في مهرجان «يوم لبنان» الـمقام في بعقلين بتاريخ 16 سبتمبر/أيلول 1945، ألقى حضرة رئيس الـمجلس الأعلى للحزب القومي بياناً شاملاً تناول فيه الكيان اللبناني من أساسه وشرح مقوماته وعناصر شخصيته وأشار إلى التوجيه القومي الصحيح الذي يجب أن يتبعه لبنان، التوجيه الـمستمد من صميم تاريخ لبنان وواقعه. ولـما كان هذا البيان يبحث ناحية هامة من العقيدة القومية ويجد وجهة خطيرة من سياسة الـحزب، رأت عمدة الإذاعة نشره على الرأي العام.
لعل من أبرز ظواهر الـمدنية القومية الـحديثة، ظاهرة الـمنافسة القوية فيما بين أمـم وشعوب الأرض على اكتساب سمعة الرقي والتمدن والتفوق. فنشهد اليوم مباراة حادة بين جميع شعوب العالم الـمتمدن، التي تستخدم كل ما لديها من وسائل الدعاية العصرية في سبيل تثبيت رقيها وتفوقها في مضمار الـمدنية العام. فكثيرة هي الشعوب التي تدعي الرقي لنفسها وتدلل على ذلك بلوائح طويلة من البراهين، مؤكدة ومشددة على قيمة خدماتها للمدنية العالـمية. ولكننا، من جهة أخرى، إذا أردنا تـحديد معنى الرقي ومعرفة الصفات التي تؤهل شعباً من الشعوب للتمتع بسمعة التمدن، اصطدمنا رأساً بـمشكلة التحديدات الجزئية الـمتباينة الكيفية. فهنالك شعوب تسارع رأساً إلى التدليل على عظمتها ورقيها بـما حققته في عالم الـمادة معتبرة النجاح الـمادي القياس الصالح لتعيين الـمرتبة التمدنية لـحياة الأمـم، ولكن أمـماً أخرى تخالفها الرأي وتدلل على عظمتها بـما أنتجته فكرياً وفنياً معتبرة الإنتاج العقلي الأساس الوحيد لتحديد رقي الشعوب، وأخيراً هنالك أمـم ترى أن الـمدنية لا يـمكن أن تقاس إلا بالنسبة لـما أعطت من قيم روحية.
فبالنسبة إلى كل هذه الأوصاف للمدنية، ما هو يا ترى الـمركز الذي يحق لـجمهوريتنا اللبنانية أن تـحتله في سلم الرقي.
يبدو النقص في كل هذه الأوصاف واضحاً جلياً، فهي لا تتناول الـمدنية إلا من نواح معينة وتهمل الأخرى. الـحقيقة هي أنه لا حاجة لشعب من الشعوب أن يتفوق في جميع نواحي النشاط البشري ليكتسب صفة التمدن. فقد أثبت التاريخ أن في الأمـم والشعوب ميولاً ومواهب كما للأفراد، فتنبغ أمة حيث تفشل أخرى والعكس بالعكس. وإنـما هنالك صفة مشتركة تلازم كل الـمجتمعات الراقية، وإذا وجدت في شعب ما استحق احتلال مركزه في مصاف الأمـم الـمتمدنة، وهذه الصفة ليست سوى إدراك هذا الشعب للدور الذي باستطاعته أن يلعبه في عملية التمدين العالـمية، للمقدار الذي باستطاعته أن يساهم به في هذه العملية الـمقدسة الـخطيرة. أن هذه الصفة هي وعي الشعب لـمهمته التمدنية ولرسالته في الـحياة.
ولو لم يكن هذا قياسنا لتحديد رقي الشعوب، ولو سمحنا للإعتبارات الـمادية وحدها حق فرض قياساتها هي، لـحُرمَ لبنان- لفقر صناعاته وقلة موارده الـمادية من تبواء مركزه في حلقة الـمجتمعات الـمتمدنة.
ولكن هذا الـجبل الصغير، بشعبه الذكي النشيط وعنصره البشري الـمتفوق، بـموقعه الـجغرافي البديع في البحر الـمتوسط الذي جعل منه حلقة تصل ثلاث قارات بعضها ببعض، وبـما يؤمن من الـمصالح التجارية والاقتصادية في الشرق العربي، يلعب دوراً أساسياً في نشر الرقي وتشجيع العمران في محيطنا العربي الواسع. أن شعباً يضطلع بأعباء مسؤلياته التمدنية، على هذا الشكل الـمرضي هو شعب يكتسب عن جدارة واستحقاق مقاماً رفيعاً بين الشعوب الـمتمدنة اعترافاً منها له بالـخدمات القيمة التي يؤديها.
تـجاه هذه الـحقيقة الأساسية يتحتم علينا في الـحزب القومي، بصفتنا حزباً سياسياً يضطلع بطبيعة أعماله الواسعة بـمسؤوليات خطيرة، أن نقوم بقسطنا من واجب تعزيز هذا الشعور عند اللبنانيين- شعور واجبهم نحو الـمدنية والرقي، فنربيه ونقويه بحيث تتحقق رسالتهم الـمباركة لا لـجيلهم فقط بل للأجيال القادمة أيضاً.
فإذا نحن نحتفل بـ«يوم لبنان» فليس ذلك إلا لتحية رسالته ولتسجيل إيـماننا بقدسيتها، ورغبة منا في جعل الـمجتمع اللبناني بكامله يعي وعياً تاماً ما تنطوى عليه هذه الرسالة الـمباركة من الـخطورة والأهمية، فيعرف كيف يؤديها بشكل يكسبه حب جيرانه وإعجاب وتقدير دول العالم الـمتمدن.
وفيما نحن نتقدم لتعيين رسالة لبنان، نرى أنه لا بد من القول أن مهمته في عملية التمدين العامة، هي في آن واحد مرتبطة بالواقع اللبناني ونتيجة لهذا الواقع. وبكلمة أخرى، نحن بحاجة لإدراك الدور الذي يقوم به لبنان، لتفهم واقعه من كل نواحيه.
ولكن يجب الإشارة أنني لا أقصد بالواقع اللبناني ما يـمكن أن يشير إليه الـمدلول العام الـمطلق لهذا التعبير، فهو لا يتناول في نظري كل ما وقع في لبنان وكل ما حدث، بقطع النظر عن الدوافع الـمسببة لهذه الأحداث. وإنـما بالعكس، فإن لنوع الدافع وراء الوقائع والأحداث اللبنانية قيمة أساسية في تعيين معنى الواقع اللبناني. فقد جرت حوادث كثيرة في لبنان كما وأنه صدر عن اللبنانيين أعمال عديدة، لا أوافق قطعاً على أنها من واقعنا أو أنها تـمثل نفسيتنا في شيء، لأننا إذا دققنا بدوافعها الـحقيقية وجدناها غريبة عن مزاجنا، مخالفة لسير تاريخنا الطبيعي، ولم نـمثل فيها نحن سوى دور مناف للطبيعة اللبنانية في حالتها الـحرة الـمستقلة.
لذلك فإن الواقع اللبناني حسبما أراه لا يشمل إلا الـحوادث التي وقعت والنتائج التي حصلت تـحت تأثيرات لبنانية صرفة. فكل الأعمال التاريخية والظواهر النفسية والفكرية التي انبثقت عن الـحاجات اللبنانية الأصلية تشكل في نظرنا «الواقع اللبناني». وكل ما أنتجه الفكر اللبناني الـمستقل بوحي العدل والـحكمة والـحق، وكل ما نبض له القلب اللبناني الـمخلص بدافع حبه الـمجرد لـجميع اللبنانيين والـمصلحة اللبنانية العليا، يدخل ضمن مفهومنا للواقع اللبناني.
هذا يجب أن لا يعني أننا نحن اللبنانيين نتجنب مسؤولية الأعمال أو الأخطاء التي دفعنا على اقترافها تـحت تأثيرات أجنبية أو غير لبنانية. فإن شعباً لا يتحمل مسؤولية أخطائه بنفس الاستعداد الذي يبديه في تأكيد انتصاراته وأمجاده، هو شعب لا يرجى له الـخير، وتنقصه مزية الإصلاح الذاتي التي هي شرط التقدم والرقي. وإذا جاز للحزب القومي أن يفتخر بشيء هو في أنه أول حزب سياسي أقدم على إثارة أعنف حملة شهدها لبنان في سبيل استئصال نقائصنا الاجتماعية وأخص منها بالذكر الطائفية، جاعلاً من أمر معالـجتها محور برنامجه الإصلاحي. فالـمقصود إذاً من فصل كل ما جرى في لبنان بدوافع غير لبنانية، وعما نعنيه بالواقع اللبناني، هو ليس التهرب من مواجهة أخطائنا ومفاسدنا، وإنـما الاهتداء إلى حقيقة نفسيتنا والتعرف إلى الـمعدن اللبناني الـخالص من كل غش وتقليد. فلهذه الـمعرفة- معرفة واقعنا اللبناني- أهمية أساسية في استثمار مواهبنا وإبراز أفضل ما في عصرنا من محاسن وفضائل، وتشكل بالتالي الشرط الأول الذي بواسطته يتمكن لبنان من تأدية رسالته إلى العالم.
نحن في لبنان أبناء بيئتنا الـجبلية، ولا أبالغ إذا قلت أنه قلّما وهبت الطبيعة شعباً بيئة مـمتازة كالتي وهبتها للبنانيين. فقد تضافرت أفضل العناصر والعوامل الطبيعية على تكوين الـخلق اللبناني وبلورته. إن الـحياة الـجبلية بصعوبتها وقساوتها تولد الأخلاق الصخرية الصلبة. فالشعب الذي يتمكن من انتزاع عناصر حياته بتغلبه على معاكسات الطبيعة، هو شعب تـمرس على فضائل الكفاح والـجد والنشاط والعمران. فإننا بالنسبة للقيم التي ننشدها، نحن نشكر الصعوبات التي تواجه حياتنا في لبنان لأنها تؤدي إلى إحياء نشاطنا وتبعث فينا صفات التحسب للطوارئ والرجولة والإعتماد على النفس. وإذا عرف اللبناني بتعشقه للحرية فإنـما يعود الفضل في ذلك إلى هذه الصفات عينها والتي بدونها لا يـمكن للمرء أن يقدر الـحرية وأن يفهم معناها.
هذا هو واقعنا الأخلاقي في لبنان.
بعد ما عرفناه عن الأخلاق اللبنانية وما تـمتاز به، ألا يحق لي القول أن لبنان مهبط الفكر والوحي؟
الـحقيقة هي أن الـحركة الفكرية والروحية في لبنان خاضعة لنفس الـمؤثرات التي فعلت في تكوين أخلاقنا. فلانتظام الفصول، واعتدال الـجو، وتنوع وجمال ربوعه، تأثير قوي على درجة الاتقاد الفكري بين اللبنانيين وجودة انتاجه. إن الأديب والفنان اللبناني محاط بكل ما يسمح له بتذوق الـجمال والتحسس به.
كذلك لنا في الأخلاق والنفسية اللبنانية عامل قوي في تأثيره على نوع الإنتاج الأدبي ومستواه الفكري. فإن شعباً يتمتع بـمزايا النشاط والعمل ويـمتاز بكفاحه الـمتواصل من أجل الـحرية، هو شعب لا يخرج إلا أدباً قوياً حراً متجانساً مع تفكيره، مطابقاً لنفسيته الـحرة القوية». ومع أنه يجب الإعتراف أن أدبنا وتفكيرنا لم يستقر بعد على أساس ثابت معين، لا يصعب علينا لـمس مزاياه العصرية التقدمية، الـمصممة على الانعتاق من قيود القوالب الفكرية الـجامدة والـخرافات البالية. لقد أثبت الفكر اللبناني حيوية قوية في تاريخه العصري، حتى أنه مون في القرن الأخير أكثر أقطار شرقنا العربي بـمادتها الفكرية والأدبية.
أنتقل الآن إلى تناول العامل الاقتصادي في تكييف الواقع اللبناني. أن الـحياة الاقتصادية السائدة في لبنان هي وليدة التفاعل القائم بين البيئة الـجبلية والأوضاع الاجتماعية الـخاصة باللبنانيين. فإنه يـمكننا القول أنه، على وجه الإجمال، لا يوجد في لبنان لـحسن الـحظ، مساحات واسعة شاسعة من الأراضي يـملكها أفراد قلائل يسهل استثمارها بأقل ما يـمكن من اليد العاملة أن البيئة الـجبلية بتقسيماتها العديدة الـمتنوعة، بأوديتها العميقة وهضابها العالية الصعبة البلوغ، وبـما تتطلب هذه الأراضي الصخرية الصغيرة الـمساحة من الـمشقة والعناء لـمعاملتها واستثمارها- أن بيئة من هذا النوع قد ولدت نظام الـملكية الصغيرة- الـملكية التي تستند إلى الـمبدأ القائل بأن اليد التي تعمل هي التي تـملك.
والـحالة هذه لا يصعب علينا تقدير ما لهذا النظام الاقتصادي من التأثير على رفع مستوى حياة الشعب وصقل عقليته بحيث يصبح بإمكانه بلوغ أعلى مراتب الرقي الاجتماعي والسياسي. فإن الشعب الذي لا يتمتع أفراده بحد أدنى من الاستقلال الـمادي الضروري، هو شعب لا يـمكنه إدراك الاستقلال السياسي وفهم الوطنية. ومـما لا شك فيه، أنه بفضل هذا النوع من الاقتصاد نشأت مؤسسة العائلة اللبنانية التي تشكل ركن مجتمعنا. حول هذه الـملكية الصغيرة التي قد لا تـجلب الثروة ولكنها تعوض عنها بـما تؤمن من استقلال فردي، وما تربي من الشعور بكرامة الشخصية الإنسانية، نشأت العائلة اللبنانية بروابطها الـمتماسكة الـمتينة. فإذا امتاز الشعب اللبناني بحبه للحرية وبتعلقه باستقلاله السياسي، فليس هذا الشعور سوى وليد شعوره باستقلاله الفردي.
ومع أن الزراعة تلعب دوراً هاماً في نظامنا الاقتصاي، فالواقع هو أن شهرة لبنان قامت على كونه بلداً تـجارياً بالدرجة الأولى.
فبالإضافة إلى جميع الصفات التي ذكرتها عن الـمواطن اللبناني من نشاط ورجولة فقد منحته الطبيعة موقعاً جعرافياً مـمتازاً نادر الـمثيل، يضطره للإحتكاك مع ثلاث قارات في آن واحد، فجعلت منه بطبيعة الـحال تاجراً واسع الاطلاع على أسواق العالم واحتياجات الشعوب الاقتصادية، الواسطة الصالـحة الوحيدة لتصريف منتجات لبنان الزراعية والصناعية، مغامراً شجاعاً ولكن على أساس دراساته الدقيقة، فأصبح بالنسبة لكل هذه الأوصاف والاختبارات والـمعلومات، عنصراً لا يستغنى عنه في تأمين عملية التبادل التجاري بين أقطار شرقنا العربي والعالم.
لا شك أن واقعاً تـجارياً هذه وضعيته، يحتم على لبنان أتباع سياسة خارجية مستوحاة من هذا الواقع والـمصالح التي تقوم عليه.
أما الواقع السياسي في لبنان، فمن البديهي أن يتولد عن تفاعل مجموعة العوامل الـجغرافية والطبيعية والأخلاقية النفسية، والفكرية والاقتصادية التي ذكرت. من الطبيعي أن يتخذ هذا الواقع، قالباً مطابقاً في خطوطه العامة وفي جزئياته الدقيقة، لنفسية الشعب اللبناني ولـمصالـحه الأساسية في الـحياة. فالشعب اللبناني بحكم غرائزه الـمدنية الراقية ومصالـحه الـمادية الأولية، يندفع بكليته نحو تلك السياسة الداخلية التي تضمن له السير بـمهمته العمرانية والـمحافظة على مستوى حياته الاقتصادية والثقافية الراقية.
أن الشعب اللبناني بـما يـمتاز به من نشاط وجد، هو شعب شديد التعلق بنظام سياسي يتيح له مجال العمل والإنتاج، إلى نظام يحمي بعدله وكفائته الإدارية، ثمرة الـجهود الفردية الـمقدسة، من كل ظلم وعدوان.
أن الشعب اللبناني بـما يـمتاز به من ذكاء وعلم، هو شعب يدرك إدراكاً بعيداً ما لسياسة توطيد الأمن وإقامة العدل من أهمية في تأمين أول شروط السعادة والهناء والرقي البشري.
أن الشعب اللبناني بـما يـمتاز به من قابلية للعمران ومؤهلات للمساهمة في عملية التمدين في بيئته القومية أولاً والعالم العربي ثانياً، لا يجد سبيلاً لتأدية مهماته هذه إلا بواسطة نظام سياسي يضمن الاستقرار الاجتماعي والكفاءة الإدارية.
وبكلمة أخيرة، أن الشعب اللبناني بـما يـمتاز به من حب للحرية وثقافة عالية، هو شعب يتوق بطبيعة مستواه الفكري هذا، إلى نظام سياسي راق، ثابت البنيان يرتكز على أقوى دعائم الـحقوق والـحريات الإنسانية.
وفيما أقوله عن النظام السياسي في لبنان، لا أريد أن يتبادر إلى الذهن أنه صورة فقط لنظام أمثل نرغب في أن يسود هذا البلد العزيز. ليس هذا ما أقصده، لأنه في الواقع هذا هو النظام بعينه الذي ساد لبنان فعلاً، في عهود تاريخية معينة، عندما كانت السياسة اللبنانية مسيرة بإرادة اللبنانيين الـحرة الطليقة.
هذه هي الـمبادئ التي سار عليها لبنان في عهد أمرائه الـمعنيين. في هذا الـجو الـمفعم بروح التضامن والـحب والوئام بين جميع أبنائه، اضطرت أميرة درزية للإلتجاء إلى شيخ مسيحي في كسروان، أبي صقر الـخازن، لتسليمه أقدس ما تـملكه أمّ في الـحياة، ولديها الصغيرين الأميرين فخر الدين الثاني وأخاه يونس، الـمعرضين إلى القتل من قبل والي مصر عدو زوجها الأمير قرقماس الـمعني. فعندما تسيطر روحية من هذا النوع على مجتمعنا، فتلجأ العائلة الدرزية في ساعة، محنتها الكبرى، إلى عائلة مسيحية فتضع بين يديها كل ما تـملك في الـحياة- لا بل الـحياة بأسرها- وتـجد في الدار الـمسيحية الـحماية التي تطلب، أيحق لنا القول بوجود الضغائن الطائفية في لبنان؟
عندما نـجد أن السياسة اللبنانية منذ القرن السادس عشر، كانت ترتكز على أسس حزبية محض، فينقسم اللبنانيون إلى قيسيين ويـمنيين، لا إلى مسيحيين ومسلمين ودروز، ألا يجوز لنا الـجزم بأنه مظهر سياسي ينبئ بالـمستوى السياسي الراقي الذي بلغه لبنان في عهد كانت ولا تزال فيه دول أوروبية مستقلة اليوم، في حالة من التأخر والانحطاط؟ ألا يثبت لنا هذا الـمظهر أن الطائفية دخيلة على لبنان ولم تكن عاملاً في حياتنا السياسية؟
وعندما نتبحر بسياسة الأمير فخر الدين الداخلية وبـمساعيه الرامية إلى توحيد كلمة الـحزبيين اللبنانيين القيسي واليمني بـمصاهرته للأمراء الإرسلانيين زعماء اليمنيين وبـمحالفته لأمراء آل حرفوش في بعلبك وأمراء آل شهاب في الـجنوب الشرقي، ألا يدل هذا الاتـجاه على نضج حكومة الـمعنيين السياسي؟
وعندما نراجع سلسة الأعمال والـمشاريع العمرانية التي قامت بها حكومة هذه السلالة الـمباركة، من تنظيم أمور الدولة الـمالية، وتشجيع الزراعة وإنشاء جيش وبناء الـحصون، وتوطيد الأمن ونشر لواء العدل، ألا يحق لنا الافتخار بـما كان لنا من نظام سياسي في لبنان والذي بدونه لم يكن من الـممكن إتـمام هذه الأعمال الـمجيدة؟
وعندما ندرس سياسة فخر الدين الـخارجية واتفاقاته الدولية، وهي أعمال لا تضطلع بها سوى الدول التي تكتمل عندها شروط استقلالها وسيادتها، ألا تأخذنا الدهشة لـما وصل إليه النظام السياسي في لبنان من رقي وقوة؟
وأخيراً عندما نعلم، أن حكومة الـمعنيين، توجت أعمالها العمرانية والسياسية بـمحاولة جريئة لتحرير لبنان ومعه قسم كبير من الـمناطق السورية، من نير السيطرة العثمانية الرجعية، الأمر الذي لو تـحقق، لكان أدى حتماً إلى تـحرير قسم كبير من الأقطار العربية، ولإدخال هذه البلاد في نطاق حركة البعث والتحرر العصرية في أوروبا، ندرك تـماماً، الدور الهام الذي أخذه لبنان على عاتقه في الـحركة التحررية العربية. ولم يـمنعه فشله الأول، وما عاناه من الآلام بسبب هذا الفشل، من إعادة الـمحاولة في عهد الأمير بشير الثاني، فسارع للإشتراك مع شقيقته مصر للتخلص من سيطرة كانت تثقل كل العرب في ذلك الـحين.
هذا هو «الواقع اللبناني» الـمنبثق عن طيب عنصرنا وسير تاريخنا الـمستقل. هذا هو الواقع الذي اهتدى إليه الـمواطن اللبناني لصيانة مصالـحه في الـحياة، وتـحقيق مثله العليا من روحية وفكرية. هذا هو لبنان كما نحته الـمجتمع اللبناني بساعديه القويين وبخياله الطاهر النقي.
بالطبع لم تنظر الدولة العثمانية إلى تطور الـحالة اللبنانية بعين الرضى والإطمئنان. فلم يصعب عليها تقدير ما سيجره التحرر اللبناني من مصائب وويلات، خصوصاً بالنسبة لـموقع لبنان الـمتوسط تـحيط به الولايات العربية من كل جانب. من هنا بدأت الـمعركة العنيفة، بين الإرادة اللبنانية الـمصممة على الانعتاق من الكابوس العثماني وبين جشع تلك الامبراطورية الـمتعنت. فعمدت الامبراطورية العثمانية، بكل ما لديها من موارد مادية واختبار ومهارة في تعقيم حيوية الشعوب الـخاضعة لها، إلى القضاء على الـحركة التحريرية في لبنان، الأمر الذي اقتضى قبل كل شيء تسميم الروحية اللبنانية- تلك الروحية التي كانت سر تكتل اللبنانيين وتـماسكهم ضد الترك- أي روحية التساهل الديني والتضامن الـمدني فيما بينهم. عندئذ قررت السلطنة العثمانية عمل الـمستحيل لزرع بذور الشقاق والنزاع الطائفي، في لبنان ولكن الـمصيبة لم تقف عند هذا الـحد. فرأت الدول الأوروبية الاستعمارية أن تستفيد من الوضع الراهن الذي فرضته السياسة العثمانية، فزاد تدخلها الطين بلة.
هذه هي العوامل والـمؤثرات الدولية التي أحاطت بهذا الـجبل الصغير، فولدت حوادث 1840 و1860 الـمشؤومة. يعترينا ولا شك الذهول عندما نقارن بين وضعية لبنان في القرن السادس عشر ووضعيته في القرن التاسع عشر. فبعد مضي مئتي وخمسين عاماً على مـمارسة الشعب للمبادئ والتقاليد السياسية التي غرسها آل معن، وفي إبان قرن العلم والثقافة والتطورات الفنية والصناعية الـحديثة وقعت أفظع جريـمة شهدها التاريخ اللبناني، اقترفتها الأيدي الأجنبية الـمجرمة. ومـما زاد في هول الـجريـمة، ما لقيه الـمجرمون الأجانب من التسهيلات لتنفيذ خططهم بواسطة اللبنانيين أنفسهم، اللبنانيين أحفاد أولئك الذين عملوا لـمجد لبنان على عهد الـمعنيين.
في وجه الـمؤامرة الـمجرمة الـجهنمية، الرامية إلى مسخ الواقع اللبناني وتشويهه، وتـجريده من كل الصفات والـمزايا الضرورية لأدائه رسالته نحو الـمدنية، يجدر بنا التفكير كثيراً بـما يجب عمله لقطع هذه الأيدي الأثيمة الـممتدة إلى عنقنا، ولوقف سير تاريخنا الانحطاطي.
إن الـمبدأ الوحيد الذي يـمكن الاستناد إليه في هذه الـحال هو مبدأ الاعتماد على النفس وإيجاد جو من الثقة الـمتبادلة فيما بين اللبنانيين، الأمر الذي لا يتم إلا بتعريفهم إلى حقيقة نفسيتهم، وتقوية إيـمانهم بطيب عنصرهم، واطلاعهم على تاريخهم الـمليء بالشواهد الـمثبتة لهذه الـحقائق والـمعبرة عن فضائلهم الأصلية.
أن حجر الزاوية في عملية بعث الواقع اللبناني من جديد هو في تـمزيق الصورة القاتـمة التي أراد الاستعمار الأجنبي طبعها في مخيلتنا، في تقويض الـمعتقدات الـمزورة السخيفة التي سعت طويلاً دعايته الـمنظمة الغزيرة الأساليب إلى تثبيتها في نفوسنا حول شخصيتنا وقضيتنا في لبنان. أنه لا يكفي، للتخلص من شر السيطرة الأجنبية، بطرد الأجانب، بل يجب طرد الـمعتقدات والـمفاسد التي غرسوها أثناء وجودهم.
فإذا لوحت دعايتهم من جديد إلى الـحماية من قبلهم التي لا يستغني عنها لبنان، أجبناهم بأن اللبنانيين، بـما اختبروه من تاريخهم، يفضلون الاحتماء بـمبادئهم السياسية الراقية النابذة للطائفية، ونذكرهم بالـمناسبة، أنه عندما كانت الـمذابح الدينية على قدم وساق في أوروبة في القرن السادس عشر والسابع عشر كان لبنان مثالاً يقتدى به في التساهل الديني. وبالنتيجة، وفيما يختص بأمر سلامة لبنان التي تصورها الدعاية الأجنبية بأنها معرضة لـخطر محدق، نـجيب أنه، على افتراض وجوده فالأمر يعني اللبنانيين وحدهم، وليس أحق منهم بالدفاع عن سلامتهم. نحن من هذه الـجهة نوافق تـماماً بأننا قلقون على سلامة لبنان، قلقون مـما قد تـجره الدعاية الطائفية من عواقب. أننا بـموجب منطقنا اللبناني السليم الـمرتكز إلى تاريخنا واختباراتنا اللبنانية، لا نقتنع قطعاً بأن سياسة حماية الأقليات، هي الواسطة الصالـحة للمحافظة على سلامة لبنان. أن سياستنا في الـمحافظة على سلامة لبنان مستوحاة من مبدأ القضاء على مفاسد الـمجتمع اللبناني، القضاء على كل ما يـمكن أن يصدع وحدة الـمجتمع اللبناني ويثير فيه الـمنازعات الأهلية القتالة. إن أقوى ضمانة لسلامة لبنان، هي في الشعور الاجماعي الذي يتولد عند جميع اللبنانيين بقيمة الـخدمات التي يؤديها لبنان لا لنفسه فقط بل للعائلة العربية بأجمعها. هي في الاقتناع بأن لبنان هو الـمحيط الصالح لتشييد الدولة القومية النموذجية. لذلك، فإننا بالإتكال على ذكائنا اللبناني نرى أن الـحماية لا تستهدف سلامة لبنان بقدر ما تستهدف سلامة الاستعمار. ونحن نحمد الله على أننا نستطيع التمييز بين السلامتين.
لقد استعرضنا حتى الآن الـمقومات الداخلية للواقع اللبناني، فما هي بعرفنا الـمقومات الـخارجية؟ إن السياسة الـخارجية لـجميع الدول تخضع إجمالاً لنواميس عامة متشابهة تُستمد من أوضاعها الـجغرافية ومصالـحها الاقتصادية والروابط الروحية والتاريخية التي تربطها بغيرها من الدول.
فإذا عدنا إلى التاريخ اللبناني خصوصاً في العهود التي تـمتع فيها لبنان باستقلال صحيح، لـمسنا اتـجاهه الطبيعي وفقاً لهذه النواميس نحو التناسق التام في سياسته مع سورية والتعاون الـمخلص مع الأقطار العربية. ونخص بالذكر مساعدة الأمير بشير الثاني الـحركة التحريرية الـمصرية بكل الوسائل التي كانت لديه.
وأن تيار هذا الاتـجاه الطبيعي لم يتوقف إلا تـحت الضغط الأجنبي وتدخله، إذ أنه من الواضح، أن سلوك لبنان في هذا الاتـجاه كان في مصلحته ومصلحة سوريا والأقطار العربية الشقيقة، لأنها جميعاً، بتعاونها الوثيق تشكل قوة هائلة فيما بينها، وخطراً أكيداً على الأجانب. لذلك سعت السلطنة العثمانية والانتداب من بعدها لعزل لبنان، والتفريق ما بينه وبين سوريا وشقيقاته العربيات.
وعلى هذا القياس نشأ ذلك الاستقلال الفريد في نوعه، وأسميه استقلال الانتداب، الذي ألبس معنى مناقضاً لكل عرف، قائماً على الانقباض وعلى زرع شعور النفرة والكراهية والـخوف من سورية ومن العرب.
خوفاً من أن تبقى هذه الصورة الانتدابية للاستقلال عالقة في بعض الأذهان بحكم الاستمرار، نعلن أن الاستقلال الذي يريده اللبنانيون، الاستقلال الصحيح، هو الرامي إلى التخلص من الظلم الأجنبي الاستعماري لا إلى الـمشاغبة على السوريين الذين هم من لـحمه ودمه. إن هذا الاستقلال لا يؤمن مصلحة لبنانية أو سورية فقط، بل مصلحة عربية عامة أيضاً، لأنه يجمع صفوف اللبنانيين بأجمعهم حول علمهم الاستقلالي ويساعدهم على تأدية رسالتهم وفهم واقعهم فهماً صحيحاً ويوجد لهم جواً من الاستقرار والطمأنينة لا يستطيعون بدونه الانطلاق في طريق النمو والإبداع السياسي.
لذلك نـجد أنه عندما ملك اللبنانيون زمام أمرهم وتخلصوا من استقلال الانتداب، عادوا إلى النهج الطبيعي ونسقوا جميع خطواتهم السياسية والاقتصادية مع سورية، على أساس الواقع الـموحد لـمصير هاتين الدولتين سياسياً وقومياً.
إن الإستقلال اللبناني عندما كان، كما رأينا تاريخياً، منبثقاً عن إرادة اللبنانيين والـمصلحة اللبنانية، لم يتعارض يوماً من الأيام مع واقع التفاعل الطبيعي القائم بين لبنان والـمناطق السورية الـمجاورة. وليس استقلالنا الـحاضر القائم على إرادة اللبنانيين والـمصلحة اللبنانية العامة إلا صورة عن ذلك الاستقلال فسيبقى صورة عنه في علاقاتنا مع سورية والعرب.
ولكن هنالك ناحية أخرى من الـحياة اللبنانية التي يـمكن أن يساء فهمها من الرأي العام العربي. تلك هي الناحية الثقافية، فإذا كان لبنان بحكم موقعه الـجغرافي واتصاله الـمستمر بالغرب، قد اقتبس قسطاً غير يسير من ثقافة العالم الـمتمدن، فليس ذلك بالأمر الذي يعاب عليه. ولكنه بالعكس كان مصدراً من مصادر ارتقائه وتقدمه وسبيلاً لبعث الثقافة العربية وحقنها بدم جديد، وبدفعها في مضمار التقدم الإنساني ووضعها في مجرى الـحياة الـجديدة وإخراجها من الـجمود على أساس القاعدة القائلة من لا يتقدم يتأخر.
أن تعرف لبنان إلى الثقافة الغربية وتعمقه في مصادرها، لم يـمنعه من قطع شوط بعيد في الثقافة العربية، وربـما كان هذا التقدم نتيجة لذلك التعمق. وأن ما حققه لبنان في ميدان الثقافة العربية وحيازته قصب السبق لأصدق برهان على صحة هذا القول.
وبكلمة أخرى أن تثقف لبنان بالثقافة الأجنبية لم يكن ليجعل منه عبداً لتلك الثقافة وآلة في يدها، بل بالعكس جعل منها عبدة له وآلة في يديه استخدمها لأجل التحرر الفكري والإبداع.
والآن بعد أن أصبح لبنان عنصراً صالـحاً مفيداً في الكيان العربي العام، وبعد أن فهم نفسه وفهمه العالم العربي فهماً حقيقياً، نستطيع القول أن استقلال لبنان جعل منه ركناً لسوريا وحصناً لفلسطين ويـميناً للدول العربية.
أيها الـحفل الكريـم،
أردت أن ألقي بياني عن الواقع اللبناني في بعقلين، في هذه العاصمة التي رافقت بتاريخها جميع الأحداث اللبنانية الهامة.
في هذا الـمحيط، في بعقلين حيث ترعرع فخر الدين، في جوار عاصمته دير القمر، بالقرب من بيت الدين مقر الشهابي العادل، يحق لنا أن نعيد ذكريات الواقع اللبناني، ونبعثه من جديد.
هنا في الشوف في هذا الـحصن الـمنيع للفضائل اللبنانية الباقية، في وسط مجتمعه الباسل الذي تـحمَّل من ضروب الاضطهاد وأنواع الـحرمان على يد الانتداب لـمحافظته الأمينة على البقية الباقية من التراث اللبناني، أردت أن نحتفل بـ«يوم لبنان».
يا أبناء الشوف،
لم تذهب تضحياتكم سدى، فإن أيام عذابكم وآلامكم، هي أيام فخر لكم، لأنه لا يعذب إلا من تؤهله الطبيعة لـمهمة الإصلاح وتـحمَّل تبعات الـمدنية والتطور.
أيها الـحفل الكريـم،
لا يكتمل الاحتفال بيوم لبنان، بدون التوجه نحو تلك الشخصية التي تـمثّل روح لبنان، وأماني لبنان، إلى رمز الكرامة اللبنانية والاعتدال والـحكمة، إلى الـموجه الـحكيم للسياسة اللبنانية، رئيس جمهوريتنا الـمحبوب، الشيخ بشارة الـخوري. إنني بإسم ألوف القوميين الـحاضرين والغائبين والـمنتشرين في أنحاء الوطن، أحييه تـحية الإكبار والإجلال، سائلاً الـمولى أن يديـمه للبنان رباناً حكيماً.