الـحق بات قريباً!» فواضح من هذه العبارة أن الزعيم كان يعرف كل الـمعرفة عقلية النايورجعية وأهدافها وخططها ويعرف إلى أي مصير تؤول ولذلك أعلن في البلاغ عينه: »أن القوميين الاجتماعيين يشكلون جيشاً بنفسه، فلينضم كل قومي اجتماعي إلى جريدته وفرقته!» وبعد إعلان هذه التعبئة قال البلاغ: »أن الـحرب نفسها يجب أن يبتدئها الذين أعلنوا أنهم قد هيأوا الـحرب وأن يشترك فيها الذين أعلنوا أنهم لها. فإذا كان الأمر مجرد شعوذة وإذا كانت القروض الـمالية والـمصالح السياسية والاقتصادية قد جعلت التهديدات ابتهاراً وخدعة، فإن قوتنا تقف متأهبة ليوم أعلنه بإرادة الشعب ولا نساق إليه سوقاً بسياسة الاختلاطات الغريبة!»
أن الذين هيأوا الـحرب هم الرجعيون والرجعيون الـمتجددون وهم الذين كانت في أيديهم كل القوى والـموارد الشعبية. ولم يقم الـحزب القومي الاجتماعي بعرقلة شيء من أعمالهم. فألفوا الـمكاتب لـجمع الـمال وشراء السلاح وصناعة السلاح وجمعوا الشبان ودربوهم وأرسلوهم إلى الـحرب. وقد استعدوا بعقليتهم النايورجعية لهذه الأعمال الـحربية من زمان طويل وقاموا بها وسط حماس أذكاه كتابهم وصحفهم. أما الزعيم فكان يرى هذه الأعمال شعوذة، لأنه ليس هكذا تبنى القضايا الصحيحة وتعد الـحروب القومية وقد تنبأ الزعيم بـمصير هذه الشعوذة وأن الذين أعلنوا أنهم للحرب هم الـحكومات العروبية بعقليتها وأهدافها وأساليبها وقد رأينا ما كان من اشتراك هذه الـحكومات بـما تنبأ به الزعيم.
أما القوة القومية الاجتماعية فقد أنقذتها القيادة من الـمصير الـمشؤوم الذي صارت إليه جميع القوى التي اعتمدت على تفكير الـمصابين بـمرض العروبة النفسي. وقد أعلن الزعيم، في مقاله الأخير »انتصار القومية السورية يحقق الـجبهة العربية القوية» الـمنشور في عدد »كل شيء» الصادر في 4 شباط الـحاضر، أن النهضة القومية الاجتماعية، بعد تنبؤها بالكوارث، قامت بكل مساعدة كانت في مقدورها وكان قصد القيادة القومية الاجتماعية العليا تشكيل ما لا يقل عن كتيبة كاملة لتبتدئ العمل بـمهمات تكلف بها لـمساندة القوات الأخرى على أن تشكل كتائب أخرى تتبعها إذا حصل نـجاح في تسليح الكتيبة الأولى. ولكن ذهبت جميع الـمحاولات التي قامت بها عمدة التدريب، وعلى رأسها الأمين أديب قدورة، أدراج الرياح، فقد اتصل العميد مراراً »بـمكتب فلسطين الدائم» وسأل عمته السيدة ابتهاج قدورة مساعدته للوصول إلى بغيته. وحصلت اتصالات مداورة مع بعض أشخاص الـحكومات. والـجواب كان دائماً: »لا سلاح للقوميين الاجتماعيين». وقد حدث في وقت من أوقات الـمعارك أن قيادة جبهة القدس عرضت على منفذية القدس العامة تسليح فرقة قومية اجتماعية تتخذ موقعها في القدس. فأتى رسول مستعجل من الـمنفذية وخابر الـمركز فقبلت القيادة القومية الاجتماعية العليا العرض فوراً وعاد الرسول بالقبول الـمبدأي وطلب التفاهم على التفاصيل فلم تـمض أيام معدودة حتى جاء رسول ثان هو ناموس منفذية القدس العامة، الرفيق عبداللطيف كنفاني، يقول أن قيادة القدس عدلت عن التسليح بحجة أن لا سلاح لديها!
ومع ذلك فقد انخرط قوميون اجتماعيون عديدون في الـجيوش الـمحاربة وحاربوا في كل الـميادين وكانوا الـمتطوعين الشعبيين الوحيدين الـممتازين بنظامية وتفان في الواجب شهد بهما كثيرون من الذين عاينوا أعمالهم من رؤساء »اللجان القومية» والقواد. ولـما دخل اليهود حيفا وعكا كانوا مزودين بلائحة بأسماء عدد من القوميين الاجتماعيين الذين أبلوا في الـمعارك ضدهم ليقبضوا عليهم. وقد تـمكن أكثر هؤلاء الرفقاء من النجاة من بين أيدي اليهود بدقة نظاميتهم وخططهم. وفي نواحي البلد والرملة وجدت فرقة صغيرة دعيت فرقة الزوبعة شكلها الرفيق الـمجاهد مصطفى سليمان قامت بأعمال حربية تذكر ولم تـجد أي تأييد من الـجيوش النظامية ضد الهجوم الذي قام به اليهود عليها، بل استخدمتها الـجيوش لتغطية انسحابها فوعدتها بالـمساعدة لتثبت في أماكنها وانسحبت من رائها وعن جوانبها وتركتها منكشفة لهجوم العدو وطعاماً لنيرانه! وقد فقدت هذه الفرقة الصغيرة عدداً من أفرادها وأن عدد الضحايا القوميين الاجتماعيين عدد غير قليل، لأنهم كانوا دائماً في قلب الـمعارك.
أن »رجال الكلام والـجعجعة بالـمبادئ والتنعم بالدفء في سرائرهم» هم، في الـحقيقة، رجال النايورجعية العروبية والتلبننية الذين لم يقدروا أن ينظموا غير الطائفيات من نـجادة سنية وطلائع شيعية وفلنج مارونية وغساسنة ارثوذكسية وغيرها في كل مكان من سورية الطبيعية، والذين لم يقدروا أن يفكروا بغير الـحروب الدينية فكان الـجيش الذي فكروا بتشكيله جيش حرب دينية كجيش اليرموك وكانت نداءاتهم إلى الـمحاربين في فلسطين تقول: »أيها العرب والـمسلمون (الـمحمديون) فلم تكن عقليتهم النايورجعية تسمح لهم بنظرة قومية صحيحة خالية من النعرة الدينية وظنوا أنهم بادخال واو العطف على »الـمسلمون» يصلون بنايورجعيتهم إلى الانتصار. فأجاب النايورجعيون الـمتلبننون على هذه النداءات بالقول في أوساطهم: » لا يعنينا أمر فلسطين كما لم يعننا أمر الاسكندرونة». وقالت رجعيات أخرى علوية وغيرها أقوالاً تدل على فهمها الواقع الرجعي في حرب فلسطين!
بينما يقول السيد أنيس النصولي أن العوامل الداخلية لـخسارة قضية فلسطين هي »من رجال الكلام والـجعجعة بالـمبادئ» وهم كل رجال »القومية العربية وجيوش الـخمسين مليون عربي»، يعترف السيد محيي الدين النصولي بأن النايورجعيين العروبيين واجهوا حرب فلسطين »بدون استعداد مادي». فلماذا لم يستعدوا الاستعداد الـمادي وقد أنذرتهم التطورات الفلسطينية مراراً وعالـجوا الـمسألة الفلسطينية نحو ثلاثين سنة؟! أليس لـجهلهم حقيقة القضايا القومية وكيف تكون الـحروب القومية؟ ما هو عذرهم هل أن زعماءهم لم يكونوا لائقين للزعامة وكما تكونون يوّلى عليكم؟ أم بسبب نقص »الدولار اليهودي والسلاح الروسي والدبلوماسية الاميركانية والبريطانية في الشرق؟»
أما قول السيد محيي الدين النصولي »وكان فيهم النصراني والـمسلم (الـمحمدي) اللذان امتزجت دماؤهما في الصراع القائم فوق تربة فلسطين» فماذا يقصد به؟ هل يعني أنه مع أن العروبة النايورجعية الـمنادية »بالقومية العربية» لم تكن تـمثل قومية صحيحة في سورية فإن الـمسيحيين في فلسطين هبوا للدفاع عن وطنهم وديارهم بالاعتباطية التي »درستها وخططتها» العقلية النايورجعية وأن عدداً آخر من غير الـمحمديين سلكوا التخطيط الاعتباطي عينه الذي وضعته العقلية النايورجعية للمحمديين معتمدة على فتوى الـجهاد وفوضى »القومية» النايورجعية؟
إن استنتاج السيد محيي الدين النصولي النايورجعي الباهر يشبه كل الشبه استنتاج أخيه السيد أنيس في قوله »نسيت أن العروبة كانت الأساس الأول للحركة الاستقلالية في مصر ولبنان وسورية والعراق والـحجاز في القرنين التاسع عشر والعشرين» فهما يظنان أنه لولا »العروبة» لـما خفق في سورية قلب بحب الـحرية والاستقلال!
أن حب السوريين الـحرية والاستقلال وطبيعة السيادة فيهم من عهد دولهم الأولى العظمى يدفعانهم إلى طلب السيادة بأي شكل من الأشكال. والعروبة كانت شكلاً لا أساساً لـمحاولة السوريين الأولى النهوض والتحرر من الأتراك واستعادة السيادة. أن العروبة كانت الشكل الـمفروض فرضاً على السوريين أو، بتعبير السيد أنيس النصولي، كانت »غصباً عن السورية لأن اليرموك كانت باب العرب والـمدنية العربية لسورية ولكل شواطئ الـمتوسط»! فهذه »القومية الغصبية» لا يـمكن أن تكون تعبيراً صحيحاً عن الوعي السوري القومي. وبعد فإن اليرموك كانت باب العرب لسورية ولكنها لم تكن قط باب »الـمدنية العربية». أن مدنية الأقوام التي دخلت نظاق الإسلام الـمحمدي، التي تطلق عليها أحياناً التسمية اللغوية فيقال »الـمدنية العربية» هي مدنية السوريين والفرس والأقريك في اللغة العربية. وتتجلى »القومية العربية الغصبية» في بيان السيد محيي الدين النصولي فيقول أن الـجامعة العربية هي »نتيجة تطور طويل شامل للشعوب العربية (لا للشعب العربي إذ يعترف النصوليان بأنه لا يوجد شعب عربي واحد، بل شعوب، ومن هذا الشعوب ما له وعيه القومي وشخصيته الاجتماعية السياسية فهو أمة) وبالتالي للأمة العربية (على أساس سفسطة أن الأمة غير الشعب وأنها أصل والشعب فرع) وولادة شاقة، وحاجة ملحة تـماشي الزمن، زمن التكتل وتنسيق الـجهود وخلق عالم واحد يدين بالأخوة والديـموقراطية (الديـمكراتية الغصبية!) ، بالـحرية والتساهل».
فانظر، أيها القارئ السوري العزيز، كيف تصير »القومية العربية» دعوة إلى »خلق عالم واحد يدين بالأخوة الديـمكراتية، بالـحرية والتساهل»! فلا قومية سورية ولا »قومية عربية» ولا بلوط، بل »قومية عالـمية»! وقد حل السيد محيي الدين النصولي الـخلاف بين قومية النهضة السورية الاجتماعية و»قومية» الفوضى العربية »الشعوبية» بالدعوة إلى »القومية العالـمية» التي يريد تـحقيقها »الـمواطن العالـمي» الأميركاني الـمدعو هاري داوس الذي يصفق له الفرنسيون الذين خمدت فيهم روح النهوض في فرنسة فيطرب لتصفيقهم القومي العربي العالـمي في سورية السيد محيي الدين النصولي! هذا التفكير »العربي القومي» هو الذي يقول فيه السيد أنيس النصولي أنه تفكير »كما يقول الـمنطق» وأنه هو وجميع الذين يفكرون هذا التفكير »الـمنطقي» سيظلون يحيون »بظل العروبة الديـموقراطية النيرة» (ديـمكراتية العالم الواحد والقومية العالـمية النايورجعية العروبية!). وبهذا التفكير »الـمنطقي» يقول السيد أنيس النصولي: »نحن نكره الديكتاتورية ونكره أنظمتها ونكره عقلها الضيق وعبوديتها الفكرية». ومع ذلك فإننا لم نره ولا مرة واحدة يحارب قول العالم التقدمي الرجعي جمال الدين الأفغاني »لا يصلح الشرق إلا مستبد عادل».
أن الفوضويين والنايورجعيين يكرهون استبداد الـحق العادل الـمصلح، لأنهم يريدون »القومية الغصبية» واستبداد الفوضى!
تلك هي قيمة أفضل ما ولده التفكير النايورجعي العروبي أما قيمة كلمة صاحب »مساء الـخير» التي قصد بها صاحبها أن تكون رداً مباشراً، وقيمة كلمة الدكتور نبيه فارس، التي قصد بها أن تكون رداً مداوراً، فهي قيمة سقط الـمتاع! ورد السيد أنيس النصولي الثاني على مقال الزعيم »والانعزالية اللبنانية أفلست!» فهو متابعة »للتفكير الـمنطقي» الذي بنى عليه مقاله الأول!
يختلف رد السيد محمد البعلبكي عن ردود جماعة »إلى أنطون سعاده.....» و»مساء الـخير» و»مفكرة نبيه فارس» بخروجه عن خطط »التفكير النايورجعي الـمنطقي» وتوخيه التقدير والتحليل. ولكنه يغلط بتسميته الوطن السوري الفيزيائي »بالعالم السوري». ويغلط باستنتاجه أن افلاس السوريين العروبيي العقلية قد يعني افلاس مبدأ القومية السورية، لأنهم لم يعملوا بهذا الـمبدأ. فهذا الـمبدأ هو لانقاذهم من التخبط الـمضلل في غير قوميتهم الصحيحة التي نكبوا لشذوذهم عنها، لا لعملهم بها! وهو يغلط أيضاً بظنه أنه لا علاقة بين قضيتي القومية السورية الصحيحة و»القضية العروبية» الـموهومة التي تنادي بها النايورجعية، ومسألة فلسطين وغيرها من الـمسائل القومية.
ولكننا نرحب برصانته والدعوة إلى توحيد الـجهود على أساس الـحقيقة والصحة.
بيروت في 5 شباط 1949
لجنة الإذاعة في
الحزب القومي الاجتماعي