لم تتمكن الارادات الأجنبية الـمتضافرة على خنق الروح القومية من بلوغ كل غايتها رغم أنها أصابت بعض النجاح في إخراج الساسة العاملين في سبيل الـمطلب القومي عن محورهم الطبيعي وتقليص نشاطهم ضمن الأوضاع السياسية الـمفتعلة أو بعثرتها خارج الإطار الطبيعي. فبعد الزوغان والـجمود عبرت الأمة عن توثبها القومي وتوقها الروحي الأصيل إلى النهوض بولادة الـحركة السورية القومية الاجتماعية،الـحركة العقائدية الثورية التي ركزت العمل القومي على أسس علمية-مبدئية. وكانت نظرة الـحزب القومية إلى الوحدة، الـمخطط العلمي والعملي الوحيد لـجمع العالم العربي على مرحلتين: الأولى توحيد بيئاته الطبيعية والثانية إنشاء جبهة قوية تضم البيئات الـموحدة على أساس الـمصالح الـمشتركة والـمتبادلة فيما بينها.
وفي الوقت الذي تراخت فيه الدعوة الاتـحادية وتقلصت وباتت العروبة تعني مجرد التغني بالتراث العربي والأمجاد العربية أعلن الـحزب السوري القومي الاجتماعي منذ عام 1932 عقيدته القومية الاجتماعية التي تضمنت الدعوة إلى الوحدة السورية على أساس تـحديده العلمي للهلال الـخصيب بإنه »البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية وهي ذات حدود جغرافية تـميزها عن سواها تـمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري من الشمال الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الـجنوب، شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب، شاملة جزيرة قبرص، إلى قوس الصحراء العربية وخليج العجم في العراق» وأعلن مخططه في إنشاء جبهة عربية »يكون لها وزن كبير في إقرار الـمسائل السياسية الكبرى» وأعلن في أول آذار عام 1938 على لسان زعيمه بأن »إنشاء جبهة عربية هو دعوة الـحزب السوري القومي الاجتماعي إلى أمـم العالم العربي التي يهمها الأمر لتأليف جبهة على أساس الـمصالح الـمشتركة» وتقدم في عام 1944 إلى مؤتـمر الاسكندرية الذي انبثقت عنه مؤسسة الـجامعة العربية، بـمذكرة رسمية طالب فيها »بتأسيس الـجبهة العربية على أساس الاشتراك الـمفيد في الشؤون الاقتصادية والعسكرية..» وطالب في مذكرته بإقامة »نظام من الضمانة الـمجموعة والدفاع الـمشترك عسكرياً» وكان الـحزب السوري القومي الاجتماعي وحده منذ تأسيسه، أي منذ خمسة وعشرين سنة وقبل نشوء الأحزاب العروبية بزمان طويل حاملاً لراية الوحدة في الهلال الـخصيب وداعياً لتحرير الأجزاء الـمغتصبة والـمحتلة وتوحيدها. وكان وحده منذ ذلك الـحين الداعي بانفتاح ومسؤولية إلى إقامة تعاون عربي واسع بين أمـم العالم العربي الـموحدة على أساس بيئاتها الطبيعية، ولذلك أخذ الـحزب على الـجامعة العربية حين تأسست أنها جمعت أشلاء الأمـم العربية الـمبعثرة قبل توحيدها، وأنها من جهة ثانية حاربت قيام اتـحادات تقضي على التجزئة والانعزال في البيئات الطبيعية التي تكون العالم العربي.
لقد تـميزت نظرة الـحزب إلى الوحدة القومية بأمور أساسية أهمها:
أولاً- إن الـحزب تقدم قبل أي فئة في العالم العربي بـمخطط علمي عملي لتوحيد سورية الطبيعية وجمع العالم العربي في جبهة عربية قوية، وإن هذه الدعوة التي نادى بها الـحزب لم تكن محصورة به بل إن الكثيرين من أقطاب التفكير والرأي عند العروبيين أخذوا بها واعتبروها التدرج الطبيعي السليم نحو الوحدة العربية. فغدا توحيد الهلال الـخصيب مطلباً قومياً لدى العاملين الـمخلصين على اختلاف إتـجاهاتهم القومية وكان النموذج الـحي الذي إحتذته مصر في مطالبتها بتحقيق وحدة وادي النيل.
لقد انطلق الـحزب السوري القومي الاجتماعي من القواعد العلمية في تـحديده للقومية والعروبة فنادى بالعروبة الواقعية وأعلن »إن شرط تعاوننا في العالم العربي هو أن نقدر على تقديـم شيء، ولكي نقدر على تقديـم شيء يجب أن نكون نحن أولاً شيئاً. لا يـمكننا أن نقدم شيئاً ونحن لا شيء، لا يـمكن لسورية أن تخدم العالم العربي في شيء وهي مبعثرة مجزأة نفسياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وليس لها كيان أو ذات حقيقة أو نفسية» لذلك نحن نرى أن حركتنا هي قوة لأمتنا وللعالم العربي لأنه حين لا تكون هذه الـحركة وبالتالي لا تكون وحدة الأمة السورية لا يـمكن أن نكون متعاونين ومعاونين في العالم العربي بل نكون منساقين ومجرورين. »إن عروبتنا الواقعية ترى العالم العربي على حقيقته بيئات ومجتمعات متعددة ولكنها تؤمن بأن ما بين هذه البيئات والـمجتمعات الـمتمايزة من الروابط والـمصالح هو من القوة بحيث يتحتم عليها التعاون والتساند وإنشاء الـجبهة العربية الواحدة».
ثانياً- تـميزت نظرة الـحزب بتعميق الفكرة القومية فلم تعد ذات مفهوم سياسي سطحي للاتـحاد كما كانت قبل نشوئه أو خارج نطاقه، بل غدت فيه فكرة تتناول جذور حياة الشعب. فهو حركة علمت وصارعت ضمن الشعب لتثقيفه بـمعنى الوحدة القومية والولاء القومي. ليس الـحزب السوري القومي الاجتماعي حركة سياسية أو مشروعاً سياسياً عارضاً بل حركة عقائدية ذات مدى شعبي وإلى جانب هذه الناحية العملية الـمهمة فقد نادى الـحزب السوري القومي الاجتماعي بالقومية الاجتماعية وهي النظرة التي تعتبر الأمة مجتمعاً واحداً منزهاً عن كل العصبيات الطائفية والعرقية والـمحلية والإقليمية والعشائرية. ذلك أن من أهم العوامل التي اعتمدها الاستعمار الأجنبي لتعميق التجزئة والتقسيم في أمتنا هو هذه الأمراض الاجتماعية الـممزقة لوحدة الـمجتمع. لذلك انطلق عمل الـحزب منذ تأسيسه إلى ناحية مهمة هي الإيـمان بوحدة العشب والعمل على تكامل هذه الوحدة القومية وتنزيه الشعب عن العصبيات الطائفية والعرقية والعشائرية. فلم يكن محور اهتمام الـحزب اتـحاد الأشكال السياسية بل وحدة الـمجتمع وتـحقيقها بايقاظ الشعب وتثقيفه بالولاء القومي الـمطلق. فالأمة السورية- في تـحديده- »هي وحدة الشعب السوري الـمتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الـجلي». وفي شرح الـمبادئ الإصلاحية أعلن الـحزب »لا يـمكن أن تكون لنا عقلية واحدة ونعمل بـمفاهيم مختلفة متنافية مع وحدة الـمجتمع» »كل أمة تريد أن تـحيا حياة حرة مستقلة تبلغ فيها مثلها العليا يجب أن تكون ذات وحدة روحية متينة» »وما معنى الأخوة القومية حين أقول لك أنت أخي وأحرمك بالفعل من حقوق الأخوة معي؟» »يجب أن نقف في العالم أمة واحدة لا أخلاطاً وتكتلات متنافرة النفسيات» وباعتماد الـحزب السوري القومي الاجتماعي هذا النهج العلمي التطبيقي تـميز عن بقية العاملين للاتـحاد في أنه انطلق من القاعدة، من الشعب، ليبني صرح الوحدة ولم ينطلق فوقياً أو سطحياً كدعاة الاتـحاد السياسي الـمجرد من القواعد القومية الشعبية.
رحب الـحزب السوري القومي الاجتماعي بالثورة الـمصرية كمحاولة إصلاح ونهوض في الـمجتمع الـمصري تطلقه من عقاله وجموده ليصبح مع الـمجتمع السوري وسائر الـمجتمعات العربية قوة فاعلة يـمكنها أن تتلاقى وتتعاون وتتساند في جبهة قوية وكان جلياً منذ البداية إن الثورة ذات اتـجاه مصري قومي واضح. فلقد أعلن جمال عبد الناصر مصريته في كتاب »فلسفة الثورة» الذي يعتبر تخطيطاً عاماً للثورة ونهجاً وذلك حين تـحدث عن كيف كان يحارب في فلسطين »ولكن قلوبنا كانت تـحوم حول وطننا البعيد» »وكيف أخذت خواطري تقفز فجأة عبر ميادين القتال وعبر الـحدود إلى مصر». وأعلن تكامل التراث الـمصري ووحدته حين قال في الصفحة 42 من الكتيب نفسه : »وفي رأيي لا يـمكن إغفال تاريخ مصر الفرعوني، ثم تفاعل الروح اليوناني مع روحنا، ثم غزو الرومان والفتح الإسلامي وموجات الهجرة العربية التي أعقبته». وخطط الرئيس عبد الناصر لـمصر العريقة الـمستمرة من فجر تاريخها الفرعوني حتى الفتح الإسلامي، خطط لها، لهذه الوحدة القومية ثلاث مجالات اعتبرها الـمدى الـحيوي للقوى الـمصرية كي تفعل فيها: وهي الدوائر العربية والإفريقية والإسلامية.
ويتحدث الرئيس الـمصري عن توحيد الكفاح بين الشعوب العربية فيقول »ولست أريد أن أهون من أمر العقبات التي تـحول بيننا وبين توحيد الكفاح، فلا شك أن بعضها معقد تـمتد أصوله إلى طبيعة البيئة وظروف شعوبها التاريخية والـجغرافية ولكن الـمؤكد أنه يـمكن مع شيء من الـمرونة القائمة على بعد النظر، لا على التفريط، إيجاد الـخط الذي يستطيع الـجميع أن يقفوا فيه، بلا تـحرج وبلا عنت، لـمواجهة الكفاح الواحد». بـمثل هذه الواقعية كان عمل الثورة الـمصرية الأول الذي عبر عنه صلاح سالم »بـمصر أولاً وفلسطين بعد ذلك» وعبر عنه أنور السادات »بأنني مصري أولاً».
اتـجهت الثورة الـمصرية اتـجاهها الواقعي في مراحلها الأولى وفق ما خطط الرئيس عبد الناصر حول مركز مصر في أفريقية »ولسوف تظل شعوب القارة تتطلع إلينا، نحن الذين نحرس الباب الشمالي للقارة، والذين نعتبر صلتها بالعالم الـخارجي كله»، اتـجهت نحو السودان »الشقيق الـحبيب الذي تـمتد حدوده إلى أعماق أفريقيا» والذي تـجمعه إلى مصر رابطة »النيل شريان الـحياة» لـمصر الذي »يستمد ماءه من قلب أفريقيا» ولكن النكسة للفكرة الاتـحادية في السودان كانت قوية وتصرف الرئيس عبد الناصر بحكمة وتعقل حين رأى أعراض السودانيين عن الوحدة مع مصر فكانت إقالة صلاح سالم وانكفأت الثورة عن الـمدى الأفريقي إلى حين. وما لبثت الثورة وهي كأية ثورة في التاريخ تهتم بالأعمال الـخارجية الكبرى التي تبقي الشعب في توتره وتوثبه إن خطت خطوات جديدة في الاتـجاه العربي فأعلن القادة الـمصريون بأن »القومية العربية ضرورة استراتيجية!» وكان الرئيس عبد الناصر قد سبق له وأبدى اهتمامه بالثروة البترولية في العالم العربي (راجع كتاب فلسفة الثورة ص 76-77) واتـجهت الثورة الـمصرية إلى الـمدى العربي وبشكل خاص نحو الشام التي كانت أوضاعها الداخلية الـمتردية تدفعها إلى الاستجارة بالرئيس الـمصري.
كل اتـحاد يقوم على أغراض سياسية موقتة ولا ينبثق عن وحدة حياة اجتماعية ووحدة مصالـحها الإقتصادية- النفسية الدائمة هو اتـحاد اصطناعي معرض للزوال في ظروف طارئة مشابهة، فمصلحة التعاون على تـحرير الأقطار العربية ليست مصلحة قومية ثابتة. بل هي اشتراك أمـم العالم العربي في طلب الـحرية والاستقلال الذي »لا يولد وحدة قومية، بل يولد وحدة اتـجاه سياسي تظل قائمة ما دام هنالك حاجة إليها». والاتـحاد الـمصري- الشامي كان وليد ظروف سياسية متشابهة أكثر من انبثاقه من واقع طبيعي – اجتماعي- اقتصادي-استراتيجي واحد. ولقد كان في طليعة العوامل التي أدت إلى قيام هذا الاتـحاد وضع الشام الداخلي الـمتردي والسياسة الـخارجية الـمتشابهة بين الشام ومصر...
أما السياسة الـخارجية الـمتشابهة بين مصر والشام، سياسة »الـحياد الإيجابي» الـمتدرجة نحو الارتباط العسكري- الاقتصادي بالسوفيات فلقد كانت سبباً من أسباب الاتـحاد الـمصري-الشامي كما كانت سبباً من أسباب التباعد بين الشام وسائر اليكانات السورية. فلقد حلت وحدة الاتـجاه السياسي محل الوحدة القومية الـحقيقة، ووحدة الـحياة البيئة والـمصلحة. فالأمر السياسي الذي باعد بين دويلات الوطن قرب ووحد بين دولتين من وطنين طبيعيين متباينين، والسياسة الـخارجية بطبيعتها متطورة متبدلة وفق مصالح الدولة الـمتطورة. ولذلك كانت ركيزة الاتـحاد الأولى ركيزة غير ثابتة بل هي أقرب ما تكون إلى التحول والتبدل السريعين. ولقد حاول الرئيسان عبد الناصر والقوتلي في الـخطب التي ألقياها معلنين فيها قيام هذا الاتـحاد الـجديد أن يستنبطا للاتـحاد مقوماته الطبيعية. فحاول الرئيس عبد الناصر ارجاع الاتـحاد إلى جذور تاريخية عريقة حين أعلن أن عهده يعود إلى أربعة آلاف سنة. »لقد اتـحدت الـمنطقة بحكم السلاح يوم كان السلاح هو وسيلة التعبير في الطفولة الأولى للبشرية». ولكن غاب عن بال الرئيس الـمصري أن فتوحات السوريين لـمصر وفتوحات الـمصريين لسورية تـميزت في كافة مراحلها بأنها فتح عسكري توسعي بعيد عن أن يكون توحيداً حضارياً أو قومياً ثابتاً. وأن السلاح لم يكن وسيلة التعبير الـمثلى في زمن حروب الـمصريين والسوريين القدامى، زمن حروب آشور والفراعنة وما تلاها من حروب تاريخية فاصلة ففي ذلك الزمن التاريخي القديـم كانت فنون الـحفر والنحت والبناء والأدب والشعر والأسطورة من أهم وسائل التعبير عن الـخطوط النفسية والـحضارية. والـمدقق الدارس يرى التمايز الواضح في خطوط النفسيتين الـمصرية والسورية التي تـحملها وسائل التعبير الأفضل والأقوى في طفولة البشرية وفجرها التاريخي.
ويتابع الرئيس الـمصري فيقول »واتـحدت الـمنطقة بيقين النبوات» ومن ثم »باللغة يوم جرت العربية وحدها على كل لسان» ومن ثم »تـحت دافع السلامة الـمشتركة أو بالـمشاركة في العذاب والتعرض لسيطرة الاستعمار» وكل هذه العوامل لا تكون اتـحاداً طبيعياً قومياً ثابتاً. فالدين محمدياً كان أم مسيحياً عم وشمل أكثر من مصر وسورية أمـماً غير عربية من أقاصي آسيا حتى شمال أميركا وجنوبي أفريقيا. والرابطة الدينية بطلت أن تكون من زمان طويل رابطة اجتماعية سياسية ذات طابع قومي. أما اللغة فهي أمر حاصل بالاجتماع ولا تنشيء الـمجتمع وتكونه. ووحدة اللسان لم تكن سبب توحيد أية أمة في العالم سواء في العالم الانكليزي اللسان أو العالم الإسباني اللسان. أما التعرض للاستعمار ومكافحة الأخطار الـخارجية فإنه يشكل وحدة اتـجاه سياسي أو اشتراكاً في طلب الـحرية والاستقلال وهو ليس من عوامل الوحدة القومية الطبيعية، أي وحدة الشعب الـموحد الـمزيج السلالي ووحدة البيئة الـموحدة العوامل الطبيعية والدورة العمرانية الاجتماعية الاقتصادية، وإلا لتحتم اتـحاد جميع البلدان التي تخضع للإستعمار في آسيا وأفريقيا.
بقي السبب الآخر وهو تردي الوضع الداخلي في الشام وتعب القيمين عليه من وضعه الـمضطرب القلق واستجارتهم بالاتـحاد كحل لـمشكلة داخلية، وهو سبب فاشل في إقامة الاتـحاد الـجديد إن هذا السبب يبدو جلياً صارخاً في خطاب القوتلي حين قال »وكما أرجو أن أكون باعتباركم واعتباره قد أديت واجبي نحو بلادي وأمتي وكنت جديراً بالثقة التي أوليتموني إياها خلال هذه الـحقبة من الزمن العصيب، فإن قصرت فعذري إني عملت بصبر وإيـمان».
وبعبارات مثل هذه سجل الرئيس القوتلي اعتذاره عما فاته من حكم الـجمهورية السورية في وضعها الـمضطرب العصيب ونحن لا ننسى الوضع الـمتردي في الشام، وسيطرة أجهزة غير مسؤولة دستورياً سيطرة تامة قلصت صلاحيات رئيس الـجمهورية وعزلته عن مـمارسة مسؤولياته الدستورية. لقد أراد الرئيس القوتلي الـخروج من القصر الـجمهوري شهيداً في سبيل العروبة بعد أن أدرك أن بقاءه في الـحكم أو بقاء سواه من الساسة بات أمراً غير مرغوب فيه.
لقد تردى الوضع الداخلي في الشام إلى حد الدوران على غير محور فأضحت الشام مسرحاً للفوضى والطغيان بعد أن سخر اليساريون الـمسيطرون أجهزة الأمن لإنزال الاضطهاد الوحشي الدامي بالسوريين القوميين الاجتماعيين في محاولة إبعاد الـحزب السوري القومي الاجتماعي عن مسرح العمل في الشام بعد انهيار الـمدارس السياسية العتيقة وخلو الـجو لهم. وانطلق الـمخطط الشيوعي بعد أن لقح الـموجة العروبية الـجماهيرية بشعاراته يكمل مراحل سيطرته مستفيداً من البعثيين الاشتراكيين، هذه الـمدرسة الـحمراء في العروبة الـملقحة بالتفكير الـماركسي في نهجها ومبادئها القائلة بالـحرب الطبقية. وظن البعثيون الاشتراكيون بكل سذاجة إنهم هم يستخدمون الشيوعيين لبلوغ الإرب. ولكن بعد حكم استغرق سنتين وكان للبعثيين فيه كثرة من النواب والضباط تقلص نفوذهم وفشلت مخططاتهم كلها:
فقد فشلوا أولاً في ترسيخ أو توضيح أي مفهوم إيجابي للعمل القومي باعتبار البعثية الاشتراكية في أساسها ملقحة بالفكر الشيوعي وها هو صلاح البيطار يعلن عن امكانية إنشاء وزارة للثقافة العامة مهمتها توضيح فكرة العروبة ووضعها على أسس جديدة، كإنـما الوزارة تنشيء الفكرة لا الفكرة هي التي تستنبط الأجهزة لبثها والتبشير بها. وإن في ذلك اعترافاً بأن ليس للبعثيين الاشتراكيين أي مفهوم واضح حتى الآن للقومية والعروبة.
وفشل البعثيون الاشتراكيون في ايجاد التطبيق العملي الناجح للإشتراكية فوضعوا الـمخططات الاقتصادية الـخيالية الواسعة والـمخالفة لواقع البلاد الاقتصادي وإمكانياتها الانتاجية،وعندما سقطت مخططاتهم الاقتصادية هذه طلبوا الـمعونات الـمستعجلة من السوفيات ووقعوا صك العبودية مع الروس بشكل ربطوا فيه الشام وقيدوها بالأغلال والديون،ثم استجاروا بعبد الناصر ومصر بعد أن كبلوا الشام بالاستعمار السوفياتي وبالشيوعية الـمتغلغلة فيها، لتغطية فشلهم السياسي.
وفشل البعثيون الاشتراكيون في تـحقيق الاتـحاد مع الأردن »اللواء السوري السابق» رغم نشاطهم في كل من الشام والأردن ووصولهم إلى الـحكم في الكيانين الـمتلاصقين الـمرتبطين بأشد روابط وحدة الـحياة وأمتنها. لقد تـمخضت تخطيطاتهم في وزارة النابلسي التي سيطروا عليها من عقد اتفاقية رباعية بين الأردن ومصر والسعودية والشام لتمويل الأردن بعد إلغاء الـملك حسين الـمعاهدة البريطانية فبدل أن يباشروا بالعمل لـخطوة اتـحادية حاسمة مع الأردن عملوا على تـجميد كيانه الـمستقل الـمنفصل بجمع الصدقات له، ولم تـمض مدة حتى تلكأت مصر والشام عن دفع الـمتوجب عليهما للأردن فكان إفلاساً آخر للسياسة البعثية الهوجاء.
وبعد أن فشل البعثيون وأفلسوا وثب الشيوعيون إلى الـحكم وأخذوا يـمهدون لتصفية البعثيين. وكانت الانتخابات البلدية والنيابية على الأبواب وهي التي كان مقدراً أن يـمنى فيها البعثيون بهزيـمة نكراء، عندها تنبه البعثيون بعد أن مهدوا هم للشيوعيين سبيل السيطرة فاستجاروا بـمصر لتغطية فشلهم السياسي الفاضح.
إن وضع الشام الـمتردي لأعجز من أن يتمكن البعثيون أو من يستجيرون به من انقاذه، لن يتمكن البعثيون وهم الذين خربوا ومهدوا للشيوعية من الاصلاح والانقاذ. وليس الـحل في الاتـحاد الاصطناعي مع مصر، هذا الاتـحاد الذي يأتي هو بـمشاكل اقتصادية وسياسية جديدة قد تفيد التغلغل الشيوعي مهما تظاهرت الشيوعية بالتغيب عن الـمسرح الوطني. فالشيوعية حركة ثورية تعرف وتـحذق العمل السري ولن تقضي عليها مطاردة قوى الأمن لها ولا تواري قادتها، إنها عقيدة ونظام لا تـحاربان بالأشكال الـحزبية أو بالتدابير الرسمية بل بعقيدة ونظام أفضل. ولذلك »فالـجمهورية العربية الـمتحدة» عاجزة عن تصفية أمر الشيوعية في الشام بل أنها قد تقدم للشيوعية مجالاً أوسع للعمل والتغلغل. إن الوباء ينتشر في الـجسم مهما كبر وتضخم خاصة إذا جاء تضخمه غير الطبيعي لا يعبر عن خصائص النمو والـمنعة. وإن الدولة الـمرتبطة بشقيها بالاتـحاد السوفياتي والرازحة تـحت ديون باهظة، إن الدولة التي يتوحد كل شيء فيها، إلا السياسة الـمالية الاقتصادية والنقدية والتي يشكل انفصال كيانيها حالة مالية اقتصادية أفضل من توحيدهما، هي دولة اصطناعية لا تتمتع بأسباب البقاء والنمو والازدهار. وهي لذلك تقدم من الـمشاكل ما قد يفيد الشيوعية ويفسح أمامها الـمجال الواسع للعمل.
(من بيان الـحزب السوري القومي الاجتماعي الصادر في 20 شباط 1958 حول الاتـحاد الشامي- الـمصري)