أفلت أخيراً الأتراك من أيديهم قوة كانت لهم أولاً سلاحاً وأصبحت آخراً داءً وبيلاً ومرضاً عضالاً. فكان لهذا الـحادث وقع غريب في العالـميـن الشرقي والغربي، وأصبح الناس يتوقعون من ورائه حوادث ذات بال، لأن الدور السياسي الذي لعبته الـخلافة في الـماضي جعل لها أهمية لا مثيل لها في التاريخ الـحديث.
يصعـب كثيـراً على من هو غير مسلم، أو من هو بعيد عن معرفة حالات الـمسلميـن النفسية أن يبني حكماً بشأن الـخلافة وأهميتها وتأثيرها. وعندي أنّ أكثر الـمسلميـن لم يكونوا يدركون من أمر الـخلافة وموقفها إزاء العالم الإسلامي في السنيـن الأخيرة شيئاً حقيقياً راسخاً. فالتاريخ يفيدنا أنّ الـخلافة بطلت في العقود الأخيرة من السنيـن أن تكون قائدة العالم الإسلامي وحاملة لوائهم ومرجع كلمتهم. فإن الـخلفاء العثمانييـن ارتكبوا في الـماضي أموراً كثيرة لا أعتقد أنها كانت معبّرة عن الرأي العام الإسلامي. والـحقيقة هي أنّ الـخلافة كان يجب أن تُنزع من يد الأتراك منذ زمن طويل. ولكن شريعة إبقاء الـخلافة في أقوى سلطان في الإسلام حالت دون ذلك، وتـمسُّك الـمسلميـن بالـحرف حفظ للخلافة كرامتها وأبقى لها تأثيراً كان يقلّ تدريجاً. فلما جاءت الـحرب العالـمية لم يكن قد بقي للخلافة تأثير ما على الإطلاق. وانكسار تركية في الـحرب لم يلاقِ أقلّ استياء في طول العالم الإسلامي وعرضه.
كل ما طالعته بشأن الـخلافة في الصحف الغربية في الـمدة الأخيرة يدل على استغراب عمل حكومة أنقرة بإخراج الـخلافة من تركية. وتتوقع تلك الصحف حدوث نتائج خطيرة وانقلابات عظيمة. وتهتم لـمصير الـخلافة الدول الأوروبية كلها، فإنهم في العالم الغربي لا يزالون يتكلمون عن الـخلافة كما لو كانت لا تزال تلك القوة الهائلة القابضة على أعناق الأربعمائة مليون مسلم على وجه البسيطة، مسيِّرة هذه الـملاييـن كيفما شاءت أهواء الـخليفة وأنى أرادت، بصفته أمير الـمؤمنيـن. لذلك ترى الدول الأوروبية تتسابق إلى إقامة خليفة من عبيدها وصنائعها لكي يكون لها بواسطته نفوذ عند العالم الإسلامي كله.
لقد مضى الزمن الذي كان يحتاج فيه الإسلام إلى قوة تدرأ عنه الاضطهاد من حيث إنه دين، لأن اضطهاد الأديان بعضها بعضاً لم يعد له معنى في القرن الـحاضر. ففي هذا الزمن كل إنسان يـمارس دينه دون أن يفكر أحد بالتعرض له. ولأن الإسلام في هذا الـجيل ليس حركة القصد منها «محاربة الكفار»، لذلك لم يعد هنالك ضرورة لـجعل الـخلافة في أقوى أمير في الإسلام. ومن راقب الـخلافة في سنيها الأخيرة في آل عثمان، وجد أنّ الـخليفة منهم لم يكن الـحاكم بأمره بيـن الـمسلميـن ولا أميرهم الـمطاع. وانتقاض العرب وغيرهم من الأمـم الإسلامية على الأتراك أثناء الـحرب برهان قوي يؤيد هذه النظرية، ويوضح الـحقيقة بأن الـخلافة لم تعد لازمة للإسلام أكثر من لزوم الباباوية للمسيحية، أي بإبقائها قوة روحية لا علاقة لها بالسياسة والاقتصاد وما شاكل. وعلى هذا لا أرى في إخراج الـخلافة من الأتراك غرابة، وأظن أنّ ما يتوقف على هذا العمل من الـحوادث سيكون على غير ما تخمن الدول الغربية.
إنّ النكـبات يعقبها الانقلابات والتنبه. وعلى قدر عِظَم النكبات تعظم الانقلابات. ومن لم يكن ينتظر حدوث انقلابات عظيمة عقيب الـحرب التي هي أروع النكبات التي نزلت بالعالم يحتاج إلى درس التاريخ، وأن يدرسه كثيراً. ومن يريد أن يتغير كل شيء في العالم وأن لا يتغير شيء في الإسلام، فهو يعني أنّ الإسلام وجد جامداً وسيبقى كذلك، أو هو يعني أنّ العالم الإسلامي ليس جزءاً من الإنسانية ليكون له نصيب من تطورها، وهذا غير الـحقيقة. وإنّ التنبه الذي عقب الـحرب قد تناول الشرق كما تناول الغرب، واهتزت له الأمـم كلها من مسيحية وإسلامية وبوذية وغيرها. والإصلاح الذي ظهرت طلائعه في جزء من العالم آخذ في أن يعمَّ العالم كله.
في جملـة مـا تنبهـت إليه الأمـم الإسـلاميـة أنها لـم تعد جماعات دينية تسير بـموجب ما يأمرها به رئيس دينها، كما كانت في بدء إسلامها. بل هي الآن أمـم يتطلب منها هي أن تقرر مصيرها وتعمل ما تراه موافقاً لـحياتها وتقدمها في مضمار العمران. والـحقيقة أنّ وجود الـخلافة في تركية أو عدمه ليس له علاقة جوهرية بحياة الأمـم الإسلامية. ويعود ما علّقه الـمسلمون في العالم على إخراج الـخليفة من تركية من الأهمية إلى أمرين: الأول منهما عدم تعوّدهم مثل هذا الانقلاب، وثانيهما إهمالهم أمر الـخليفة وعدم استعدادهم لتقرير مصيره. وأعتقد أنّ من الـخطأ حسبان اهتمام الـمسلميـن بأمر الـخلافة عائداً إلى ما للخلافة من التأثير على كيانهم وحياتهم القومية. والذي عندي أنّ عمل الأتراك سيفتح أعين سائر الأمـم الإسلامية ويكون مثالاً لها في الاعتماد على قواها هي الأدبية والروحية والـمادية، من حيث إنها أمـم لا من حيث إنها جماعات دينية تأتـمر بأمر زعيم ديني. وقد يتخذ بعضهم انتقال الـخلافة من الأتراك إلى العرب وسيلة للقيام بسعاية منظمة لتقوية سلطة الـخليفة الزمنية وبسط نفوذها في الأصقاع الإسلامية كلها. ولكني أثق من أنّ هذه السعاية تنتهي بالفشل التام، لأن الأمـم الإسلامية كلها التي انتبهت الآن من رقادها أخذت تفهم أنّ اتكالها في شؤونها على الـخلافة لا يفيدها شيئاً، وأنّ الواجب عليها إذا كانت تريد أن تـحيا حياة استقلالية حرة أن تهبّ للعمل متكلة على تضامنها القومي ومقدرتها الروحية والـمادية. وهي تراقب الآن عمل تركية ومصر اللتيـن نهضتا نهوضهما العجيب بعيـن ساهرة وعقل واعٍ، لتتخذ من عملهما مثالاً تنسج على منواله وقدوة صالـحة تنهج منهاجها.
إنّ سلطة الـخلافة لم تعد ضرورية للإسلام في الـجيل الـحاضر، بل هي لا لزوم لها مطلقاً. والعقود الأخيرة من سني الـخلافة ترينا أنّ تـجريد الـخليفة من سلطة التصرف بـملاييـن البشر الـمختلفي الأجناس والأشكال والـمتبايني العوائد والأخلاق واجب لتقدم الأمـم الإسلامية وارتقائها. ولـما كانت الـخلافة لا تعني توحيد البشر بالقوة، ولـما كان الـمذهب الإسلامي غير مهدد من خطر ما فضلاً عن أنه دين معترف به في العالم كله، فإن كل هذه تؤيد وجوب انتزاع كل سلطة من الـخلافة إلا السلطة الروحية البحتة. وهذا ما لا بد من حدوثه إن عاجلاً وإن آجلاً. ويـمكننا الآن أن نقول إنّ تركية ومصر قد نفذتاه، فإنهما تسيران في أعمالهما على أسس القومية والوطنية لا على أسس الديانة والـخلافة. وقد نـجحتا نـجاحاً باهراً سيؤدي إلى اتباع الأمـم الإسلامية الأخرى أعمالهما واقتفاء خطواتهما.
أعتقـد أنّ سقوط الـخلافة في تركية أعظم حادث مؤثر على الشرق عقب الـحرب. فإن هذا العمل الذي لم يسبق له مثيل في الإسلام منذ بدء ظهوره إلى اليوم سيؤدي إلى حركة خواطر تنتاب العالم الإسلامي كله، وتُنبهه إلى أمور كثيرة إذا وضحت له وأدرك حقيقتها أدت إلى حوادث ليست في حسبان الدول الغربية التي تراقب سير مسألة الـخلافة في شخصية الـخليفة وأمياله، لا في يقظة الأمـم الإسلامية ونواياها. ففتح مسألة الـخلافة الآن على هذه الكيفية يبعث بفريق كبير من مفكري الـمسلميـن ومتنوريهم على التساؤل والبحث في أمور كثيرة منها: هل العالم الإسلامي مضطر لأن يبقي الـخلافة في أقوى أمير في الإسلام؟ هل إبقاء السلطة الزمنية في الـخلافة واجب للإسلام ومفيد للأمـم الإسلامية كلها؟ أيجب أن تبقى الأمـم الإسلامية عاملة كجماعات دينية لا تفعل إلا ما يوحيه إليها الـخليفة؟ هل يجوز لـخليفة ذي صبغة سياسية وطنية أن يتصرف بـملاييـن البشر الـمسلميـن حسبما تدفعه الروح السياسية أو الوطنية الـمتأثر هو بها؟ هل فصل الدين عن السياسة بتاتاً يضر بالإسلام؟ وأظن أنه متى ابتدأ الـمفكرون والـمتنورون يعللون هذه الـمسائل ويحللونها، تـمكنوا من إخراج حكم نهائي بشأن الـخلافة ومصيرها يقضي بتجريدها من السلطة الزمنية ومنع الدين من التدخل في الأمور السياسية، داعين الأمـم الإسلامية إلى التمشي على الـخطة التي جرت عليها الأمة التركية في هذا الأمر.
إنّ سلطة الـخلافة السابقة التي كانت لـخلفاء الأتراك، كانت في كثير من الأوقات سلاح إنكلترة الوحيد في منع الهنود من الثورة عليها وإعلان استقلالهم. فكان إذا حدّثت الهنود الـمسلميـن أنفسهم بشيء من ذلك، أسرعت إنكلترة إلى سلطان الأتراك وطلبت منه أن يرسل منشوراً يدعو فيه مسلمي الهند إلى الطاعة للإنكليز والإخلاد إلى السكينة. فكانت مناشير الـخليفة سلاحاً سحرياً في يد إنكلترة تخفت به صوت الـحرية وتهدّىء براكين الثورة في مستعمراتها. ومن هذا يبدو لك جلياً كم هي خطرة سلطة الـخلافة على الأمـم الإسلامية. فإذا راجع مفكرو الأمـم الإسلامية التاريخ، أمكنهم التثبت من وجوب نزع السلطة الزمنية من الـخلافة. ولا أخالهم إلا فاعليـن.
إنّ الـحسيـن([1]) هو الأمير الوحيد بيـن أمراء العالم الإسلامي الذي بايعه الـخلافة رسمياً جزء من الإسلام. وأرجّح أنّ الـخلافة ستستقر فيه لأنه أَوْلى بها من كل أمير آخر بعد الأتراك. ومع ذلك فهنالك كثير من الأمراء غيره قد رشحوا أنفسهم أو رشحتهم الدول التي لها مصالح استعمارية في بعض أمـم الإسلام للخلافة. وحتى الساعة لا يزال النزاع قائماً دون أن يصدر العالم الإسلامي كله حكمه في هذه الـمسألة. وعندي أنّ إطالة أمر هذا النزاع أمر مفيد جداً للأمـم الإسلامية، لأنه ينبهها ويفسح لها الـمجال للتفكير في الأمر قبل إعلان إرادتها، والإسراع في إقامة خليفة جديد ليس له داعٍ الآن. لذلك يـمكن تلك الأمـم أن تفكر ملياً في الطريقة الـمثلى التي يجب أن تتمشى عليها إزاء هذه الـمسألة.
التنازع على الـخلافة يفيد الأمـم الإسلامية، لأنه يفتح عيونها أكثر فأكثر ويريها طمع الآخرين بها وخطر سلطة الـخلافة على حياتها القومية والسياسية، ويجعلها أن تتنبه إلى أنها ليست عائشة بالدين فقط لكي يكون لرئيس دينها الـحق بالتصرف بحياتها كما يشاء.
ليطل التنازع على الـخلافة إلى ما شاء الله، لأنه إذا لم يكن العالم الإسلامي على استعداد لـخلع نير الـخلافة عن عنقه فإن هذا التنازع سيجعله يستعد له. وأظن أنه لا يـمضي وقت طويل حتى يصبح الـخليفة نائباً روحياً لا حق له بالـخروج عن دائرة وظيفته الروحية. ومن يعش يرَ.
أنطون سعاده
[1]الـحسين بن علي (1856-1931) شريف مكة والـحجاز. أصبح ملك الـحجاز بعد إعلان الثورة العربية (1916) وطرد الأتراك من الجزيرة العربية.