حضرة رئيس مجلس النواب الـمحترم،
مهما اختلفت العقائد السياسية بين رجل ورجل فالضمير علينا واجب والـمثالية حق وللإنسانية والرسالة الـحزبية في عنقنا مسؤولية لا يتعرف عليها إلا أصحابها وهم صفوة مختارة في هذا الوجود ولأجلهم سخر هذا الوجود.
فإنني كمواطن وكإنسان وكمفكر يؤمن بقيم هي فوق الـمعتقدات الـمجتمعية أطلب استجواب الـحكومة اللبنانية بإسمي وبإسم الـجيل الـمخلص حول الظروف الغامضة التي أحاطت القضاء على الأستاذ انطون سعاده، رئيس الـحزب القومي الاجتماعي إثر عملية هي من السرعة بحيث كانت أشبه بعملية تطهير إدارية بعد أن تألبت عليه عناصر الرجعية والطائفية والـمصلحية وهو رجل عرف عنه أنه رجل عقيدة ومؤسس مدرسة فكرية كبيرة وباعث نهضة في أنحاء الشرق قد يندر لها مثيل..
إن الشعب اللبناني لا يزال تـحت وطأة كابوس الألم والـحيرة والامتعاض من جراء التدابير الـمستغربة التي اتخذتها الـحكومة اللبنانية بحق رئيس الـحزب القومي الاجتماعي.
أما النص الكامل لهذا الاستجواب فسيسلم إليكم عما قريب مع رجائي تبليغ الـحكومة والـمسؤولين أن عمليات التخلص من كبار الشخصيات والقادة التقدميين لا تفيد شيئاً وقد تأتي عكس رغبات الـمتولين. فالـجيل الواعي الـجديد لا يخاف الـموت والـموت غبطة وإشراق وانعتاق لأنه السبيل لتوحيد الشخصية مع الإنسانية ومع ذات الوجود.
التضحية تـجلب التضحية والإيـمان الذي كان عليه من بنيه «شهادة بذكيه»([1]) بعين الـحقيقة ويدفعه نحو الغلبة الساحقة ونحو الانتصار.
وقد قال سعاده: الـحق انتصار يشهد للنفوس التي انتصرت بأنها أصابت ويشهد على النفوس التي انخذلت في الباطل أنها أخطأت. والإنتصار هو الانتصار الأخير- هو الانتصار في صميم الـمجتمع بيقينه في ما هو الـحق، وقيمة الـحقيقة والـخير والـجمال مادية» ...لذلك هي قيم انتصار الروح- انتصار النفسية القوية الـجميلة.
كمال جنبلاط
حضرة رئيس الـمجلس النيابي الـمحترم،
بـما أنه قد بطل حق النائب في نشر أفكاره وبطل حقه بالـمناقشة الـحرة، كما أظهرت ذلك بوضوح الـجلسة الـماضية، وبـما أن اللوائح الاستجوابية الـخطية قد أصبحت الوسيلة الوحيدة لـمناقشة أعمال الـحكومة، وبـما أنه سبق لنا وأوضحنا أنه، مهما اختلفت العقائد أو اتفقت بيننا وبين غيرنا من الـمواطنين فحقهم البديهي في الدفاع عن أنفسهم يجب أن يؤمَّنْ وذلك دون التعرض إلى جوهر القضية.
نطلب استجواب الـحكومة حول كيفية خرقها القانون في محاكمة السيد انطون سعاده، وذلك وفاء بوعدنا للرأي العام اللبناني والعربي والدولي بأن نعلن ما استتر من هذه القضية الشاذة:
كيف خرق القانون
يتوج هذه الأعمال الاعتباطية الاستفزازية الطريقة الـمنكرة الـمتبعة في محاكمة زعيم القوميين، وهي كما قلنا، من حيث الشكل أقرب إلى عملية تطهير إدارية يتأفف منها كل ضمير وسنترك مواد القانون العسكري وحدها تتكلم:
وأولى الـمخالفات أن الـمحاكمة جرت أمام الـمحكمة العسكرية بفضل تطبيق قانون الطوارئ الذي أعلن خصيصاً لـحرب فلسطين ولا يهدف إلا إلى ما يتعلق بهذه الـحرب. وقد تهادنت الـحكومة اللبنانية واسرائيل وتعاقدتا وقريباً تتصالـحان، وفي الواقع لم تتحاربا لتتم هذه الـمصالـحة. فإن حريتنا ويا للأسف كانت مسرحية من أظلم مسرحيات التاريخ وأهزلها....وقد ألغت سوريا قانون الطوارئ بعد أن وقعت الهدنة مع اسرئيل.
ولم يطبق هذا القانون في لبنان إلا على رئيس الـحزب القومي وأعضائه، والأجدر كان أن يحاكم الـجواسيس أمثال كامل الـحسين ورفاقه وأصدقائه، على أساس هذا القانون لا أن تـحميهم يد الـمسؤولين، وأحرى بحكومات الدول العربية ومن ضمنها لبنان بعد، أن تـمثل أمام الـمحكمة العسكرية لتحاكم على هذا الأساس بتهمة إخلالها بالواجب الـمترتب عليها.
إذن لقد تـجاوزت الـحكومة صلاحيتها الـمعنوية في استعمال هذا القانون في قضية لم يوضع لأجلها هذا القانون، فخرقت بذلك روح القانون وشرعة القانون وغاية القانون.
ويجب التنويه بإن قانون الطوارئ الذي استندت إليه الـحكومة اللبنانية في ملاحقة الحـزب القومي هو قرار 34 ل.ر الصادر في 8 شباط سنة 6391 في عهد دي مرتيل، ويهدف إلى الـمحافظة على سلامة الـجيوش الإفرنسية الـمحتلة لسوريا ولبنان- أي بالتالي الـمحافظة على وضع الانتداب ذاته- فتكون الـحكومة اللبنانية قد لـجأت إلى قرار وضع خصيصاً لـحماية جيوش الاستعمار.
قانون غير قانوني
وإذا صح من قبلها استخدام وتنفيذ هذا القانون تـجاوزاً وتشابهاً واستنابه، فلا يجوز إعلان حالة الطوارئ في لبنان إلا بـموجب قانون يقره الـمجلس النيابي اللبناني كما يفهم صراحة من القرار 42([2]) ل.ر الـمذكور، وكما تنص على ذلك جميع القوانين الـمعروفة خاصة في فرنسا، كما يشير علينا التشبه بها وتقليدها في مثل هذه الـحال، ونظراً للتدابير الـخطيرة التي ينص عليها القرار والتي تتعلق بحريات وحقوق الإنسان أساسية وفي طليعتها:
- حق فرض التكاليف العسكرية.
- حق التحري
- حق إعطاء الأوامر بتسليم الأسلحة والذخائر والتفتيش عنها وأخذها.
- حق منع الاجتماعات والنشرات الـمخلّة بالأمن.
- حق إبعاد الـمشبوهين «الـمادة 2 من القرار 42 ل.ر»
وجميع هذه التدابير تتعارض في الواقع مع الدستور ومع القوانين العامة الـمرعية، وهي تدابير استثنائية شاذة، لا يجوز إقرارها من قبل السلطة التنفيذية إلا استناداً إلى قانون يصدقه الـمجلس النيابي- وهي السلطة الوحيدة التي يحق لها التضييق في مدى الـحريات العامة.
وبـما أن الـحكومة اللبنانية قد اتخذت لها هذه السلطات الاستثنائية الشاذة بـموجب مرسوم بسيط صدقه مجلس الوزراء في 31 أيار 8491، وبـما أن هذا الـمرسوم لا يقوم مقام القانون والتعاقد الدولي والقانوني الـمعروف، فإعلان قرار الطوارئ هذا بـمرسوم بسيط هو باطل إذن من الأساس وقد تـجاوزت فيه الـحكومة صلاحياتها في إعلانه...وكل محاكمة تستند كلياً أو جزئياً للتدابير الاستثنائية والشاذة الـمنصوص عنها في قرار دي مرتيل اـلمنوه عنه، يشوبها من الشوائب القانونية ما قد يجعلها باطلة من الأساس.
ويصح القول نفسه في محاكمة السيد انطون سعاده التي جرت استناداً إلى القانون العسكري من جهة القرار 42 ل.ر والباطل مفعوله وإعلانه من جهة ثانية.
اقتراح
أما سائر الـمخالفات فآتى على ذكرها فيما يلي وقد وضعناها بشكل اقتراح نأمل طرحه على التصويت العلني، وفي كل حال سنرفعه إلى هيئة الأمـم المتحدة وإلى جمعية حقوق الإنسان.
يجب لأجل صحة معاملات التحقيق والـمحاكمة أمام القضاء العسكري في القضايا الـجنائية:
1- أن يجري قاضي التحقيق تـحقيقاً في القضية ويصدر على أثره قراراً بالإحالة أمام القضاء العسكري. الـمادة 72 من قانون العقوبات العسكري تنص:«بعد أن تؤخذ مطالعة مفوض الـحكومة، يصدر الـمحقق العسكري قراراً بـمنع الـمحاكمة أو بالإحالة أمام الـمحكمة العسكرية وسواء ذلك في الـجنايات وفي الـجنح، ويشتمل قرار الإحالة على مذكرة إلقاء القبض في الـمواد الجنائية.
2- أن يبلغ مفوض الـحكومة مذكرة الاتهام إلى الـمتهم: الـمادة 36:«إذا كانت القضية قد جرى فيها تـحقيق استنطاقي، يبلغ مفوض الـحكومة الـمتهمين قرار الإحالة في الـحال ويبلغهم كذلك مذكرة الاتهام في الـمواد الـجنائية.
3- أن يبلغ مفوض الـحكومة ورقة جلب إلى الـمتهم قبل انعقاد الـجلسة بثلاثة أيام على الأقل. وهذه الورقة يجب أن تتضمن، ما عدا تعيين موعد الـمحاكمة، بيان النصوص القانونية وأسماء الشهود الـمطلوبين من الـحق العام: الـمادة 46: «يبلغ مفوض الـحكومة أوراق الـجلب إلى الـمتهمين قبل الـجلسة بثلاثة أيام على الأقل. يدرج في ورقة الـجلب النصوص القانونية وأسماء الشهود الـمطلوبين من قبل الـحق العام».
4- أن يتحقق مفوض الـحكومة قبل موعد الـجلسة بثلاثة أيام، من أن الـمتهم قد اختار من يدافع عنه، الـمادة 44:«على مفوض الـحكومة أن يتحقق قبل موعد الـجلسة بثلاثة أيام من أن الـمتهم قد اختار من يدافع عنه، حتى إذا لم يحضر محامياً يدافع عنه أو كان محاميه يتعذر عليه الدفاع، يعين له مفوض الـحكومة محامياً من بين الضباط الـمنصوص عليهم في الـمادة السابقة أو من بين الـمحامين الذين يعينهم النقيب لهذه الغاية».
5- أن يوضع ملف القضية تـحت تصرف الـمحامي قبل موعد الـجلسة بأربع وعشرين ساعة على الأقل: الـمادة 64:«يوضع ملف القضية تـحت تصرف الـمحامي قبل موعد الـجلسة بأربع وعشرين ساعة على الأقل وللمحامي أن يأخذ صوراً عن الأوراق برمتها ما عدا الأوراق السرية.
6- في حالة الـحكم بالإعدام، أن لا ينفذ هذا الـحكم إلا بعد أخذ رأي لـجنة العفو وموافقة رئيس الـجمهورية، وبعد أن يتوفر لذلك الوقت الكافي لتمحيص أوراق الدعوى وهي تبلغ الـمئات وأعمال البصيرة والضمير.
وإذا جمعنا الـمهل التي ينص عنها القانون بحدها الأدنى، وذلك من إلقاء القبض على الـمتهم إلى أول جلسة تعقدها الـمحكمة للنظر بالدعوى لبلغت هذه الـمهل سبعة أيام على الأقل. وإذا أضفنا إلى هذا الـمجموع مدة جلسات الـمحكمة العسكرية نفسها- ويستحيل أن ينجز القضاة درس وتـمحيص قضية بهذه الضخامة والـخطورة في جلسة واحدة – وأضفنا إلى كل هذا مدة الاستنطاق وإحضار الشهود والاستماع إليهم وتـمحيص أوراق الدعوى والـمرافعة بها والـحكم على الـمتهمين ومن ثم تـمحيص ملف الدعوى من قبل لجـنة العفو وتـحويله للدرس والتصديق من قبل فخامة الرئيس، لتوصلنا في الـحد الأدنى لـمهلة لا تقل عن الـخمسة عشر يوماً على الأقل.
وأخيراً، بـما أن بين التهم التي وجهتها السلطات إلى السيد سعاده هي التعاون مع اسرائيل ومع دولة أجنبية معينة، وبـما أن هذه التهم لم يتسع الوقت لإثارتها في الـمحكمة فتكون إذن عناصر التهمة التي استند إليها حكم الإعدام ناقصة، وبـما أنه كان يسهل للمتهم أن يرد التهمة لأصحابها كما سنوضحه في استجواب لاحق:
فسيستحيل إذن مراعاة الأحكام الواردة أعلاه في تـحقيق ومحاكمة استغرقت أقل من نهار واحد فحق الدفاع بـمحاكمة انطون سعاده قد خرق إذن.
وإننا نطالب برفع القضية إلى لـجنة حقوق الإنسان وإلى الـجمعية العامة للأمـم الـمتحدة كي تـحكم هي بدورها على هذه الـحكومة التي امتهنت الشخصية البشرية وحقوقها البديهية.
وإننا نهنئ القضاة الذين رفضوا تصديق حكم الإعدام بـمثل التسرع الذي بدر، فلهم شكر البلاد لأنهم أنقذوا سمعة القضاء وسمعة لبنان.
وإننا نرد بوجه الـحكومة وبوجه الذين تعاونوا وإياها في هذه العملية الإدارية ونردد ما قلنا- يوم محاكمة سعاده- لـمسؤول كبير طلبنا منه حقاً لا عفواً وعدالة ورحمة:
«أنتم تتذرعون بالقانون وتهزأون بالعدالة!..»
وفي الواقع وبعد أن تـم لكم ما شئتم علينا أن نعلن:
«لقد هزأتـم أيضاً بالقانون»
نكتفي اليوم بتبيان مخالفة القانون في قضية سعاده وسنتقدم إلى الـمجلس باستحواب لاحق نوضح فيه أن قضية سعاده هي قضية شخصية وقضية دولية أجنبية.
كمال جنبلاط
حضرة رئيس الـمجلس النيابي اللبناني،
آمل تلاوة استجوابي هذا ومناقشته في أول جلسة يعقدها الـمجلس النيابي:
حضرة رئيس الـحكومة اللبنانية،
بـما أن حكومتكم ما زالت تتهرب من الـجواب على استجوابي الـمقدم والـمتعلق بقضية سعاده، رغم وعدكم الصريح بالإدلاء بـما يلزم بعد أن تتم محاكمة جميع القوميين.
وبـما أن هذه الـمحاكمة قد تـمت بجميع فروعها ومراحلها، وما زلتم تتهربون من الوعد ومن الـجواب، فإنني أرى من واجبي، تنفيذاً للوعد الذي قطعته للرأي العام، أن أتقدم بلائحتي الإستجوابية هذه وهي القسم الثالث والأخير من الكلمة التي كنت هيئتها لألقيها في جلسة الـمناقشة لو تيسرت هذه الـمناقشة، لو لم تستعملوا أكبر جهودكم وأقصى نفوذكم وتأثيركم بالتعاون مع رئيس الـمجلس النيابي للحؤول دون هذه الـمناقشة وللتهرب منها..وهي مخالفة لـجميع الأصول الـمرعية في بلدان العالم الثالث ذات النظام البرجوازي البرلـماني والديـمقراطي الـحر، وهي بادرة لم تتعرف إليها حتى حكومات الانتداب الـماضية. وبهذا فقد دللت الـحكومة طبعاً إذا كان هناك من حاجة إلى برهان جديد أن في لبنان، كما يدعي بيان الـحكومة الصادر أثر مصرع السيد انطون سعاده «كانت حرية الرأي وحرية الاجتماع في طليعة الـمبادئ التي اعتنقتها الحـكومة اللبنانية في عهد الاستقلال والـحكم الوطني». وسنأتي على ذكر هذا البيان الغريب فيما بعد.
أظهرنا في اللائحة الاستجوابية السابقة كيف خرق القانون في ملاحقة الـحزب القومي وفي القضاء على رئيسه وعلى بعض أفراده، فأوضحنا ما يعتبره القانون العناصر الـمادية للجريـمة كما يوضحها قانون الـجزاء اللبناني، وسنوضح فيما يلي العناصر الـمعنوية والدوافع الشخصية للجريـمة.
توضيح بدائي:
أننا لا نقصد من وراء استجوابنا إحراج الـحكومة في الـجواب أو في عدم الـجواب، فهذا عندنا سيان،
ولا نبغي استدراجها لنيل الثقة أو لفقدانها، وأي ثقة تعادل نقضها لثقتها بالـحقوق البشرية الأساسية وبالتالي لثقتها بنفسها وقد فقدت ثقة شعب بأسره. وقد أصبح من السخرية والهزء بـمكان أن توضع مسألة الثقة البرلـمانية على بساط البحث والـمناقشة والتصويت...وفي الواقع نشعر ببعض الألفة والصعوبة الـمعنوية والـحرج، لأن الـحكومة قد حكمت على ذاتها مسبقاً بأنها غير جديرة أن تتولى تـحقيق نظام ديمقراطي برلـماني يكرس حق الـمناقشة والـجواب.
نهاية الـمؤمنين:
ولا يصح أيضاً أن نتجادل وأياها في مصرع رجل- مهما اختلفت معنا آراؤه أو توافقت- فقد أدى لها الشهادة الكاملة من يقينه، وتقاعس غيره عن أداء مثلها، فعلّم كل رجل عقيدة وفي مؤخرتهم كل من يدعي هذا من ساسة لبنان، كيف يكون التجرد لقضية وكيف تكون الأمانة لها فكانت نهايته، على هذه البساطة وهذا التسليم وهذه الشجاعة الـمعنوية، نهاية الـمؤمنين..
وفي الواقع يستحيل على الـحكومة أن تـجادل وأن تناقش وأن تدافع عن نفسها وأن تـجيب، فقد أدانت نفسها بـما فعلته من قبل، إذ قضت بشكل سري وبطريقة منكرة على صاحب العلاقة والشاهد الأساسي الوحيد الذي كان باستطاعته وحده أن يناقشها وأن يجادلها وأن يدافع وأن يجيب، فيناهض الـحجة بالـحجة، ويقارن الوثيقة بالوثيقة والـحقيقة لا يجلوها الإعدام السري ولا يجاب على الفكر إلا بالفكر، فسقط إذن حق هذه الـحكومة في الدفاع عن نفسها وقد حرمت خصمها هذا الـحق، وبطل سابقاً الدليل منها والـحجة والبرهان بعد أن منعته عن سواها وعن خصمها. وبالعكس فإننا نعلن أنه قد حققت في نظرنا وفي نظر الرأي العام الواعي قضية الرجل الراحل واتهاماته الصريحة التي وجهها هو بدوره للحكومة اللبنانية والتي نصت على اتصال هذه الـحكومة الـمباشر باسرائيل وببعض الـمراجع الأجنبية، فثبتت عليها التهمة والإدانة، بعد أن حاولت أن تخنق صوت الـمتهم الضعيف الداوي رغم كل شيء وأن تـمنعه من إعلان معلوماته وأسرار دفاعه.
رأي الـجيل الـجديد
لهذه الاعتبارات جميعها ولغيرها يهمني أن أوضح أنني أنـما قصدت من هذا الاستجواب فقط تبيان رأيي وحكمي، وهو رأي الـجيل الواعي وحكمه في قضية تتطلب منا الصراحة والـحق، كحزبي مسؤول وكرجل فكر وكإنسان له من نفسه ولغيره كرامة.
فهذا الاستجواب إن هو إلا توضيح هذه الإدانة وهذا الـحكم، بإسم الشعب اللبناني وبإسم الضمير الإنساني وبإسم قيم الـحضارة العالـمية التي نؤمن بها، فنسجله ونعلنه وننشره على الـملأ وقد يأتي يوم ينفذ فيه هذا الـحكم الرهيب وتتحقق هذه الإدانة..وقد يكون ذلك على يد نفر مسؤول وعلى عاتق جيل تفتح لـمصيره، يريد أن يحيا أو يريد أن يـموت، أن يفضل الـحياة على العيش الـخانع الهادئ أم العيش على الـحياة، كما يقول سعاده.
مصلحتان
أنني سأظهر فيما يلي ما استتر من قضية الـحزب القومي السوري الاجتماعي من عناصر حقيقية موضوعية لعبت دورها في هذه الـمأساة التي شهدنا فصولها، ونوجز هذه العناصر بعاملين أساسيين:
1- الـمصلحة الشخصية والتناحر الشخصي والعاطفية الذاتية الـمكبوتة..
2- الـمصلحة الدولية الأجنبية..
وإذ ذاك، لا يستغرب الـمواطنون اللبنانيون والعرب على السواء، كما استغربوا، ولا صحف الـمهجر ولا صحف أوروبا والولايات الـمتحدة وحكومات الدول الراقية، طابع الشدة والتسرع والاعتباطية الذي اتسمت به حملة الـحكومة اللبنانية على الـحزب القومي وخاصة على زعيمه.
ولا يبرر هذه التدابير تبريراً كاملاً، في نظرنا، إلا خوف الـمسؤولين من انقلاب في لبنان على غرار سوريا، ولم ينفتح بعد الشعب اللبناني على حيوية القوة الـمعنوية أو على حيوية العنف وجدوى العنف في حلبة الصراع والتقدم- إذا لم تتوفر هذه القوة الـمعنوية. ولا يبرر هذه التدابير قرب تـجديد الرئاسة وضرورة إلقاء الرهبة في نفوس الضعفاء، ولو كان لهذه الـمبررات أثرها في قضية الـحزب القومي كما أثيرت.
فلقد عودنا أكثر الـمسؤولين في لبنان أن لا يعملوا بشدة وبحزم وبسرعة إلا في الـحالتين اللتين أشرنا إليهما: الـمصلحة الشخصية والذاتية الـمستترة أو الظاهرة والـمصلحة الدولية، أو كلتيهما.
سنكشف عن كل هذا في هذه النبذة وسنشير بعد ذلك إلى قضايا أخرى لاحقة لها وعالقة بها.
وإننا نعلن منذ البدء أننا لن نتعرض لـحكم الـمحكمة من حيث النص والأساس احتراماً للقانون، ولأن ما قيل حوله يعرفه القاصي والداني ولأن القضية تهمنا هنا من حيث الشكل والأسلوب الـمتبع، ولا نتحسس بها، بالدرجة نفسها، من حيث العاقبة الـمؤلـمة والنتيجة- ولو كان الرجل رجل فكر ولو كانت هي سابقة خطرة- وفي اعتقادنا أنها لشرف كبير يرتفع به كل من يستطيع أن يضع حياته ومصيره في كفة، والقضية التي يعمل لها في كفة متوازية، وأن يضحي بكليته ليربح، في الـحالتين إما الاستشهاد الـمضيء أو النصر الساحق...ولكن على هؤلاء الذين يلعبون بكليتهم هذه اللعبة الكلية- وهم صفوة مختارة في هذا الوجود- ألا ينتظروا إلا الـموت الـمحقق أو الظفر، ولا سبيل للتراجع ولا سبيل للتهرب ولا سبيل لاستجداء العفو والتسامح- ولا يعفو عند الـمقدرة إلا من أحيت نفسه وأضاءت ضميره نعمة لا تتعرف إليها النفوس الـمريضة الضعيفة.
قضية سعاده قضية شخصية
وأول ما يجب إظهاره أن قضية سعاده وحزبه ليست قضية عقائدية كما صورتها الـحكومة بل هي قضية محض شخصية.
فقد سبق لهذه الـحكومة ولغيرها من الـحكومات اللبنانية الـمتتالية في عهد الـحكم الوطني أن تعاونت مع الـحزب ومع زعيمه تعاوناً كاملاً، وقد سبق للكتلة الدستورية ولأكثر أعضائها البارزين أن تعاونوا وتآزروا في ظروف عديدة، كما تعاون معه من قبل الرئيس خير الدين الأحدب في عهد فخامة السيد اميل اده. وأعضاء الكتلة الدستورية التي كان يرئسها فخامة رئيس الـجمهورية الـحالي مدينون لسعاده، مديونون لسعاده وحزبه في نـجاحهم في أكثر الانتخابات التي جرت في لبنان وخاصة في اقتراع سنة 3491 فلولاه ولولا مساندة حزبه الشديدة الظاهرة لـما كانوا على ما هم عليه اليوم، ولـما انتشلوا من هوة البالوتاج السحيقة. وكانت علاقة بعضهم من الوثوق بالـحزب لدرجة أنهم اندرجوا سراً في سلكه وقد يكون منهم وزير حالي وبضعة نواب، وكانت تسهل شؤون الـحزب في الدولة على يدهم، وبهذا كانت هذه الـحكومات وهؤلاء الأعضاء والسياسيون يسهلون عمل الـحزب ويسمحون له بالإجتماعات الـجماهيرية، وقد سلمه وزير داخلية سابق في وزارة صلحية كريـمة العلم والـخبر الـمنصوص عليه في القانون... ولا بد من التدليل ولو عرضاً بـموقف الـحزب الـمشرف في مناهضة الانتداب وفي حوادث 3491 وكان البطل أديب البعيني منهم رحمه الله، وكان منهم أيضاً سعيد أبو فخر الدين الشهيد الوحيد الذي وقع في حوادث بشامون...
وفي سنة 7491 تعاون رئيس الكتلة الدستورية الـمستقلة وشقيق فخامة رئيس الـجمهورية مع رئيس الـحزب القومي الاجتماعي، ولا غضاضة في ذلك طالـما أن الـحزب معترف به رسمياً.
ولكن يؤسف، في كل هذه الـحالات أن الـمكافأة هي أيضاً كانت على قدر الاستحقاق وعلى قدر التعاون وعلى قدر الـمساندة وعلى قدر الـخدمات- جزاء سنمّار!... وتقضي بذلك طبعاً الصفات العربية الأصيلة والـمناقبية العربية التي ينتسب إليها في كل حين من أقاموا أنفسهم على العروبة في لبنان أوصياء.
عقيدته وعقيدتهم
قلنا أن قضية سعاده وحزبه هي قضية شخصية لا عقائدية. وللرجل عقيدة صريحة شاملة أوضحها وشرحها ونشرها طيلة ست عشرة سنة من حياته الـحزبية في كتب وأبحاث وخطب ومقالات وردود وبيانات له ولـجماعة من صحبه الـمفكرين، وهذه الـمجموعة الـمكتبية تشكل وحدها مدرسة فكرية كبرى، وإذا كان ليس هنا من مجال لبحث هذه العقيدة وتوضيح أسسها وانتقادها فهناك مجال للتساؤل على كل حال: ما هي العقيدة التي يتذرع بها أخصامه من الذين يدعون القومية العربية...وإذا لم نتعرض هنا للخطب والـمقالات والتصريحات التي كان ينشرها هؤلاء، إذا ما اكتفينا بذكر هذا الـخطاب الغريب الذي ألقاه حضرة رئيس الوزراء الـحالي متيمناً برأس سنة 8491، ومتغنياً فيه بأمجاد لبنان الفينيقي الكنعاني ما قبل السيد الـمسيح وبعده- وكانت فترة دقيقة لـمست فيها الـحكومة ضرورة إرضاء رأي عام معين في البلاد- هذا الـخطاب الغريب في بابه والذي لم يرد فيه ذكر للعروبة ولا للوجه العربي كأنـما كان يقصد التنصل منها (والوجوه تلبس في أوقاتها)، إذا لم نعتمد تذكير رئيس الـحكومة بالـماضي الذي كان يتنكر فيه حضرته للبنان (الشاطئ السوري) ويطالب بالوحدة السورية التامة، وبالامبراطورية العربية إلى غير ذلك من الأنغام التي تعودناها من أكثر السلبيين خارج الـحكم، والتي كانت تطرب لها بعض الـجماهير اللاواعية، إذا ما حصرنا بحثنا وانتقادنا ببيان الـحكومة الأخير الصادر إثر مصرع سعاده والذي تدعي فيه حرفياً: إن الـحزب السوري القومي الاجتماعي الذي تزعمه منذ تأسيسه انطون خليل سعاده لم يكن يدين في الأصل بالعقيدة القومية الوطنية اللبنانية ولا بالعروبة، يتبين لنا من هذه العبارة هذا التحديد: أن لا معنى لهذا التحديد على الاطلاق. وإذا جاز للرجل الساذج البسيط أن يجمع بين القومية والوطنية جمعا تكون فيه الوطنية صفة للقومية، فلا يجوز ذلك من قادة السياسة الذين يريدون أنفسهم زعماء القضية اللبنانية والقضية الاستقلالية العربية...وإذا ما ترجمت هذه الألفاظ تبينت الغرابة فيها: La Doctrine Nationale Patriotique Libanaise وهي من التعابير التي لا معنى لها...وقد حدد سعاده (نحن نعترف أن الفضل الأول له في تـحديد هذه الـمفاهيم في اللغة العربية) القومية والوطنية بقوله:
«القومية إذن، هي يقظة الأمة وتنبهها لوحدة حياتها ولشخصيتها ومـميزاتها ولوحدة مصيرها. أنها عصبية الأمة. وقد تلتبس أحياناً بالوطنية من القومية (أو أحد مقوماتها) ولأن الوطن أقوى عامل من عوامل نشوء الأمة وأهم عنصر من عناصرها. أنها الوجدان العميق الـحي الفاهم الـخير العام الـمولد محبة الوطن والتعاون الداخلي بالنظر لدفع الأخطار التي قد تـحدث للأمة ولتوسيع مواردها، الـموحد الشعور بوحدة الـمصالح الحيوية والنفسية، الـمريد استمرار الـحياة واستجادة الـحياة بالتعصب لهذه الـحياة الـجامعة التي يعني فلاحها فلاح الـمجموع وخذلانها خذلانه.
«القومية هي الروحية الواحدة أو الشعور الواحد الـمنبثق من الأمة، من وحدة الـحياة في مجرى الزمان، القومية ليست مجرد عصبية هوجاء أو نعرة متولدة من اعتقادات أولية أو دينية. أنها ليست نوعاً من الطوطمية، أو نعرة دموية سلالية، بل شعور خفي صادق وعواطف حية وحنو وثيق على الـحياة التي عهدها الإنسان. أنها عوامل نفسية منبثقة من روابط الـحياة الاجتماعية الـموروثة والـمعهودة، قد تطغى عليها في ضعف تنبهها، زعازع الدعاوات والاعتقادات السياسية ولكنها لا تلبث أن تستيقظ في سكون الليل وساعات التأمل والنجوى، أو في خطرات الإنسان في برية وطنه أو متى تذكر برية وطنه.
«وأن الوطن وبريته، حيث فتح الـمرء عينيه للنور وورث مزاج الطبيعة وتعلقت حياته بأسبابها، هما أقوى عناصر هذه الظاهرة النفسية الاجتماعية التي هي القومية».
وللمقابلة والتاريخ نذكر أننا طلبنا يوماً مثل هذا الإيضاح من حضرة رئيس الـحكومة سنة 4491 في بحث خاص طالـما كان يتغنى بالقومية وبالوطنية، فحار جواباً ثم قال: القومية هي الناسيوناليسم Nationalisme كمن يحدد الكلمة بـمرادفها في لغة أجنبية.
القومية اللبنانية
ثم يذكر البيان الـحكومي الغريب العجيب « العقيدة اللبنانية الصحيحة» ويذكرها هذه الـمرة منفصلة عن العروبة ولا نعلم السبب لهذا الفصل...وبعد، فما هي هذه القومية الوطنية اللبنانية الصرف؟ فهل تعني الـحكومة ما يحدده العلم الاجتماعي بهذه الكلمة؟ إذا كان هذا، تكون قد اعترفت صراحة بالـمقومات والعناصر التي ترتكز عليها هذه القومية اللبنانية والتي لولاها لـما كانت- والقومية ظاهرة لا محيد عنها لتحسس الأمة بذاتها- وبالتالي يكون هذا الاعتراف إقراراً راهناً بأن الشعب اللبناني هو أمة مـميزة عن غيرها من الشعوب العربية- أي أنها «جماعة من البشر تـحيا حياة موحدة الـمصالح، موحدة الـمصير، موحدة العوامل النفسية الـمادية في قطر معين يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التطور خصائص ومزايا تـميزها عن غيرها من الـجماعات» وإذن استحق الرئيس الصلح تهنئتنا لإنضوائه تـحت علم النظرية التي تقول بها الكتائب اللبنانية مثلاً والكتلة الوطنية أو الأحزاب اللبنانية الأخرى التي لم تتمكن بعد من تـحديدها تـماماً في كتب ودراسات علمية موضوعية.
وكيف تستطيع الـحكومة ويستطيع رئيسها أن يوفق إذا ذاك القول بين اللبنانية الصحيحة واعتقاده الشخصي الذي يدلي به لـمن يلج سره، أن لا وجود إلا للقومية العربية (وهي ظاهرة للأمة العربية)- والقوميتان اللبنانية والعربية متناقضتان- كيف يـمكن هذا التوفيق وهذا الإنسجام إلا لـمن أصبحت في نظره العروبة مجرد تعاون دولي واتـجاه عاطفي وتوجيه سياسي خارجي، ويبطل إذن حق دولته وحق غيره بأن يدعي تزعم العروبة والكلام بإسم العروبة والسعي للعروبة. ويتلاقى إذ ذاك حتماً ويتوافق- وهي من سخرية القدر- مع انطون سعاده ذاته على صعيد واحد وعلى مستوى واحد، والفرق بين دولته وبين خصمه: إن الـخصم قد توضحت له هذه الـمفاهيم وهذه التحديدات وهذه القضية.
ونذكر هنا على سبيل التلاقي والاتفاق بين الرجل والرجل ما ورد في مقال لسعاده حول «حاربنا العروبة الوهمية لنقيم العروبة الـحقيقية» إذ قال حرفياً:«فمقالي» «العروبة أفلست» اشتمل على عبارات صريحة لقولي بواقع العالم العربي والعروبة الواقعية التي أعلنتها إشارة إلى ما ورد في خطابي يوم وصولي إلى الوطن في 2 آذار 7491، إذ قلت: إذ كان في العالم العربي عروبة حقيقية صميمة فهي عروبة الـحزب القومي الاجتماعي. الـجامعة العربية اليوم هي محاولة تـحقيق ما نادى به الـحزب القومي الاجتماعي (أي القول بالـجبهة العربية). فكنا نحن أصحاب العروبة الواقعية الـحقيقيين وكان غيرنا أصحاب العروبة الباطلة. وبعد فنحن جبهة العالم العربي ونحن صدره ونحن سيفه ونحن ترسه! وورد في مقالي أيضاً:«ناديت الأمة السورية إلى النهوض بنفسها لتتمكن من الاشتغال في قضايا العالم العربي، ولنكون قوة فاعلة في تكوين الـجبهة العربية» (جريدة كل شيء 11 شباط 9491).
ويقصد سعاده بالعروبة الباطلة عروبة الوحدة العربية الـجغرافية السياسية التي تنازل عنها دولته وغيره من متزعمي العروبة يوم اعترفوا سنة 3491 بالكيان اللبناني وبالواقع اللبناني وبالاستقلال اللبناني واندرجوا فيها مختارين...
يظهر لنا من كل هذا أنه كان أجدر بدولة الرئيس وبالـحكومة أن تكمل تعاونها مع الأستاذ سعاده طالـما التوافق واقع بينهما، في سبيل تـحقيق أهدافهما الـمشتركة على الأقل في هذا الاتـجاه الـمعين، اتـجاه التعاون العربي عوض التخاصم الذي بدأ والتناحر الذي أدى إلى شل الـحزب موقتاً وقتل زعيمه وتشريد وتقتيل بعض أعضائه البارزين وغير البارزين.
ثلاثة أغراض
ليس هذا مجال البحث في الـمواضيع النظرية، ولكنني إنـما قصدت بيان ثلاثة أغراض:
الغرض الأول: أن كل هذه الـمتناقضات والـمبهمات في كلام الـمسؤولين وتفكيرهم وتصرفاتهم إنـما تدل على غموض الـمفاهيم القومية، وبالتالي غموض العواطف والأفكار والإرادة التي ترمز إليها وتـجسدها هذه التعابير والـمفاهيم في النفوس الصادرة عنها وتدل أيضاً على تعاكسها وتشابكها وضعف التحسس بها، وقد يستعملها أصحابها لاستهواء الـجماهير وللسيطرة الغوغائية عليهم...وقد تتضح لنا هذه الـمفاهيم في نفوس الـجماهير أكثر من وضوحها في نفوس قادة العروبة.
الغرض الثاني: هو أن العروبة الـحقيقية تتنصل في الواقع من الساسة الـممتهنين الذين غيروا وبدلوا ألف وألف مرة أفكارهم واتـجاهاتهم السياسية، وفي كل مرة يعللون هذا التغيير بشتى الأعذار والأسباب والاعتبارات التي لا تدل إلا على وهن العقيدة في نفسهم وعلى رغبتهم في الوصول.
فإن كانوا مخلصين في عروبتهم، الرامية لتحقيق أمة عربية موحدة اجتماعياً وسياسياً وجغرافياً ناهضة لـمصيرها ورسالتها فليكونوا من الـجرأة بأن يعلنوا ذلك على الـملأ، ولتكن لهم الشجاعة بأن يسيروا قدماً في سعيهم الـحثيث لتقويض هذه الكيانات وادماجها بعضها ببعض، وهي في اعتبارهم زائفة لا تتفق مع الواقع العربي الـحقيقي الأصيل...فتوحيد أجزاء الأمـم لا يتم إلا بالعنف وبالثورة..وبتقويض الكيانات الإقليمية الـخاصة، وبالسعي الـحثيث للفسحة والتوسع، إلى أن يتوافق كيان الدولة السياسي العتيد مجموع مساحة كيانات أجزائها، وهذا ما حاول سعاده، وهذا ما حاولته الأمـم القومية، في بدء نشأتها ونـموها، وتنبهها لوحدة مصيرها: على هذه الطريق سارت فرنسا وعليها أيضاً سارت بريطانيا وأميركا وألـمانيا، وغيرها من الشعوب...وإلا فليتركوا العروبة وشأنها وليمتنعوا عن التكلم بإسمها، وأحرى بهم أن يقروا نظرية الواقع العربي والتعاون العربي بين الدول والشعوب، وأجدر بهم إذا كانوا يخلصون لـما يفكرون ويقولون أن يسعوا لتوطيد الأمة اللبنانية على أساس الواقع الذي اعترفوا به والكيان الذي ارتضوه لـحدوده، ومصير الدولة الـمنعزل الذي أقروه مختارين والقومية اللبنانية التي تبنوها...
أما قولهم واعتذارهم أنه لا بد من هذه الـمرحلة التعاونية في سبيل تـحقيق وحدة الأمة العربية وتوحيد أجزائها، فهو قول تضليل وتخاذل وتراجع ظاهر، ويجاب عليه كما رد عليه سعاده فيما مضى: إن الـجماعة التي تستقر أحوالها ردحاً من الزمن في اشتراك من الـحياة والتقاليد الاجتماعية والعلاقات والـمصالح الاقتصادية والسياسية والتي تدفعها باتـجاه واحد معين مفاهيم للقومية وللوطنية خاصة بها دون سواها، ومؤسسات تتكاثر وتتعقد وتتشابك وتفعل بطابعها الـخاص في عقلية الـجماهير وعاداتهم على مجرى التطور- إن الـجماعة التي اشتركت في هذه الـحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الـموحدة ردحاً من الزمن يصعب عليها، وقد يستحيل، التحول، إلى غير القصد القومي وإلى غير الـمصير الذي اختارته هي لنفسها وركنت إليه...وهذا ما يبرر لنا استقرار بعض الدول كسويسرا مثلاً وغيرها وهي مجموعة شعوب مختلفة العنصر واللغة والعادات والثقافة الخ...
الغرض الثالث: وهو أمنية وأمل حبذا لو انبرى رجل له من النزاهة الفكرية والذكاء الفطري والثقافة الغربية والعربية نصيب وتفرغ بكليته لدرس عناصر القضية العربية هذا الدرس الـجغرافي والاجتماعي التاريخي الذي تعمده سعاده في أبحاثه ودروسه، عوض التلهي بالسفسطات والـمقالات الرخيصة والتضليلات الـجماهيرية والوصولية الرخيصة، لكانت إذن توضحت القضية العربية كما توضحت قضية سوريا للسوريين القوميين، ولكانت خطت الوحدة العربية خطوات إلى الأمام...إن الرأي العام يتعطش لـمثل هذا الرجل ولـمثل هذه الـمحاولة. وإلى أن يتم مثل هذا فلا يـمكننا إلا أن نعتبر أن عروبة بعض السياسيين هي في الواقع عروبة جاهلة ورجعية طائفية وأجنبية ووصولية مستترة..
يظهر لنا إذن أن قضية سعاده وحزبه ليست قضية عقائدية بل أنها قضية شخصية وأن الصراع صراع تناحر خفي كما سنوضحه فيما بعد.
وإحدى بوادر هذا الصراع الشخصي وقع عندما حاول الأستاذ سعاده أن يرجع إلى بلاده بعد هجرة طويلة قضاها في ربوع أميركا الـجنوبية، وكان ذلك في أوائل سنة 7491، وكنت في ذلك الوقت وزيراً للإقتصاد فتيسّر لي أن أتتبع هذا النزاع مرحلة مرحلة، وربـما تكون قد خفيت عني بعض عناصره ولكننا سنحاول الربط بينها قدر الـمستطاع. عندما حاول سعاده الرجوع إلى لبنان حجزت عليه وزارة الـخارجية مأذونية السفر مدة طويلة بأمر رئيس الوزراء آنذاك السيد رياض الصلح وهو عمل محض اعتباطي لا يقره العرف الدولي والقانون اللبناني. وجرت بعض اتصالات بين رئيس الـمجلس الأعلى آنذاك في الـحزب القومي الاجتماعي وبين رئيس الـحكومة لتسوية القضية وكان ذلك بـمعرفتي ووجودي ومساعدتي وكان يشترط دوماً دولة الرئيس رياض الصلح إقصاء سعاده عن دفة الإدارة في الـحزب...
وإثر وساطات ومداخلات واتصالات سلم صاحب الـحق حقه، وفي الواقع قفل سعاده مسافراً إلى الديار اللبنانية حاملاً مأذونية سفر لإسم مستعار: انطون مجاعص..
وكان خطابه الأول في أرض الوطن بادرة لشن الهجوم عليه وعلى حزبه من قبل الـحكومة اللبنانية، ولولا معاكستنا ومعاكسة غيرنا أيضاً من أعضاء الوزارة في ذلك الوقت لكان وافق مجلس الوزراء على اقتراح الرئيس الصلح بحل الـحزب القومي وملاحقة رئيسه وأعضائه، وكانت معاكستنا تستند إلى الـمبدأ القائل: بأنه لا يجوز أن ينفرد هذا الـحزب بـمثل هذه التدابير، وهناك أحزاب أخرى عروبية ولبنانية تستهدف تـمزيق الكيان والاستقلال اللبناني وأن كل تدبير من هذا النوع يطال الـحزب القومي يجب أن يطال هذه الأحزاب على السواء، ولا تصدر من رجل الدولة تصرفات اعتباطية متحيزة وشاذة.
ووقف الأمر عند حد إصدار مذكرة جلب بحق السيد انطون سعاده، ثم لفلفت قضية الـمذكرة نفسها بفضل وساطة بعض الوزراء ومنهم السيد جبرائيل الـمر، وهو مدين أيضاً بانتخابه للحزب، ووساطة عطوفة الرئيس صبري بك حمادة وزير الداخلية آنذاك، وحصل ذلك بالرغم من رغبة رئيس الوزراء بتلقين رئيس الـحزب الـمتواري أمثولة قاسية.
وفي جلسات مجلس الوزراء التي بحثت فيها هذه القضايا كان دولته من الهياج والعصبية مـما استغربنا ودهشنا منه.
وفيما بعد تفهمنا مصدر العصبية والسبب في هذا الهياج والتحامل، وترجع بعض هذه الأسباب إلى علاقات قديـمة بين رئيس الـحكومة والسيد سعاده ذكر لنا دولته منها اجتماعاً ضمه إليه. ويظهر أن رئيس القوميين لم يؤد ما توجب عليه من ولاء وإعجاب وتقدير لشخصية جليسه، وكان رحمه الله لا يتزلف ولا يتدنى، وقد جرت هذه الـمقابلة بحضور شخصيات نـمسك عن ذكرها هنا.
ومن ثم أرسل دولته أحد رجاله في عام 7391 إلى السيد انطون سعاده يطلب معونته فأجيب: إن الـحزب اضطر لاتخاذ موقف سياسي في سبيل الـحصول على حرية العمل لذلك فإن فروعنا العلنية لن تستطيع التصويت للائحة السيد رياض الصلح بل للائحة الأستاذ عبدالله اليافي.
وبعد سنة 3491 يأخذ دولته على سعاده قول هذا الأخير أن الاستقلال أخذ بحراب البريطانيين، بينما كان الرئيس الصلح يريد أن يفهم الناس أنه هو وحده بطل الاستقلال، فاعتبرها دولته إهانة شخصية موجهة إليه، وكان يردد دولته لسامعيه ولأصغيائه «خلصوني منو شو هيدا يا هو».
ويبدو للناظر الـمتعمق الـمتفهم لهذه القضية أنه كان لا بد أن يدب التنافس الـخفي بين رجل كسعاده تـمكن بذاته وبـمقدرته الـخاصة وبعلمه أن يوجد حوله حزباً منظماً وكبيراً- هو دولة ضمن الدولة كما أشار إلى ذلك الأستاذ شربل في مطالعته- وهو يضم الأعضاء الكثيرين من بلدان وطوائف متعددة، عرف سعاده كيف نفخ فيهم روح القومية وإرادة الصراع. هذا بينما كان زعماء العروبة في هذا البلد يلجأون للمعابد ولرجال الدين وللأساليب القديـمة البائدة من التعابير والـحزبيات الطائفية في بث دعايتهم وإلقاء سيطرتهم على الـجماهير.
وبعد رجوع سعاده من الـمهجر حاول رئيس الـحكومة فيما بعد، وفي حضوري، أن يلح بضرورة الفصل بين الـحزب ورئيس الـمجلس الأعلى نعمة تابت في لبنان، وبين الزعيم سعاده ففشلت مساعيه.
وظلت هذه الكوامن الـخفية مدفونة مضغوطاً عليها ويزيدها الزمن انكباساً وانطباعاً إلى أن توفر لسعاده أن يبرز بـمظهر جديد بعد أن فشلت الـحكومات العربية في القيام بواجبها في الـحرب الـمسرحية التي شنتها على اسرائيل. فاستأنف رئيس القوميين نشاطاً بارزاً، ونشر الـمقالات والأبحاث وتكررت الاجتماعات الـخاصة والعامة، وانفتحت بعض الصحف لنشر آرائه ومناقشتها. ونذكر من هذه الـمقالات على سبيل الـمثل «الانعزالية اللبنانية أفلست، والرجعية العروبية أفلست، والقومية السورية انتصرت».وفي الواقع أخذت رغبات الشعوب العربية تتجه اتـجاهاً يرمي إلى تـحقيق وحدة الهلال الـخصيب، وقد أصبح بعد محنة فلسطين الـمشروع القومي الوحيد الذي يضمن توازن الكفة مع اسرائيل الـحديثة والذي يكفل بالتالي إنقاذ فلسطين...هي قاعدة حاسمة تبرز منذ أقدم أحقاب الـمدنية: أن شعوب الهلال الـخصيب تنزع دائماً للوحدة كلما أحست بالـخطر الأجنبي يداهمها، وأي خطر كتغلغل النفوذ الأجنبي من جديد على يد احتكاراته وشركائه وعماله الوطنيين وقيام اسرائيل بين ظهرانيها.
أخبرني بعض أصدقائي أن دولة رئيس الـحكومة طلب منهم أن لا يسمحوا لسعاده بنشر مقالاته وأبحاثه، فأجيب: للرجل عقيدة وله الـحق بإبداء الرأي فيها فعليك أن تـجيب إذا شئت وأن تدحض الفكر بالفكر.
وزاد الطين بلة أنه في فترة التضعضع والـحيرة والتكشف التي عقبت انهيار فلسطين، ونظراً لإنعدام الأحزاب السياسية الصحيحة في البلد أو ضعفها- وبعضها أشبه بجمعيات للبر والإحسان أو بنقابات مصلحية تـجارية منها بأحزاب سياسية قومية منظمة- أخذ الـحزب القومي الاجتماعي ينتشر في أوساط كثيرة أغلقت في وجهه من قبل، مارونية مسيحية وسنية مسلمة على السواء. فانضوى في الـحزب بصورة خاصة بضع مئات من الشباب الذين ينتمون إلى مناطق نفوذ دولة رئيس الـحكومة في بيروت وغيرها...وكنا نرافق مراحل هذا التغلغل عن قرب لصداقات تربطنا ببعض أعضاء الـحزب القومي. وحاول الزلم والقبضايات الـمعروفون الذين تغذيهم أموال الدولة أن يتصدوا أكثر من مرة، ولكن دون جدوى للشباب الـمنظم الـمؤمن الواعي.
وكان هذا القلق على الـمصير، وهذا التناحر الـخفي الشخصي العنصر الأساسي في نظرنا الذي عجل في تدبير الـمؤامرة للقضاء على الـحزب القومي وعلى رئيسه بصورة خاصة. وقد شهدنا في الانتخابات الأخيرة عن كثب كيف كانوا يقيمون الدنيا ويبتكرون الـمناورات لأبعاد الشخصية السنية الـمناوئة والتي قد يكون لها حظ في دخول الـمجلس النيابي وفي تسلم رئاسة الوزارة.
هذا العنصر الشخصي في قضية الـحزب القومي يفسر لنا إلى حد كبير تسرع رئيس الـحكومة في القضاء على خصمه واعتباطية الوسائل الـمستعملة والـمناورات التي رافقتها والتي غررت بالـمنظمات فوحدت بينها فترة من الزمن، ثم وعدت شخصية معارضة كبيرة بحل الـمجلس النيابي في غضون شهرين وكسبت بذلك عطفه ومهادنته. وهذا العنصر الشخصي يفسر لنا أيضاً التشويهات والتناقضات التي اعتمدتها ووجهتها بعض الصحف الـمنتمية إلى الـمسؤولين...غفر الله لهم ولها لتشويه سمعة الـخصم الـميت بعد القضاء عليه، وللموت حرمة عند قوم يتعرفون إليها في صميم نفوسهم.
الظرف الدولي
كان هذا العنصر الشخصي العاطفي الـمتلبد على نفسه، كفيلاً وحده بإضرام حركة الانتقام من سعاده ومن حزبه لولا أن معرفتنا الـخاصة بعقلية الـجماعة الـحاكمة تدلنا على أنهم لا يعملون إلا في ظروف تتوفر لهم فيها بعض الدعامات الدولية الأجنبية الـخارجية فتبطش الـجماعة أو تخرب أو تـحاول أن تصلح، ولكن هو غيرها في الواقع الذي دعا إلى البطش وإلى التخريب وإلى الإصلاح.
وقد تيسر في الواقع الظرف الدولي الـخارجي الـمنتظر...فقد لاحظ أكثرنا منذ مدة غير وجيزة كيف أن موجة طاغية من الاغتيالات والـمحاكمات والتنكيل بالشخصيات وبالأحزاب السياسية القوية، كيف أن هذه الـموجة التهديـمية أخذت تطغى على دول الشرق الأدنى تباعاً تنتقل من إيران حيث نكل برجال وأحزاب تقدمية مشهورة وبالأحزاب الشيوعية أيضاً، ومنها إلى العراق ومن ثم إلى مصر حيث قضى مجهولون على مرشد جمعية الإخوان الـمسلمين ومن ثم إلى دمشق حيث حلت جميع الأحزاب واضطهد أصحابها وكان لا بد أن يأتي دور لبنان وأن يأتي بالنهاية، لأننا والـحمدلله نلحق دائماً ولا نتقدم...
ونظراً للظروف الـخاصة الشخصية التي تتعلق بالـحزب القومي الاجتماعي كان في طليعة الأحزاب التي تعرضت للسجن والتنكيل والتشريد والتقتيل.
وسيعقب هذه الـخطة الداخلية التطهيرية دون ريب أعمال دولية خطيرة كعقد صلح منفرد مع اسرائيل من جانب لبنان ومن ثم من جانب الدول العربية أي بالتالي اختتام الـمسرحية بالاعتراف بالواقع الاسرائيلي في ظهرانينا، وهذا ما تنوه به أكثر الأخبار والوكالات العالـمية والـمؤتـمرات اللوزانيّة الزائفة.
وفي الواقع وفي نظر كل من اطلع على خفايا الأمور، لقد تدخلت بعض الدول الأجنبية الـمعروفة في قضية سعاده وضغطت بحيث أن أكثر الأعمال الاعتباطية التي صدرت عن الـحكومة اللبنانية بهذا الشأن إزاء الـحزب القومي ومن ضمنها الـمحاكمة والقضاء على سعاده وبعض أتباعه بهذه السرعة وبهذا الشكل قد تـمت بناء على توصيات وتدخلات وتأثيرات دول أجنبية وعربية معروفة...ومن الـمؤسف أن يعلن هذا عن حكومات وطنية عربية، ولكن الـحوادث الـمتتالية تظهر لنا بوضوح يتزايد يوماً بعد يوم مدى رضوخ سياستنا لسياسة غيرنا ومدى تأثر رجالاتنا بغير الـمصلحة الوطنية الصرف.
ومن ثم قد يكون طبعاً هناك معاهدات وكتل وامتيازات وانتدابات جديدة بشكل جديد. ولا تكون إذن حملة الاحتجاج عليها والـمقاومة لها إلا ضئيلة مستضعفة بالنسبة لـما تكون لاقته هذه الشعوب الـمسكينة من التنكيل والإرهاب الفكري وفرض قوة الدولة الـمادية. وها هي محاولات تقسيم النفوذ تنبعث من جديد في سماء الشرق. والـمستقبل يخبئ لنا أكثر من مفاجأة من هذا النوع.
وأخيراً كان لا بد من إلهاء الـجمهور اللبناني اللاواعي عن التهم الـخطيرة التي وجهت في محاكم سوريا أثر حادث الضابط طباره ونقلتها كل صحيفة في كل قطر عربي شقيق، تلك التهم التي وجهت للحكومة اللبنانية ولبعض أعضائها، فكان سعاده ضحية ستر ما انفضح وإخفاء ما ظهر ورتق ما تـمزق، وفي الواقع تلهت الـجماهير الغبية برهة من الزمن، فما أتعس أمة تغررها القشور والـمناورات الرخيصة والألاعيب ,ولا تتحسس الـجوهر ولا تتنبّه لـحقها بالـحياة وبالـحرية ولـحقها في الصدق وفي الصراع: وحق التقدم هو حق الصراع (سعاده).
تنفيذ المؤامرة
ووقع حادث الـجميزة الـمشهور ويسعني أن أؤكد استناداً لـمعلومات رسمية خاصة استقيتها من رجال الأمن أنفسهم أن الـحادث لم يكن وليد الساعة، وقد هيأت له الـحكومة الفرص فسحبت قواها من الـمحلة في ساعة معينة وبناء على أوامر بلغتها من قبل ذوي العلاقة.
وفي ليل ذلك النهار الـمشؤوم وأثر اجتماع مسرحي عقد في الساعة الثانية من بعد منتصف الليل صدرت التعليمات لرجال الأمن بـملاحقة أعضاء الـحزب وعلى رأسهم سعاده بتهمة تهيئة انقلاب مسلح كبير.
وتسلسلت بعد ذلك الـحوادث تتلو الـحوادث والتصريحات الـمنسوبة لرجال الـحكم تعقبها التصريحات والـحملات الصحفية الـمدبرة والرامية إلى إيهام الـجمهور بأن لدى الـحزب القومي من الذخائر والأسلحة ما يفوق العد والـحصر. وفي الواقع، وبعد حملة دامت أكثر من شهر تقريباً ألقي أثناءها القبض اعتباطاً على بضع مئات من الشباب والأعضاء القوميين وبعد تفتيشات واسعة عن الذخيرة والأسلحة وبعد أن خرقت حرمة الـمئات من الـمنازل لم تتوفق الـحكومة إلى الاهتداء إلى شيء منها فلا رشاشات ولا مدافع ولا ذخيرة كما كانت توهم الناس. وقد صودرت فقط بعض الأسلحة القليلة قد لا يخلو منها جميعها بيت وجيه واحد في لبنان نظراً للأحوال الطارئة ولعدم استتباب الأمن والتخلي عن تنفيذ القوانين.
ولـما شعرت الـحكومة بفشلها أخذت تصادر مجدداً الـمئات من الشباب القومي من جميع أنحاء البلاد وتزجهم بالسجون جماعات جماعات في غرف ضيقة ينقصها الهواء والنور، وقد ألقت القبض على أكثريتهم الساحقة بتدابير محض إدارية وبدون إصدار مذكرات توقيف بحقهم خلافاً للتقاليد الديـمقراطية وخلافاً للقانون وخلافاً للدستور الذي ينص:«أن الـحرية الشخصية مصونة في حمى القانون ولا يـمكن أن يقبض على أحد أو يوقف أحداً إلا وفاقاً لأحكام القانون، ولا يـمكن تـحديد جرم أو تعيين عقوبة إلا بـمقتضى القانون».
وهذا أول حق من حقوق الشخصية البشرية فلها حرمة ضمنتها جميع الدساتير والقوانين في العالم الـحديث، ولإعلانها وتثبيتها قامت الثورات الديـمقراطية في بريطانيا وفي فرنسا وفي الولايات الـمتحدة وكرست هذا الـحق على الزمن بأنه لا يقبض على أحد إلا بناء على اتهام معين وصريح يصدر عن القضاء.
فكأننا لم نزل في عهد الـملك أو الطاغية قبل أن يهدم الأحرار قلعة الباستيل، رمز الاستعباد والعار على مـمر الأجيال، وقد تـحول هذا الرمز إلى سجن الرمل حيث تعتقل الـحكومة من تشاء..
وتـجاوزت الـحكومة حقها في الاعتقال إلى تعذيب الـمعتقلين وسومهم شتى الإهانات والعذاب: فلقد أمروا على أجسام بعضهم خيول الدرك وضُربوا وجُرحوا ونُكّل بهم، وضُرب أحد الـجرحى وتُرك على حاله دون علاج ثم عُلّق برجليه وضُرب من جديد حتى مات. وفي القرى والدساكر وضعت الـحكومة الـمئات والعشرات من رجال الأمن في بيوت الأبرياء والـمتهمين على السواء يستحلونها لهم مسكناً ويأكلون ما تتوصل إليه أيديهم ويحطمون الآنية ويذبحون الطيور والـخرفان وينتهكون حرمة الـمنزل، وهي من الأعمال الهمجية الاعتباطية الـممقوتة التي لا يقرها قانون على وجه الأرض ولا يسكن لها ضمير.
وجرى كل هذا قبل أن يأتي الـحزب بأي عمل وبأي حركة يستدل منها أو من نواياه أنه قد يقوم بعمل تخريبي ما، وقبل أن تتأكد أي تهمة صريحة بحق الـحزب أو بعض أعضائه. وكانت هذه الاعتقالات وهذه التدابير التعسفية بـمثابة استفزاز مستمر لا تبرره عدالة.
وهذا في الواقع مصير شرعة حقوق الإنسان في لبنان، هذه الشرعة التي أمضاها بإسم حكومتنا الدكتور شارل مالك والتي خرقتها الـحكومة أكثر من مرة ولم تـحترم توقيعها عليها ولم يجف بعد عنها الـمداد.
ولنا كلمة صريحة في حل الـحزب القومي الاجتماعي وقد سبق لنا مثلها يوم أقدمت الـحكومة على حل الـحزب الشيوعي اللبناني بناء لرغبات معينة معروفة، ومن ثم أقدمت على حل الـمنظمات وبعض الأحزاب الأخرى.
تتجاهل هذه الـحكومة الـمستخفة بالـحريات العامة، أن حرية تأسيس الأحزاب السياسية هي من ضمن حقوق الـمواطن الأساسية، وقد نص عليها الدستور اللبناني بـمادته الثالثة عشرة:«حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرية الطباعة وحرية الإجتماع وحرية تأليف الـجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون».
فعلى الـمواطن الذي أسس حزباً أو جمعية سياسية أو غيرها أن يعلم بها الـحكومة لا أكثر ولا أقل. وفي بعض البلاد الراقية لا حاجة لـمثل هذا الإعلام. وهذا العلم والـخبر الذي ينص عنه القانون الـمحلي الـموروث من العثمانيين يفرض على الـحكومة بشخص وزير الداخلية أن يُسلم إيصالاً إلى صاحب العلاقة يبين أنها تسلمت فعلاً هذا العلم والـخبر وهي مجبرة على تسليم الإيصال بحكم القانون لصاحب العلاقة، إذ لا صفة قانونية شرعية لهذا الإيصال. ويـمكن لهيئة الـحزب أن تـحصل على هذا الإيصال بطريق التبليغ الرسمي بواسطة كاتب العدل كما تبلغ أي قضية أو أي معاملة قانونية أخرى، إذا ما رفض الـموظف تبلغها مباشرة من صاحب العلاقة لسبب احتياطي.
وبـما أنه ليس لهذا الإيصال أي صفة قانونية، وبـما أنه ليس لغير القوانين التي يصدقها الـمجلس النيابي ولغير الـمراسيم والقرارات التي تتخذ وفاقاً للدستور والقوانين العامة الـمرعية، بـما أنه ليس إلا لهذه القوانين والـمراسيم والقرارات الصفة القانونية الشرعية، فمن الغريب جداً أن يصدر عن حكومة مسؤولة مرسوم بحل حزب معين لا علاقة لها هي بتأسيسه ولم يكن لها أية بادرة قانونية ولم تتخذ أي مرسوم بتأليفه. وهي أشبه بـمن تصدى لأمر لا علاقة له البتة فيه ويتدخل بـما لا يعنيه من الأمور. وإذا سمحت للحكومة بعض الأسباب الـمتعلقة بأمن الدولة وبالـخير العام أن تراقب شؤون الأحزاب السياسية فعليها أن تتخذ لهذا التدخل صفة مشروع قانون يقره الـمجلس النيابي، وهو السلطة الـمشترعة الوحيدة في البلاد. ويـمكن على كل حال اعتبار عمل الـحكومة غير قانوني وغير شرعي واعتبار الأحزاب والـمنظمات الـمنحلة أنها لا تزال قائمة وفسخ أي مرسوم هزيل من هذا النوع أمام مجلس شورى الدولة.
والقول نفسه يصح فيما يتعلق بالتشكيلات والتنظيمات الرياضية والشبه عسكرية للمنظمات. فلا يجوز للحكومة أن تتعلل بـمثل هذه التنظيمات والتشكيلات إلا استناداً لقانون، ولا وجود لـمثل هذا القانون في لبنان لأنه في الواقع لا يوجد له مثيل في أكثر البلاد الديـمقراطية الراقية. فحرية التنظيم الـحزبي وتشكيل الـجمعيات السياسية تفرض أن لا يوضع حد لنشاط الأحزاب ولطريقة تنظيمها وتدريبها.
هذه الأمثلة وغيرها كثيرة تكفي للدلالة على غرابة التدابير التي اتبعتها وتتبعها حكومة لبنان والتي لا يبررها في نظرنا إلا أننا أصبحنا دولة لا دستور لها، ولا تتمتع بنظام برلـماني ديـمقراطي، ولا ينعم فيها الـمواطن بأي كرامة وبأي حرية وقد تقفز من تضييق إلى تضييق إلى ما لا نهاية.
ثورة سعاده
هذه التدابير الاستفزازية وهذه الاضطهادات والاعتقالات غير الـمشروعة وهذا الـجو من التضييق على الـحريات هي الأسباب الـحقيقية التي دفعت سعاده للثأر لكرامته وكرامة حزبه، وهو أقل ما يتطلبه الشرف البديهي لـمن يتعرف على معنى الشرف. فليس هنالك، كما رأينا، لا تآمر على سلامة الدولة ولا على استقلالها ولا على الكيان اللبناني. وكم من الـجرائم قد اقترفت بإسم هذا الاستقلال وهذا الكيان اللبناني.
فالرجل دافع عن نفسه ورد الاعتباطية بـمثلها وخرج إلى نطاق اللاشرعية لأن الـحكومة نفسها كانت قد خرقت إزاءه الدستور والقانون والشرعية.
ثمن الدم الـمراق
ويذكر بيان الـحكومة أنه «في ساعة مبكرة من صباح يوم الـخميس الواقع في 7 تـموز 9491 قبضت قوى الأمن اللبنانية على انطون سعاده وسلمته إلى الـمحكمة العسكرية». والواقع هو غير ذلك تـماماً كما يعرفه القاصي والداني وكما بلغنا من وزير الداخلية السابق. فإن قوى الأمن السوري هي التي قبضت عليه أثر خديعة لا تشرف الذين قاموا بها، ولم تتسلم الـحكومة اللبنانية الـمتهم الفار إلا بعد أن قبلت بشروط اقتصادية وامتيازات تتنازل عنها لـمصلحة الـحكومة السورية...وقد قبض فيما بعد السيد محسن البرازي في دمشق من يد دولته العشرين ألف ليرة ثمناً للدم الـمهروق.
وقد غسل رجال سوريا الـمخلصين وصمة العار التي لـحقت بحكومتهم البائدة من جراء مساوماتها وخرقها للقانون الدولي الـمعروف وتنكرها لتقاليد الشهامة والضيافة العربية الأصيلة، فهنيئاً لهم لأن لـمثلهم وبـمثلهم تستحق الكرامة..
كيلان وميزانان
أما القضاء على سعاده وبعض أعوانه فقد ألـمحنا إليها فيما سبق. وأننا نعلن مجدداً أن هذه الـمحاكمة السريعة والـمريعة، وأن هذا الأسلوب الـمتبع من قبل الـحكومة اللبنانية للقضاء على سعاده وحزبه لم ينقصهما: لا بيلاطس البنطي ولا هيرودوس ولا قيافة ولا ثمن الدم البريء وهو بدل جلّ([3]) الدم (الامتيازات الاقتصادية التي تنازلت عنها حكومة لبنان، وجعالة العشرين ألف ليرة لبنانية التي قبضوها على حساب الـميت) ولم تخل محاكمة الأعضاء القوميين الذين حكموا بالإعدام فيما بعد من عملية الاقتراع السري على أجسادهم ونفوسهم...فلقد اقترعوا عليهم لـمعرفة من يجوز إعدامه ومن يجوز العفو عنه ثم توزعت مقاعد الإعدام على قاعدة الطائفية.
كل من تتبع قضية سعاده في مراحلها الأخيرة يتساءل لـماذا لـجأت الـحكومة إلى مثل هذا التدبير التطهيري الاحتياطي بينما رأيناها تتساهل في ظروف معينة مشهورة نذكر منها:
ثورة شقيق وزير معروف وقد لفلفت قضيته دون أن يكلف الظهور أمام الـمحكمة ولو شكلياً، وقد يسند إليه عما قريب مركز كبير في الإدارة إذا صدقت الإشاعات الرسمية. وقد اهرقت في هذه الثورة أيضاً دماء. وقد كان له فيها شركاء منهم أسقف كبير ووجهاء بلدة لبنانية كبيرة ومعروفة. وقد اعترف بهذا كله قائد الثورة في كتاب لأخيه توفر لنا الاطلاع عليه. وأكثر ما حظي عليه هذا الثائر بضعة أيام أمضاها في سجن الرمل ومن ثم حظوته بـمقابلة فخامة رئيس الـجمهورية وتبادل العتاب مع فخامته.
وقضية أحد كبار رجال الدين وعلاقته مع اليهود وإعلانه للمقاومة السلبية ودعوته الـمواطنين للتمرد على الـحكومة وعدم دفع الضرائب ومقاطعتها مقاطعة كلية، وسعيه أيضاً في باريس وفي مذكرات رسمية رُفعت لـمجلس الأمن، وهذه القضية أشهر من أن تذكر بالتفصيل.
وقضية الدنادشة الـمستعصية وقد تساهلت معهم الـحكومة وتراجعت عن مطاردتهم والاقتصاص منهم بعد أن هدر «الدم العزيز» من أبناء لبنان على حد تعبير بيان الـحكومة، وقد استرجعت بحق أكثرهم مذكرات الـجلب وسامحتهم على ما فعلوا. وقد يجتمع بهم الـمسؤولون عما قريب في حفلة عشائرية عائلية يتوثق فيها الود وتتبادل العهود بين أفراد عصابة مسلحة وبين أعضاء حكومة في ربوع خضراء اكتست بزراعة الـحشيش نضارة ولا تعادلها إلا نضارة تدخين هذه الـمواد السامة الـمخدرة.
وقس على ذلك قضية كامل الـحسين، وقضية تهريب الـمواد الغذائية لاسرائيل، ولفلفة التحقيق في تقرير لـموظف الأمن العام فضح هذه التهريبات ودل على رجال مسؤولين وقد أجبر تـحت طائلة التهديدات أن يلوذ بالانتحار، فمُنح طبعاً وسام الـجهاد بعد الـموت ستراً للفضيحة.
قضايا وقضايا كثيرة تظهر لنا مدى التحيز وعنصر التناحر الشخصي والانتقام العاطفي في قضية سعاده.
عبرة الـمأساة
والآن وقد تـم للحاكمين سعيداً في ربوعنا ما شاءوا من تنكيل وتشريد واغتيال، فليتحصنوا جميعاً داخل بيوتهم ليحولوها لترسانات حربية يحيط بها العديد من زلـمهم ورجالهم وقبضاياتهم تـحميهم شر الاغتيالات، فإنهم قد حكموا على نفسهم بالقلق الـمستمر وبالتخوف الدائم وبالشك الذي يتآكل الـحشى ويهشم الضمير. فسبحان الله كيف أن الثائر يشعر وكأنه طليق حتى في أعماق السجون وفي وحشة الفقر وانفراد العزلة، وهم يشعرون وكأنهم في سجن تتلوى على نفوسهم فيه قضبان الـحديد، وهو في الواقع ضمن جدران منازلهم الـمحصنة.
أن الرجال السياسيين الرجعيين الـممتهنين في لبنان- الـمعارضون منهم والـحكوميون على السواء- يحاولون في الواقع (وهذه هي الـحقيقة الصارخة) أن يحولوا دون تكامل تطور هذه البلاد القومي الصحيح وإلغاء نظام الطائفية والرجعية الاقطاعية، الذين يستندون إليه في بقائهم وفي سياستهم، ودون تسلم عناصر الشباب الوطني الفاهم والـمتعلم لـمقاليد الـحكم ويتخوفون من تكتل هذه العناصر في أحزاب منظمة قادرة فيتصدرون لكل حركة تقدمية يـمينية كانت أم يسارية، اشتراكية أم شيوعية، ظنًّا منهم أن بإمكانهم أن يوقفوا مجرى التطور أو الـحد منه أو الـحؤول دون صيرورته واقعاً محتوماً، متجاهلين أنه لا بد للحياة أن تستمر في طريقها الصاعدة وأنه لا بد لعجلة التطور أن تسري وأن يدوم انطلاقها وسريانها وأن تعبر إلى شاطئ الـخلاص ولو على أجساد هؤلاء الرجعيين جميعاً.
وبعد فما ضر كل هذا...فعلى هذه «الأمة الـمريضة بأبنائها» أن تتفهم عظمة حياة الفرد وجهاد الفرد وعظمة صراع الـجماعة الـمتفتحة لـحياتها ولـمصيرها، وأن تتطلب وتستدرج الضحايا الكثيرة، للتحرر من عبودية الـمادة والـمال ودياجير السخافة والرجعية وحطة العيش الذليل. رحم الله من قال : أن الشعوب الغبية تفعل برجالها ما تفعله الأطفال بألعابها، تـحطمهم ثم تبكي طالبة غيرهم» (سعاده)
حرصنا طيلة هذه النبذة أن نستشهد ما أمكن بأقوال الأستاذ انطون سعاده للتدليل على قيمة الرجل الفكرية وعلى قيمة الـخدمة الفكرية التي أداها لـجيل أدرك الوعي القومي على يده، وسعاده في الواقع كما أشرنا «رجل عقيدة ومؤسس مدرسة فكرية كبرى وباعث نهضة في أنحاء الشرق قد يندر لها مثيل». وهذا التدليل يفرضه علينا واجب التجرد الفكري، وتبرز إذن على ضوء هذه القيمة والـخدمة الفكرية اعتباطية الـحكومة في معاملة الرجل وفي القضاء عليه قتلاً، ولا يجوز قتل رجل الفكر بل كل ما من حقنا عمله أن نحول بينه وبين الأضرار بـمجتمع وبكيان أوكل إلينا أمر الدفاع عنه، فيسجن أو يُنفى أو يُعتقل. وقد يأتي يوم تصبح فيه العقيدة الـمضطهدة منارة جيل ومبعث كيان جديد وغاية مؤسسات عتيدة، وقد لا تصبح، هذا كله وهذا عندنا سيان، ولكن هو حق الفكر علينا أن نحترمه وأن نحيطه بسياج الكرامة.
كمال جنبلاط