يقوم اليوم بعض زعماء لبنان في باريس بحركة سياسية يراد بها سلخ طرابلس عنه وإعادتها إلى سوريا، وذلك لأن في هذه الـمدينة أكثرية إسلامية ولأن للمسلمين في الساحل تهذيباً خاصاً بهم وللمسيحيين تهذيباً خاصاً أيضاً. أما وقد اختلف هذان التهذيبان تعذر رسوخ الـجمهورية اللبنانية وبقاؤها غرة في جبين الدهر!
لا ندري من الذي ابتكر هذه الفكرة الفلسفية التي تشف عن عقم سياسي نادر لا يضاهيه إلا العقم الفرنسي الباهر. ولكننا ندري أن الأستاذ إده رئيس الوزارة السابق آخذ في السعي لتنفيذ هذه الـخطة في العاصمة الفرنسية، وأنه كان قبل سفره على اتفاق مع بعض رجال الإكليروس الـماروني. ولكنه يسرنا أن البطريركية الـمارونية نفسها لم تكن راضية عن هذا البرنامج الغريب، بل عارضته كل الـمعارضة.
نحن لا يهمنا ما إذا كانت طرابلس تخص لبنان أو سوريا لأن البلدين بلد واحد والوطنين وطن واحد والدولتين دولة واحدة مهما حاول الـمستعمرون التفريق بين أبناء الوطن الواحد. والـحدود التي وضعتها فرنسا بين لبنان وسوريا أشبه بالـحدود التي يضعها صبيان الـمكاتب عندما يلعبون بعض ألعابهم. وهي على الـحقيقة حدود مضحكة لأنها ضمن بيت واحد.
بيد أن ما يهمنا إنـما هو هذه النعرة الدينية السخيفة العقيمة الـمؤذية الـمفرقة التي تبعث أخيراً إلى التعصبات الدينية والضغائن الطائفية والعودة بنا إلى أزمنة العصور الـمظلمة التي كان التعصب الديني أعقم أعمالها وشرّ أهوالها.
والأنكى من ذلك كله أن يكون الداعون إلى هذه الـخطة رجالاً بارزين في مراكزهم الاجتماعية يجب أن يكونوا في صدر الناقمين من التقاليد الرثة البالية التي أكل عليها الدهر وشرب وكانت في مقدمة الأسباب التي أفضت إلى تأخرنا وجهلنا وانحطاطنا والعود بنا إلى مطابق العصور الـمظلمة والأنوار الكهربائية الـمتألقة تـحيط بنا من كل جانب.
وماذا تنتظر أن يكون مصير جمهورية رثة بالية، رغماً من أنها ما تزال في عهد طفولتها، يقوم أحد رؤساء وزارتها السابقين من بين الـموميات الـمصرية أو الـمقابر الفينيقية ليرد لبنان الذي هو على الـحقيقة النسبية أرقى بلدان الشرق طراً في العلوم العالية وعدد الـمتخرجين من مدارسها إلى أزمنة الـجهل الـمطبق والضغائن الدينية التي تنفث في الصدور سماً زعافاً وتظلم البصائر وتخنق العواطف الشريفة ورحابة الصدور والتسامح الأخوي وتـملآ القلوب حقداً وغلاً وتـجعلها أضحوكة العالم.
ماذا تستفيدون أيها الفلاسفة من إنشاء جمهورية لبنانية مسيحية تخنقها من كل جانب مـملكة أو جمهورية سورية إسلامية؟ ماذا تستفيدون من إقامة التعصبات الدينية من قبورها ونبش الـحزازات الطائفية من مكامنها ونشر العصور الـمظلمة من أضرحتها؟ ألا يكفيكم ما فعلت بكم الدولة الـمحتلة إذ جعلت الوظائف بـموجب الطوائف رغماً منكم ومن صحافتكم الراقية التي احتجت الـمرة بعد الـمرة على هذا الاستبداد الذي ما أنزل الله به من سلطان؟
كيف تريدون أن تبقوا أنتم وحدكم أثراً من عصور التعصب ومَنْ حولكم يسيرون في طريق الـحرية والأخاء والـمساواة؟
الـمسلمون والأقباط الـمصريون كانوا مثلاً في التعصب الديني. أما اليوم فقد أصبحوا مثلاً في التضامن والأخاء. وقس عليهم الـمسلمين والـمسيحيين في جنوب سوريا، أي فلسطين، وسائر أنحاء سوريا. أفتريدون أن تكونوا أنتم الـمثل البارز في الشرق الأدنى على قرون الـجهل والتعصبات الدينية الذميمة؟
وهل تزعمون أنكم متى أنشأتـم جمهورية لبنانية أكثريتها مسيحية يتاح لكم التخلص من التعصبات الدينية؟ إنها منذ الآن تضحك منكم وتهزأ بكم. فالـموارنة يسابقون الروم الأرثوذكس منذ الساعة لنيل رئاسة الـجمهورية، والـمسلمون يسابقون الـموارنة والأرثوذكس على نيلها.
والكلمة الأخيرة في ذلك كله للدولة الـمحتلة رغماً من دساتيرنا وتقاليدنا، فهي إنـما وضعت قانون الوظائف بـموجب الطوائف كي يباري الـمواطنون في التزلف إليها وتـملقها فتقبض على أعناقهم ورقابهم بيد من حديد.
إن زمن التعصب الديني قد مضى وانقضى وسيدفن عما قليل في قبره إلى الأبد!
مصيبتنا ليست من الشعب الذي يريد أن يعيش بسلام واطمئنان وأخاء، بل إنـما هي من الذين نصبوا أنفسهم زعماء وهم الذين يتخذون التعصبات الدينية والـخلافات الطائفية وسيلة للسيادة ونيل الوظائف.
يجب أن نتحرر من الأقاليم والأديان والطوائف. وطريق الـحرية الـحقيقية أن نتحرر أولاً من أنفسنا وجهلنا وتعصباتنا. والطريق الأقصر لذلك أن نتحرر من زعمائنا الذين نصبوا أنفسهم حكاماً على الوطن بـمجرد انتمائهم إلى أسر قديـمة كانت تصل إلى الوظائف على عهد الأتراك بنفوذ الـمال والـجاه والتعصب الديني.
جاءت دولة الانتداب، فجرت على هذه الـخطة العقيمة السقيمة الضارة لأن هولاء الرجال أطوع لها من بنانها وأيسر لـمصلحتها. أما الرجال الراقون الـمتمدنون خريجو الـمدارس الراقية وأصحاب الأدمغة الـمفكرة فإنهم لا يرضون أن يكونوا عبيداً، بل أن يكونو خداماً أمناء لوطنهم يجرون به في سبيل التقدم والـجرأة والارتقاء والـحرية.
أما الرجال الذين يعملون لإيجاد جمهوريات تتضمن أكثريات وأقليات من الوجهة الدينية لا الوجهات السياسية والنظريات الوطنية فيجب أن نتحرر ونتخلص منهم بأسرع ما يـمكن.
جرى الـموظفون القدماء على هذه الـخطة لأنها كانت غالباً الصلاحية الوحيدة والأهلية الوحيدة لهم في نيل الوظائف. أما الآن فالطبقة الراقية الـمتمدنة حقيقة، وهي الـمؤلفة غالباً من خريجي الـجامعات والـمدارس العالية فعددها الآن كبير وهي التي يجمل بالبلاد أن تعهد إليها في القبض على أزمة الأعمال وشؤون الدولة متى صرنا دولة فعلية.
يجب أن يوضع حد للدول السخرية التي أنشئت في الوطن وجعلتنا هزؤاً وسخرية للعالم، وأن تتألف الوحدة الوطنية على أساس اللامركزية الواسعة فتكون كل ولاية مستقلة في شؤونها الداخلية استقلالاً تاماً، ويؤلف مندوبو الولايات مجلساً إشتراعياً نيابياً تعود إليه الدولة في شؤونها العامة.
ولـما كنا الآن على وشك ولوج طور جديد من حياتنا السياسية، نشدد في وجوب إعادة النظر إلى تقسيم الأمة طوائف دينية مـما لا يجوز صدوره قط من شعب متمدن يطمح إلى الـحياة السياسية والـحرية العصرية.
يجب أن تكون وظائف الدولة كلها حرة، أي يجب إسنادها إلى أصحاب الكفاءات الشخصية والأهليات العقلية مهما كانت أديانهم ومهما كانت طوائفهم.
لا يجوز حرمان الدولة من أهلية وكفاءة ونبوغ فرد من أفراد الأمة لأسباب دينية أو طائفية، فلا يجوز أن تـحصر رئاسة الوزارة مثلاً في دين من الأديان أو طائفة من الطوائف، ولا أن توزّع الوزارات على الأديان والطوائف كما هي الـحال الآن. يجب أن يكون شعارنا: كلنا للوطن والوطن لنا كلنا!
خليل سعاده