طالعنا هذه الـمقالة ولم نـجد فيها ما يـمنع من طبعها.
في 26 تـموز سنة 1936 الـحقير
محل الـختم) أنطون بطرس - بطريرك انطاكية وسائر الـمشرق)
الى الشبيبة اللبنانية
الـمتعطشة إلى الـحقيقة الراهنة والـمنطق السديد، الـملتهبة حباً للوطن اللبناني، وقد شيد بنيانه الـمجيد،في ظل أرزه الـخالد،على مـمر الأجيال،جحافل الـجدود الأبطال،مسجّلين استقلاله الـمنيع قولاً وفعلاً بدمائهم الزكية تخضّب إلى يومنا سفوح جباله ووهادها،
إلى أبناء لبنان، رافعي منارة الدين والعلم والـحضارة شرقاً وغرباً، حيثما قرّ لهم قرار، وخفّ عن كاهلهم نير الـجهل والاستبداد، تشرق عيونهم ذكاءّ وجدّاً وحزمّاً، كأنها الـمرآة ارتسم على صفحتها النقية بهاء سماء لبنان وصفاء هوائه العليل وعذوبة السواقي الـمتدفقة بين الصخور وفي الوديان ترنـم لطيف أغنيتها الدائمة وتخلب الأسماع والأنظار،
إلى كل من شاهد النور على روابي لبنان، وفي ظلّ كنائسه وديورته الرابضة بين الصنوبر والسنديان، أو الراسية في سهول البقاع الفسيح، يتجاوب صدى أجراسها في حرمون والباروك، وصنين وضهر القضيب،
إلى كل صادق النية،سليم الطوية،
إلى كل لبناني،
أوجه هذه النبذة الوجيزة، الـخالية من كل غرض يُرتـجى، والـمنزهة عن كل منفعة شخصية تُبتغى، لعله يصادف فيها عبرة فيعتبر، وهدّى فيتَّعظ !
ل. خليل
ضجّ لبنان من قضية الـحزب السوري القومي. فمن معارض له أشدّ الـمعارضة بإسم الوطنية اللبنانية الصادقة. ومن مدافع عنه ومطرئٍ خطته ومبادئه بداعي وطنية جديدة يريدون إبداعها. وطنية أوهموا أنها «الوطنية السورية» الواجب على كل سكان بلادنا تقديسها. فخدعوا كثيرين من أبناء الشعب الـجهّال فانحازوا إليهم ظنّاً منهم أنهم يخدمون البلاد خير خدمة ويروجون مصالـحها الـحيوية في أزمة كادت تقضي عليها. ولكنهم لم يلتفتوا الى مسألة في غاية الأهمية وهي موقف هذا الـحزب من الدين والكنيسة فإليها أحببننا أن ننبّههم لئلا يخونوا إيـمانهم وهم من أبنائه الصادقين.
ولعل القارئ يستوقفنا حالاً قائلاً: وأي دخل للدين في قضية سياسية؟ أليس هذا تدخّل من الكنيسة في ما لا يعنيها وليس من شأنها؟
لا أيها اللبيب، ليست مسألة الـحزب السوري القومي مسألة سياسية بحتة. هي سياسية دينية. بل دينية اولاً ثم سياسية كما أشار إليه صاحبها ضمناً - ص 5([2]) إذ بسط سبب إنشائه الـحزب ثم في خطاب الزعامة عندما قال عنه (30 ع 3) إنه فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها». فإذا كان الـحزب فكرة وحياة فمن واجب الكنيسة أن تنظر فيه لترى أهو مطابق للحقائق الإلهية الـمؤتـمنة عليها من قبل الرب وهي «عمود الـحق وقاعدته» -1 تيمو 15:3 ولترشد أبنائها لئلا يضلّوا في متابعة غاية بشرية ربـما أودت بنفوسهم الى الأبد.
هكذا فعلت ولا تزال تفعل في كل الأمور التي لها مساس بالضمير وان كانت سياسية أو اقتصادية أو علمية. هكذا شجبت الاشتراكية والشيوعية ومبادئ الثورة الفرنساوية الكبرى وحكمت على الـماسونية وحرمتها. وعلى هذا الـحق إعتمد بيوس العاشر لـمَّا أبطل سنة 1906 شريعة فصل الكنيسة عن الدولة الفرنساوية وأعلن أنه لا يجوز العمل بها فأصبحت لاغية حتى اضطُرّت الـحكومة إلى تعديلها وفقاً لـمبادئ الكنيسة.
فهل مبادئ الـحزب السوري القومي مطابقة لشريعة الله ووصايا كنيسته؟ أم تـجرح الضمير حتى لا يجوز للمسيحي – بل لكل مؤمن بالله – أن يتخذها دستوراً لعمله السياسي وينحاز إلى أصحابها؟ هذا هو موضوع بحثنا.
ولنا في ما نشره الـحزب في مجلة الـمعرض في عدد 25 شباط بيان كافٍ لـمبادئه، فإن هذا العدد مخصَّص بها من أول صفحاته الى آخرها فهو بـمثابة برنامج الـحزب. وأننا لا نعتبر من طبعات هذا العدد التي جددوها وحذفوا منها أموراً كثيرة فضحتهم إلا الطبعة الأولى فقط. ونقتصر على فحص ثلاث مقالات منها:
الأولى للزعيم أنطون سعادة عرض فيها سبب إنشائه الـحزب (ص 5 و 6).
الثانية لفؤاد سليمان «سكرتير الإذاعة» سابقاً عرّفنا فيها ما هو «الزعيم» وما أفكاره (ص 7 و 8)
الثالثة «خطاب الزعامة» وهو مـمَّا حذفوه لـمَّا أعادوا طبع العدد الذي نحن في صدده (30 الى 32) وهذا الـخطاب مهم للغاية لـمعرفة غايتهم ووسائلهم وقد قرئ في الإجتماع العام الـمنعقد في 1 حزيران 1935 ووافق عليه الـجميع.
فلدى مطالعة هذه الـمقالات يتبين حالاً لـمن له بعض الإلـمام بالـمسائل الدينية والفلسفية أن مبادئ الـحزب منافية للدين وخصوصاً للدين الـمسيحي ومعادية للوطن اللبناني. وإليك إثباتاً لـما نقوله «مبادئهم الإصلاحية» نشفعها بغيرها من أقوالهم وبالشروح والقرارات التي أوردوها في مقالاتهم (ص 5)
:
1 - «فصل الدين عن الدولة»
2 - «منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين»
3 - «إزالة الـحواجز بين مختلف الطوائف والـمذاهب»
4 - «إلغاء الإقطاع وتنظيم الإقتصاد القومي على أساس الإنتاج وأنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة»
5 - «إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعليّة في تقرير مصير الأمة والوطن»
أول ما ينبهنا إليه «الزعيم» في طريقة إصلاحه الأمة هو وجوب «فصل الدين عن الدولة»هذا مبدؤه الأساسي فما معنى كلامه؟
لا يفوتَنَّك قبل النظر فيه أن «الزعيم» رجل متكتَّم متحفّظ في كلامه يعرف قيمة الألفاظ التي يستعملها فيجب إذاً اعتبار معانيها كما هو الشائع فيها فما مراده بفصل الدين عن الدولة؟
ليس الـمراد كما أوهموا منع أرباب الدين من التدخل في شؤون الدولة: هذا نص الـمبدأ الثاني فالـمعنى إذاً غير ذلك.
ليس الـمعنى فصل الـمذاهب عن الدولة بحيث لا يكون للدولة مذهب خصوصي مع بقاء الـحرية لكل فرد في أن يتبع الـمذهب الذي يحبّ كما ينادون أيضاً مـموّهين فلو أراد الزعيم ذلك لكان قال: «فصل الـمذاهب الدينية عن الدولة».
الـمعنى واضح وهو الـمتبادر إلى الذهن من مجرّد الإطلاع على الألفاظ وهو أن الدولة يجب أن تنفصل عن الدين بوجه مطلق حتى لا يكون لها علاقة بـما نسميه واجباتنا للباري تعالى. فلا تؤَّسس على الإيـمان بالله ولا تـحترم حقوقه ولا تبالي بأوامره ونواهيه. بحصر الـمعنى ستكون «دولة بلا دين» تستغني عن الله في وضع شرائعها وإدارة أعمالها كأن الله غير موجود: هذا معنى فصل الدين عن الدولة وهو من أفظع لأمور لأنه إهانة جسيمة للباري تعالى عزّ وجلّ.
الله هو خالق الكل: الأفراد والـجماعات. كوّن الإنسان ليعيش في العائلة والعائلة في مجتمع أوسع منظَّم هو الهيئة الإجتماعية مهما كان اسمها مـملكة أو جمهورية أو مشيخة الخ. فالطاعة له واجبة من الأفراد والعائلات والدول مع الإكرام والعبادة والـخضوع لشرائعه سواء أكانت طبيعية أم موحاة. ففصل الدين عن الدولة عبارة عن إنكار الله وطرده من مـملكته. وهو الإثم الذي ارتكبته الثورة الفرنسية الكبرى.
وقد شجبت الكنيسة هذا الضلال الوخيم بكل قواها بلسان معلميها وأحبارها العظام. هذا مثلاً ما قاله لاون الثالث عشر في براءته (Humanum genus) التي حرم فيها الـماسونية، الصادرة في 20 نيسان 1884:
«أهم عقائد الـماسونية منافية للعقل بنوع واضح جدّاً وخباثة مبادئها أعظم ما يـمكن أن يكون... يريد الـماسون أن يؤلفوا مجتمعاً بشرياً منفصلاً عن الله بينما الوثنيون أنفسهم كانوا معتقدين وجوب تقديـم العبادة للاهوت حتى أنهم قالوا:«أنه لأسهل أن تبنى مدينة في الهواء من أن تؤسس بلا هيكل ولا عبادة...»
ويـمكن الإكثار من مثل هذه التعاليم ولكنا نكتفي بإيراد كلام هذا الـحبر العظيم، فإنه حجّة رائعة بذاته.
وليس فصل الدين عن الدولة إثم ضد الله فقط بل هو أيضاً جريـمة ضد الدولة نفسها يؤدي بها الى الـخراب. لأنه اذا تركنا الله جانباً فعلى أي أساس تُبنى الدولة؟ أي مبادئ تكفل لنا العدالة في الرئيس والطاعة في الـمرؤوس؟
الضمير؟ وهل من معنى للضمير اذا لم يكن الانسان مؤمناً بالله وقاصداً أن يجعل إرادته تعالى دستوراً لأعماله حتى إذا حاد عنها وبخته النفس وردعته؟
بقي الـخوف أو الـمنفعة: الـخوف من سيف الـحكومة والـمنفعة الذاتية لأن الإنسان ميال بطبعه الى طلب ما يحبه. ولكن هل يكفي سيف العدل لردع الشرير عن شره؟ نرى كل يوم خلاف ذلك. وهل الـمنفعة أقوى من السيف؟ إن كنت أجد فائدتي في ارتكاب الـمنكرات وليس هناك من خطر عليَّ بالوقوع في أيدي العدالة فمن يـمنعني عن عمل الـمنكر؟ حقاً لقد صدق الوثنيون بقولهم: أنه لأسهل أن تُبنى مدينة في الهواء من أن تبنى بلا هيكل أي بلا دين وقد قالت الـحكمة الأزلية قبلهم على لسان النبي داود في الـمزمور 126:
«إن لم يبنِ الربُّ البيت فباطلاً يتعب البنأؤون وإن لم يحرس الرب الـمدينة فباطلاً يسهر الـحارس».
فنسيان هذه الـمبادئ الإلهية يكشف لنا السرّ عن سبب الإضطرابات العديدة الـمتوالية في الدول الأوروبية من عهد الثورة الفرنسية الكبرى.
وقد حاول أتباع الـحزب القومي السوري أن يضعوا أساساً لدولتهم غير الدين وهو من أغرب الإختراعات، وهذا الأساس هو:
«سورية للسوريين والسوريون أُمة تامة» - الـمبدأ الأساسي الأول ص 5.
«مصلحة سورية فوق كل مصلحة» - الـمبدأ الثامن ص 5.
وعليه
«كل مبدأ لا يخدم سيادة الشعب على نفسه ووطنه مبدأ فاسد» - ص 30 ع 2.
وبالعكس
«كل مبدأ صحيح (أي حتى يكون صحيحاً ) يجب أن يكون لـخدمة حياة الامة» - ص 30 ع 2.
هذا لعمر الـحق تأليه الأمة السورية وقد انتحلوا في خطتهم هذه ما رأوه من تأليه هتلر للأمة الـجرمانية.
الأمة السورية هي الإله الـجديد. فالـخير والشر لا يُعتبران الا بالنسبة إليها، الـخير هو ما كان لصالـحها والشر ما كان يعاكسه. فالكذب والـخيانة والنهب والقتل والزنى وكل الآثام إذا ما خدم مصلحة الأمة «التي هي فوق كل مصلحة» كانت صلاحاً. والفضيلة بأنواعها كالصدق والتضحية والطاعة للرؤساء والطهارة والنزاهة والكرم الخ تصبح فساداً إذا لم تكن لصالح الأمَّة ! أفيمكن أن يكون ضلال أوخم من هذا وتوحُّش أفظع منه ! حقاً أن في هذا تصديقاً لكلام لاون الثالث عشر إذ قال في براءته الـمذكورة آنفاً بعد الكلام الذي نقلناه على الـماسونية:
«أنهم يعملون حتى يحطّوا بالبشرية إلى درجة البهائم».
فصل الدين عن الدولة كفر بالله وبحقوقه وحطّ من كرامة الأمة ومدعاة لـخراب الدولة. ويا ليتهم يقفون عند هذا الـحدّ. أنهم يسعون – شاؤوا أم أبوا – بالرغم منهم لـملاشاة الدين تـمثلاً بالهتلرية. هذا معنى مبدئهم الإصلاحي الثالث - ص 5:
«إزالة الـحواجز بين مختلف الطوائف والـمذاهب».
ما هي هذه الـحواجز؟ لا شك أنها الـحواجز الدينية لأنه ليس في حالتنا الـحاضرة من حاجز بين الطوائف والـمذاهب لا في الإدارة ولا في الأحكام ولا في الشرائع ولا في الـحقوق والـحريّات الشخصية الخ إلاَّ ما هو من الدين أو عائد إليه، كالزواج مثلاً.
ولم يريدون إزالة هذه الـحواجز الدينية؟ هل بغضةَ للدين؟ ونظن أن الهوس والكفر لم يبلغا إلا بالنفر القليل منهم إلى هذا الـحدّ غير إنهم أرادوا ذلك توهماً منهم أنهم لا يستطيعون توحيد الأمة السورية السياسية دون توحيد عقائدها.
وكيف يوحّدون العقائد؟ لو كانوا يؤمنون فعلاً بالباري تعالى لكانوا اكتفوا، في حالتنا الـحاضرة وقد تعدّدت الـمذاهب الدينية، بأن يتمسكوا بـما هو مشترك بينها: أعني الإيـمان بالله والـخضوع لوصاياه. فإننا جميعنا في لبنان- ولله الـحمد- نعتقد به ونقول بواجب الطاعة له: وهذا كافٍ لتأسيس دولة على أركان ثابتة غير أنهم نبذوا الإيـمان بالله وألّهوا الأمة السورية، فتوحيد العقائد في نظرهم هو ملاشاة العقائد الدينية واستبدالها بعقيدة واحدة:«سورية للسوريين»، وإليك الشواهد على صحّة تأويلنا:
يقول الزعيم في بسطه الكلام على سبب إنشائه الـحزب - ص 5:
«رأيت أن أسير إلى السياسة باختطاط نهضة جديدة تكفل تصفية العقائد القومية وتوحيدها وتوليد العصبية...»
«أنشأت الـحزب..ووحدت فيه العقائد القومية في عقيدة واحدة وهي سورية للسوريين والسوريون أمة تامة!!- ص 256.
وجاء في خطاب الزعامة الذي قرئ في اجتماع عام والذي هو بـمثابة برنامج عن «الصعوبات الداخلية:منها التقاليد الـمتنافرة الـمستمدة من أنظمتنا الـمذهبية (أعني التقاليد الدينية) وتأثيرها في وحدة الشعب القومية».
«وقد أوجد الـحزب طريقة التغلّب عليها بنظامه الذي يصهر التقاليد الـمنافية لوحدة الأمة". ص 31.
ومنها أيضاً:
«تـحت عوامل مبادئ الـحزب السوري القومي عملية تـحرير أفكارنا من عقائد مهترئة (كذا) وأوهام قعدت بنا عن طلب ما هو جدير بنا» (- ص 31.
فالفكرة هي دائماً واحدة: يجب توحيد الأمة وذلك بتوحيد العقائد في عقيدة واحدة وهي «سورية للسوريين» ولا يـمكن ذلك إلاّ بإزالة العقائد الدينية ولذلك بعد وصف الـحزب السوري القومي في الـخطاب الـمذكور يقول الـخطيب:
«هذا هو الـحزب السوري القومي للذين وحدوا إيـمانهم وعقائدهم فيه».
وكذلك في القسم:
«أقسم أني اتخذ مبادئ الـحزب إيـماناً لي ولعائلتي وشعاراً لبيتي».
أعني أن عقيدتي وعقيدة عائلتي هي الـمبادئ السورية القومية ولا أريد عقيدة غيرها.
وإليك ما هو أصرح للدلالة على مرادهم في ملاشاة الدين، نـجده في أقوال أحد أركان الـحزب فؤاد سليمان سكرتير الإذاعة سابقاً في مقالة «الزعيم» ص 7. فإذا كان كلام الزعيم كلام إنسان متحفظ متكتم، لا يتّضح الـمراد منه إلا بـمعارضة النصوص بعضها ببعض، فبعكس ذلك كلام صاحبه ولسان حاله، وإليك بعض درره. قال عن النهضة - ص 357
«ثورة تريد أن تهدد أباطيل الـجهل والـخرافات التي عشّشت في زوايا عقول الـموتى (أي الذين ماتوا على دينهم) وتـمحق خرافة التاريخ الـملعون التي خيمت على أدمغة الرجعية في هذه البلاد» هكذا يصف الدين في لبنان.
«ثورة تـحاول أن تنظف هيكل الـحياة الـمقدس من أوساخ العقائد البالية والـمبادئ الـمتفسّخة الـمشلولة (كذا). وتـحطّم الأصنام البلهاء الـموبؤة (كذا) التي نصبها الـخوف والـجبانة آلهة في كل قرية وكل مدينة».
«هذه الأمة (لبنان) تقدس ألف وثن مذهّب وتؤلّه ألف مسخ مذنب»
لا حاجة إلى تفسير مغزى كل هذه العبارات لأنها واضحة. ولا نظن أن لبنانياً بلغ به الـحمق والكبرياء هذا الـمبلغ، حتى أنه استعمل مثل هذه العبارة السافلة ليحقّر الكنيسة الكاثوليكية التي ينحني أمامها إجلالاً وإعجاباً كل أديب عارف بفضلها وإن لم يكن من أبنائها. ولا نتنازل إلى دحض مزاعم هذا «الأستاذ» وإنـما ذكرنا كلامه لننبّه البسطاء. من الـمسيحيين إلى شر حزب هذا دينه.
وما قولك في تعظيمه زعيم الـحزب ومنشئه؟ حقاً لقد ألّهه.
«من دماغه...سينبثق فجر الإيـمان الـحقيقي، فجر النور والـحق والعقيدة...وشعرت (في سماعي له) بإيـمان جديد يتسرّب من روحه إلى روحي...في تلك الساعة وُلد إله جديد في قلبي وماتت آلهة...»!!
مسكين وأي مسكين هذا «الأستاذ»! لا نقول غير هذه الكلمة لكنا نسألك أيها الـمسيحي هل يجوز لك بعد ذلك أن تكون له تلميذاً وتدّعي مع ذلك بأنك مسيحي؟
ويختم مقالته منادياً:
«الإيـمان....الإيـمان...ما أعظم الإيـمان!
«بالإيـمان شفى الناصري الأعرج والأبرص والأكمه..وبالإيـمان أقام الـميت.
«بالإيـمان وحّد محمّد الـجزيرة.
«بالإيـمان يعمل غاندي في الهند.
«بالإيـمان يعمل الـحزب القومي السوري.
«الإيـمان...الإيـمان...تبارك الـمؤمنون”
أي الـمؤمنون- على ما هو ظاهر- بالزعيم سعاده وصاحبه وحزبه!!
فالزعيم هو إذاً بـمصاف السيد الـمسيح له الـمجد وكنيسته الـمقدسة!! وتقول أيها الـمسيحي إن الـحزب لا يتعرّض للأديانّ وتـحلّل بقاءك فيه!!
لقد اتضح إذاً لكلّ من اعتبر ما تقدّم إن الـحزب يرمي إلى هدم أركان كل دين ولا سيما الـمسيحي حتى يبني على أنقاضه دولته الـجديدة. وقد حذا في ذلك حذو هتلر كما قلنا. فلو نـجح- وبالله العياذ- لقلنا على الـحرية الدينية في لبنان السلام.
يحاول الـحزب السوري القومي ملاشاة العقائد الدينية ليوحّد «عقلية» الأمة السورية ويحاول أيضاً للغاية نفسها ملاشاة الوطن اللبناني. ومثل هذا العمل الصادر من اللبنانيين عمل أبناء عاقّين تـحرّمه الشرائع الإلهية فضلاً عن العواطف الشريفة الطبيعية.
إليك أولاً الـمبدأ الرابع يبيّن فيه الزعيم مراده من قلب نظام لبنان وسورية الاقتصادي ظهراً لبطن:
«إلغاء الإقطاع، وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج، وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة».
يتبيّن لنا إن الزعيم غير ملمّ بالـمسائل الاقتصادية لأنه خلط في هذا الـمبدأ الرابع بين شتى الأمور. فما مراده «بإلغاء الإقطاع»؟ لعله يريد «الـملكية الـخصوصية» لأنه ليس في بلادنا إقطاعات بحصر الـمعنى. وزاد على هذه الـجملة الـمبهمة ما يجعلنا نعتقد أنه يرمي إلى تأسيس حالتنا الاقتصادية على «الإشتراكية».
لأنه جعل الإنتاج «أساس توزيع الثروة والعمل» (ص 156). وهو مبدأ الاشتراكية. ولا حاجة الآن إلى مناقشة طويلة في هذا الصدد إنـما نريد لفت نظر الـمسيحيين إلى أن الكنيسة حكمت على مبدأ الاشتراكية بأنه فاسد مضاد للشرائع الطبيعية والإلهية كما بيّن لاون الثالث عشر في براءته الـمشهورة التي مطلعها Rerum novarum الصادرة بتاريخ 15 أيار سنة 1891 التي جدّد تعاليمها البابا بيوس الحادي عشر في براءته Quadragesimo anno (سنة 1931) وفيها يقول:«لا يمكن أن أن يكون أحد كاثوليكياً صادقاً واشتراكياً بكل معنى الكلمة».
وعليه تكون مبادئ الـحزب السوري القومي منافية لتعليم الكنيسة حتى من الوجهة الاقتصادية.
غير أن هناك جريـمة أعظم وهي الـخروج بالقوة على السلطة الـمدنية الشرعية والـمجاهرة بالعصيان. وقد أشاروا إلى ذلك في الـمبدأ الخامس وأوضحوا ما غمض من معانيه في خطبهم الرسميّة.
الـمبدأ الـخامس- «إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن»
ليس الكلام على ما سيكون يوماً إذا أصبحت سورية دولة واحدة طبقاً لأمانيهم، ولكن على ما ينبغي فعله الآن ليقرروا مصير الأمة بالقوة. والقوة في شعارهم. لذلك وزّعوا من الآن «وزاراتهم» (!) وعينوا «عميداً» للحربية (!) (خافوا من لفظة وزير). وإليك بعض أقوالهم إثباتاً لصحة تأويلنا:
ورد في «خطاب الزعامة» - ص 30-35.
«إن الغرض الذي أنشئ له هذا الـحزب غرض أسمى. هو جعل الأمة السورية صاحبة السيادة على نفسها ووطنها. فقبل وجود الـحزب القومي السوري كان مصير هذه الأمة معلّقاً على إرادات خارجية، وكانت أنظارنا دائماً تتّجه إلى الإرادات الـخارجية بعد أن نكيّف أنفسنا وفاقاً لها. أما الآن فد غير وجود الـحزب السوري الـموقف. إن أرادتنا نحن هي التي تقرر كل شيء فنحن نقف على أرجلنا وندافع عن حقنا في الـحياة بقوتنا. ومن الآن فصاعداً تدير إرادتنا نحن دفة الأمور. كل عضو في الـحزب السوري القومي يشعر بأنه آخذ في التحرّر من السيادة الأجنبية والعوامل الـخارجية الـمخضعة. لأنه يشعر بأن الـحزب هو بـمثابة دولته الـمستقلة التي لا تستمد قوتها من انتداب ولا تستند إلى نفوذ خارجي».
«الـحقيقة أيها الرفاق إننا قد ترابطنا في هذه الـحزب لأجل عمل خطير جداً هو إنشاء دولتنا».
أليس هذا مجاهرة بالعصيان والـخروج على الدولة.
وفي ص 31:
«إننا قد حررنا أنفسنا ضمن الـحزب من السيادة الأجنبية والعوامل الـخارجية بقي علينا أن ننقذ أمتنا بأسرها وأن نحرّر وطننا بكامله»
وكيف؟ بالقوة - ص 32-35:
«سيأتي يوم وهو قريب، يشهد فيه العالم منظراً جديداً وحادثاً خطيراً: رجالاً متمنطقين بـمناطق سوداء على لباس رصاصي تلمع فوق رؤوسهم حراب مسنونة، يـمشون وراء رايات الزوبعة الـحمراء (رايات الـحزب) يحملها جبابرة (؟) من الـجيش...فتزحف غابات الأسنّة صفوفاً بديعة النظام، فتكون إرادة للأمة السورية لا تُردّ. لأن هذا هو القضاء والقدر».
ذكرنا كلامهم مطوّلاً حتى لا يبقى في عقل القارئ أدنى ريب في إنهم يريدون التوصل إلى تنفيذ مآربهم بقوة السلاح. وها هم يستعدّون لهذا العمل تـحت إدارة «عميد (وزير) الـحربية» !! وقد أتت أعمالهم الأخيرة مؤيدة لأقوالهم بالفعل. فقد عثر رجال التحقيق على لوائح منظماتهم، تـحمل أسماء كل من الـموظفين في هيئة «الـحكومة العتيدة» مع رُتبهم وصلاحياتهم الـخاصة، كما لو كان الـحزب قد استولى فعلاً على زمام الـحكم وبدأ مزاولة أعماله. بل لا يخفي أحداً ما يقوم به رجال القضاء من أعمال التحقيق في جرائم نسيت إلى رجال الـحزب، وأخصها الاعتداء على الأفراد وإقامة الدسائس على أخصام الـحزب.
لا نقول ما في هذا العمل من الهوس البالغ حدّ الـجنون إنـما ننظر إليه من الوجهة الدينية لنذكّر الـمسيحي بل كل عاقل إن هذا العصيان والـخروج على السلطة الشرعية غير جائز بل هو إثم فظيع.
ما لبنان، صغيراً كان أو كبيراً، إلا دولة شرعيّة بل هو وطن عزيز قاسى ما قاسى على مـمر الأجيال حتى بلغ إلى هذه الـحالة. وهو وحده أمة في سورية بكل معنى الكلمة، فبأي حق يريدون هدمه وملاشاته؟ لا يجوز الـخروج على سلطته لأن كل سلطان شرعي من الله «ومن قاوم السلطان إنما يعاند ترتيب الله» - رومية 7-1:13.
سلطة الدولة الـمنتدبة سلطة شرعيّة، لأنّها مقامة من قبل الـحلفاء الذين حررونا بدمائهم وأموالهم، فسلطتهم شرعية لا يـجوز إنكارها.
كذلك قل عن السلطة في سورية والعراق ومصر وباقي الدول التي يريدون أن يضمّوا أقساماً منها إلى سورية الـمستقبلة - ص 5-الـمبدأ الأساسي 5.
ويا ليتهم يدافعون في عملهم هذا عن حقوق راهنة ثابتة! ينخدعون ويخدعون بثرثرة الكلام منادين:«سورية للسوريين» فكيف يـمكنهم تعيين حدود سورية وأننا جميعاً سوريون بنو أمة واحدة، بينما هو مشهور أن سورية كانت من آلاف سنين ميداناً تطاحنت فيه أمـم عديدة وتعارضت فيه عناصر مختلفة. فأين الوحدة الشعبية؟ أين الوطنية عندهم؟ إنهم لا يفقهون حتى معنى الكلمة. وهب أن سكان سورية «أمة واحدة» فبأي منطق يستنتجون من هذا الـمبدأ أن لهم الـحق الأكيد الآن بأن يضعوا يدهم على أقاليم لها بعرف الكل مالكون شرعيون؟
نعم إن من الأراضي التي يريدون ضمّها إلى دولتهم الـموهومة ما هو تـحت سلطة شرعية غير السلطة السورية. ها هم يقرّرون بأن للعرب في فلسطين حق التملك لأصقاع واسعة كانت قديـماً لبني إسرائيل فنزعها منهم الرومان ثم العرب ثم الأتراك. فلماذا ينكرون على اليهود حق استرجاعها؟ إذاً يعترفون بأن مجرد سكنى شعب في أرض وامتلاكها مدّة، وإن طويلة، لا يخوّله إلى الأبد حق الرجوع إليها ليمتلكها متى شاء وكيف ما شاء. وعليه ليس للسوريين أن يتسلّطوا على أرض امتلكوها واستقلوا فيها منذ نحو ألفي سنة، وذلك لـمجرّد هذا الاحتلال القديـم. ومن الفظاعة أن يبنوا على هذا الـمبدأ الواهي مدّعاهم ويحاولوا أن ينالوه بقلب نظام لبنان الـحالي وسفك الدماء وخراب البلاد واستعبادها من أكثريّة انفصل لبنان عنها منذ أكثر من اثني عشر قرناً واستقل بذاته فألّف شعباً حقيقياً وإن صغيراً يختلف عن باقي جيرانه. هذا ما لا يستحلّه الدين ولا العقل. ولا يرضى به اللبنانيون الأحرار الذين عرفوا ما كلّف أجدادهم من تضحية وجهاد حتى كوّنوا لبنان وحافظوا فيه على حريّة إيـمانهم الـمقدّس وتقاليدهم الـمسيحية.
لا نكير أنه يجوز للبنانيين والسوريين أن يتحدوا، إذا أرادوا، لتأليف وطن واحد. إن الكنيسة لا تـمنعهم عن ذلك، شرط أن يباشروا هذا العمل بالطرق الـمشروعة، لا بالقيام على السلطة وسفك دماء الأبرياء ونقض أركان الأمن والنظام.
فالنتيجة واضحة لا يجوز مطلقاً للمسيحي، بل للعاقل الاشتراك بحزب هذه غايته وهذه أعماله الثورية.
ومـما يزيد مبادئ الـحزب فحشاً القسم([3]) الذي يربطهم بالـحزب وزعمائه وهذه صورته:
«أنا...أقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي على أنني أنتمي إلى الـحزب السوري القومي بكل إخلاص وكل عزيـمة صادقة، وأن اتخذ مبادئه القومية إيـماناً لي ولعائلتي وشعاراً لبيتي. وأن أحتفظ بأسراره فلا أبوح بها لا بالقول ولا بالكتابة ولا بالرسم ولا بالـحفر ولا بأية وسيلة وطريقة أخرى لا تطوعاً ولا تـحت أي نوع من أنواع الضغط. وأن أحفظ قوانينه ونظاماته وأخضع لها وأن أحترم قـراراته وأطيعها وأن أنفـذ جميع ما يعهد
به إلي بكل أمانة ودقة. وأن أسهر على مصلحته وأؤيد زعيمه وسلطته. وأن لا أخون الـحزب وأن أقدم كل مساعدة أتـمكن منها إلى أي فرد عامل من أفراد الـحزب متى كان محتاجاً إليها. وأن أفعل واجباتي نحو الـحزب بالضبط على كل هذا أقسم».
فهل يجوز لـمسيحي بل لعاقل أن يحلف مثل هذا القسم؟
إن فيه ثلاثة أشياء يقسم العضو أنه يحفظها:
1-«أن يتخذ مبادئ الـحزب إيـماناً له» الإيـمان هو اعتقاد بكلام الله. أفيجوز أن يُحلّ الـمسيحي الـحزب السوري محل الله حتى يؤمن بكلامه ومبادئه؟ وقد رأينا ما هي هذه الـمبادئ. إن هي إلاّ أضاليل وخيمة مستّرة ببهرجة الكلامّ!
2- أن يطيع وينفذ كل ما يؤمر به. قامت صيحة أعداء الكنيسة على اليسوعيين وغيرهم من الرهبان بسبب طاعتهم العمياء. وهيهات أن تكون طاعتهم كطاعة أرباب الـحزب. يعد اليسوعي وكل راهب بالطاعة حسب القوانين الـمقدسة الـمثبتة من الكنيسة وبـما يعهد إليه بشرط أن لا يكون فيه خطيئة. وأين هذا من طاعة أصحاب الـحزب الذين يقسمون بالطاعة «وتنفيذ جميع ما يعهد به إليهم». فلو عُهد إليهم أن يضربوا أو يقتلوا أو يشهدوا شهادة زور أو ينهبوا، فإنهم يقسمون بتنفيذه لأنهم في قسمهم لا يستثنون شيئاً. ولا عجب إذ أنهم ألَّهوا زعيمهم وحزبه.
3- أن يحفظ السر في كل ذلك. يطلب الزعماء الـخفاء في أعمالهم الثورية خوفاً من هجمات الأخصام «ومن السلطات التي قد لا ترغب في وجوده» (ص 6-1) فكأنهم يشعرون بأن عملهم سيئ: إن الشر يحب الـخفاء والتستر تـحت جناح الظلام وعلى كل حال فإن مسألته في غاية الأهمية تعرض للمسيحي وهي هذه:
لقد حرمت الكنيسة مراراً الـجمعيات السرية، منها الـحرم الذي أصدره لاون الثالث عشر([4])، وهو يتناول أيضاً أبناء الكنيسة الشرقية([5])، وهذا نصه:
«يُحرم حرماً بسيطاً لـمجرد الفعل..الـمنتمون للشيعة الـماسونية وما شابهها من الـجمعيات التي تناهض أما الكنيسة وأما السلطات الـمدنية الـمشروعة».
فهل يقع أعضاء الـحزب القومي السوري تـحت هذا الـحرم؟
أجمع علماء اللاهوت على أنه لا بدّ لـجمعية حتى تكون محرومة من أن تتوافر فيها الشروط الأربعة الآتية:
1- أن تكون جمعية حقيقية منظمة مؤلفة من جملة أعضاء يتعاهدون فيما بينهم على التعاون للحصول على غاية معلومة.
2- أن يخضعوا لرأس واحد يستمدون منه الأوامر ويرتبطون به بقوة القسم أو الوعد.
3- أن تكون أعمال الـجمعية سرية نوعاً.
4- أن تكون مناهضة للكنيسة أو للسلطة الـمدنية الـمشروعة.
والـحال أن الـحزب السوري القومي هو جمعية تـمت فيها الشروط الـمذكورة. فإن كل ما سبق وبيّناه من نظامه وخضوعه للزعامة ومناهضته للدين والـحكومة والقسم على كل ذلك مع حفظ السرّ يوضح كل الوضوح أن الـحزب هو من الـجمعيات الواقعة تـحت طائلة الـحرم الـمذكور.
هذا هو الـحزب السوري القومي. هو شيعة سريّة تسعى لـملاشاة الكنيسة الـمقدسة وكل دين ولـخراب لبنان.
وقد شاع مؤخراً أن فريقاً منهم لـما طاردتهم الـحكومة عدّل خطة الـحزب وحصر حدود الدولة في لبنان وحده. وشاع أيضاً أن الفريق الآخر في دمشق أعلن أن الـحزب يعمل لتحقيق الوحدة العربية التامة. ولكن عبثاً يعدلون خططهم الـمضحكة، فإن نتيجة بحثنا تبقى هي هي ما دامت مبادئهم هي هي.
لا يجوز الإنتماء إلى جمعية سرية غايتها ملاشاة العقائد الدينية وتغيير الهيئة الـحاكمة بطرق غير مشروعة وجعل الدولة اللبنانية دولة اشتراكية.
لنا تقاليد مجيدة ورثناها عن جدود فضّلوا حرية إيـمانهم الـمقدس على منافعهم الزمنية. فهجروا البلدان الداخلية حيث خيّم الظلم والاضطهاد. واعتصموا في رؤوس الـجبال من أكثر من ألف سنة وألّفوا فيها شعباً حقيقياً، وإن صغيراً له مبادئ «وعقلية» مسيحيّة مختصة به لا تـمنعهم مع ذلك من مؤاخاة من ليس على دينهم. وامتازوا بذلك عن جيرانهم كما شهد لهم الشاعر الفرنسي الشهير لامرتين لـما زار لبنان من نحو 100 سنة. فأصبح لبنان وطناً حقيقياً شرعيًّا لهم قد طالـما جاهدوا في سبيله وسفكوا دماءهم لـحفظه وتعزيزه غيرة على إيـمانهم الـمقدس.
فأي لبناني صميم يتجرأ على هدم هذا الصرح المجيد؟
إذاً ليكوننّ خائناً لله والوطن!
بيروت في 25 تـموز 1936
نشرت جريدة «الاتـحاد اللبناني» وثيقة خطيرة للحزب القومي السوري، عُثر عليها في أثناء التحقيق عن أعمال رجاله. وضع هذه الوثيقة الأستاذ عبدالله القبرصي في 18 كانون الأول من العام 1935، وضمنها بياناً عن حالة الـحزب وأعماله في الـمناطق اللبنانية، وإليك بعض ما جاء فيه:
«نظراً لصعوبة إنفاذ خطة هذه الدائرة فيما يتعلق بالـميليشيا، فقد انصرفت إلى تأليف فرقة للصيانة، قوامها فريق من الفدائيين، ووظيفتها إنفاذ القرارات التي تتخذ بشأن تمرد من الأعضاء أو وقوع إفشاء سر من أسرار الـحزب.
ويستفاد من التصريحات التي أدلى بها حضرة عميد الـحربية إن الإعدادات الأولية لوضع مشروع الـميليشيا، سائرة السير الطبيعي، والاتصال بين حضرة العميد والقائد الأعلى مستمر لوضع النقاط الهامة، وننتظر بعض النتائج من هذه الـجهة في الـخريف الـمقبل».
«تتابع عمدة الـخارجية درس التطورات السياسية العالـمية وتسجيلها للإستفادة منها في الظروف الـملائمة...ودائرة الـخارجية تبذل جهدها للإستفادة من الفوضى السائدة، وقد يكون لها شيء خاص، تقوله في البيان القادم».
«وقعت واقعة الـمونوبول الـمشهورة وصادفت زيارة بعض رجال الكتلة في دمشق إلى العراق والـجزيرة، وحادثة الـمونوبول وضعت أمامنا نقطة دقيقة للعمل، فقد طغى الشعور القومي على بعض أعضاء الـحزب، إلى أن اندفعوا في تأييد غبطة البطريرك الـماروني، اعتقاداً منهم أنه يـمثل الرأي العام في البلاد (كذا) وأنه يوجه نظره وأعماله شطر الاستقلال والـحرية (كذا أيضاً)..فأعاد حضرة الزعيم الـجليل (؟!) هؤلاء الأعضاء إلى رشدهم وفقاً للبند الأول والبند الثاني من بادئ الـحزب الأساسية: إن رجال الدين وزعامتهم لا يـمكن للحزب أن يسايرها حتى ولو كانت في سبيل الـمصلحة العامة، لأن حزبنا يحظر على رجال الدين التدخل في السياسة، ويقرأ مبدأ فصل الدين عن الدولة بصورة قاطعة لا تقبل تعليلاً ولا تأويلاً، على أن الـحزب لا يغفل عن الاستفادة من مثل هذه الظروف لبث دعاية ويتخذ من ظروف الـمونوبول فرصة نادرة، وخصوصاً الدليل على قصر نظر القائلين بأن فرنسة تفضل مصلحة لبنان على مصلحتها، وتتقيد لو تقيداً سطحياً بعهودها المعهودة وبـما يسمونه صداقة فرنسة التاريخية».
فمن هذه الشواهد الـجديدة يتبيّن جلياً أية طريقة يسلك الـحزب، فهو مؤامرة فظيعة تعمل على تـحقيق مبادئها الفاسدة بالقوة والعنف بواسطة جيش من «الفدائيين» يحارب تـحت راية الـحزب، متذرعاً بالعصي والـمسدسات لا بالبرهان العقلي والإقناع الطوعي.
كذلك تظهر دسيسة الـحزب لاغتنام الفرص الـملائمة للفتك بالإخصام وإقامة سيطرة أفراده على أبناء البلاد. وكل ما يعانيه الشعب الـمسكين من الـمآسي والـمتاعب يجب أن يكون أداة صالـحة لإحداث الفوضى. فما قضية الـمونوبول إلا ظرفاً عارضاً يستفيد منه الـحزب لأجل منافعه الـخاصة.-فيا الله!.
[1] راجع الأعمال الكاملة: ج 2 - ص: 332، 333 و351، ج 6 - ص 85، ج 8 - ص 4
[2] الصفحات والأعمدة التي نحيل إليها القارئ هي صفحات وأعمدة مجلة المعرض الصادرة في 25 شباط 1926
[3] وهناك قسم آخر وهو قسم العمد عند تنصيبهم (ص 29):« أُقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي على أن أكون أميناً للوظيفة متحملاً مسؤوليتها تجاه الزعامة محافظاً على سر الأعمال التي أؤتـمن عليها فلا يعرف أحد من الأعضاء مني إلا ما أنا مفوّض بتبليغه...»
[4] 20 نيسان 1884، راجع أيضاً قرارات الـمجمع الـمقدس 18 أيار 1886 و20 حزيران 1894 وقرار مجمع التفتيش الـمقدس الصادر في 15 تموز 1885.
[5] قرار مجمع نشر الإيـمان 6 آب 1886.