أدركت فرنسا أن خطتها الوحيدة لبقائها في سوريا لا تقوم إلا بزرع بذور الشقاق بين الأهلين لأنهم كلهم يكرهونها دون فارق بين الأديان والطوائف. فرأت أن تدرأ هذا الكره عنها برده عليهم أنفسهم حتى يكره بعضهم بعضاً. ولـما كانت على علم من أن التعصب الديني أمضى سلاح في يدها، عقدت العزيـمة على استعماله والتذرّع به لنيل أغراضها الأثيمة.
سنّت للبنان قانوناً سداه ولـحمته التعصّب الديني، فجعلت الوظائف تبعاً للطوائف. ولـما ناقشتها الطبقة الراقية الـحساب، ادّعت أن اللبنانيين يريدون ذلك، وهو خلاف الواقع لأن جمهور الشعب تنبّه الآن إلى واجبه الوطني وأدرك أن التعصّب شر آفاته، ولكن لو فرضنا جدلاً أن ما تدعيه فرنسا هو الواقع، فهلا تـجيب الأهالي إلى ما يضرهم من الـمطالب؟ فإذا كانت ألقت القبض على أعضاء مجلس إدارتهم وحلّت الـمجلس الـمذكور وعيّنت عوضاً عنه لـجنة إدارية تعييناً دون أن يهمها شعور اللبنانيين مقدار ذرة، أفما كان في وسعها وهي الدولة التي جاءت لتنويرنا وتدريبنا أن تضع قانوناً مبنياً على الوطنية لا الطائفية كما هي الـحال في سائر أصقاع العالم الـمتمدن؟
لم تفعل لأن إزالة التعصّب الديني ليس من مصلتحها، لذلك لـما رجع غورو من باريس شرع في إثارة الضغائن الطائفية والتحاسد الـمذهبي منذ اليوم الأول الذي عاد فيه إلى سوريا، فدعا أولاً البطرك الـماروني ومطارنته وحاشيته ثم فعل كذلك مع بطرك الكاثوليك وبطرك الروم ومشايخ الدروز ووجهاء الـمسلمين من سنيين وشيعيين إلى غير ذلك من الطوائف التي أصبح الـجنرال غورو في شؤونها أستاذاً أخصائياً.
إن منظر مـمثل الدولة التي تقول إنها جاءت لتعلّمنا الـحرية جالساً على هذه الصورة الـمضحكة بين رؤساء الطوائف والأديان لـمنظر غريب يدعو إلى الضحك، ولكن غورو يقول لنا «هكذا يريدون». أفلم يرد السوريون ألا يروا إفرنسياً في بلادهم، فلماذا لم تـجيبوهم إلى طلبهم؟ ألم يعلنوا إرادتهم أنهم لا يريدون قط وصايتكم فلماذا لم تـجيبوهم إلى طلبهم؟ من يقول لكم كلاّ في إزالة التعصب الديني؟ وهل احترمتم رأياً للبنانيين والسوريين حتى تقولوا هكذا يريدون وهكذا يطلبون؟
بيد أن الفرنسيس لم يكتفوا بإثارة التعصّب الديني، بل رأوا أن يثيروا أيضاً التعصب الإقليمي. فمنذ وطأت أقدامهم سوريا وضعوا إسفيناً بين حلب ودمشق فرعي الشجرة الواحدة، وغورو أخذ بيده الـمطرقة يضرب بها بكل قوة يده الواحدة وقد أبى على نفسه أن لا يرتد حتى يشق الشجرة شطرين.
حرّش بين الـحلبيين والدمشقيين منذ اليوم الأول الذي دخل فيه دمشق، وزيّن للأولين أن مدينتهم أولى بأن تكون عاصمة سوريا وكاد يحقق هذا الـمطمح الذي ولده هو في صدورهم لولا أن رأى بعد ذلك وجوب تقطيع سوريا وبتر كل ولاية منها على حدة تعود إليه في شؤونها، حتى لا يبقى لسوريا مرجع عام. ولكن لـما أُحبطت سياسته هذه ورأى نواب فرنسا أن السيل جاوز الزبى وأن لكل شيء حداً اضطروا الـحكومة الفرنسية إلى إرغامه على العدول عن ذلك، فعاد إلينا حاملاً في حقيبته الوحدة السورية على ما يقول ولكنه انتزع قلب سوريا من صدرها قاذفاً به سنة إلى دمشق وأخرى إلى حلب عازماً على تأليف مجلس مختلط من الـمدينتين يجتمع سنة في إحداهما وسنة في الأخرى ليحمل الـميزان مستوياً على ما يقول حفظاً للميزانية بين الشمال والـجنوب! فما هذه الوحدة السخرية التي لم يسمع بـمثلها في غابر الدهور؟ وماذا جرى يا تُرى حتى يحمل ميزاناً لا لزوم له ولا داعي إليه إلا التفريق وإلقاء عصا الشقاق!
وهو يحاول الآن جهده التفريق بين الـمسلمين والـمسيحيين الذين يقول إنه جاء ليحميهم من اعتداء الأكثرية مع أنه يبيعهم كلهم لقاء ابتسامة من الـمسلمين الذين رغماً من كل ذلك يكرهونه ويكرهون فرنسا كرهاً لا يوصف، والـحقيقة أن مواطنينا الـمسلمين قد أظهروا وطنية يستحقون لأجلها كل مديح وثناء، فقد أدركوا ما يريد الأجنبي من وراء التحريش بينهم وإخوانهم الـمسيحيين. وهذه الـحيلة التي كانت تـجوز سابقاً علينا وعليهم لا تـجوز الآن على عقلائنا وعقلائهم، فالـمسلمون والـمسيحيون في فلسطين أصبحوا الآن كتلة واحدة لا فارق بين أجزائها قط، والـمعجزة التي جرت هنا آخذة أيضاً في الظهور في سائر أنحاء سوريا، ويسرنا أن يشير أحد العضوين الـمسلمين في لـجنة لبنان الإدارية إلى تآخي الفلسطينيين طالباً من اللبنانيين الـجري على هذا النمط. وإننا لنشكر الفرنسيس على استبدادهم بنا ومحاولتهم التفريق بيننا لأن البلاد ستصبح عما قليل كتلة واحدة صهرها الظلم في بوتقة واحدة، وكما يخرج الذهب الـمصفى من البوتقة الكيمية كذلك سوف تخرج الوطنية السورية من البوتقة الفرنسية عندما يقف الـمسيحي والـمسلم والدرزي والشيعي في هيكل الوطن، ويصافح بعضهم بعضاً مصافحة الأخاء.
خليل سعاده