من أغرب شؤون الانتداب في سوريا أنه لم ينس شيئاً من بواعث التفريق التي كانت على عهد تركيا وفي صدرها علاقة الطوائف بالوظائف، مـما يدعو إلى الهزء والسخرية تـجاه العالم الـمتمدن.
في بيروت الآن حركة كبيرة يراد بها تصحيح موقف الـمسلمين تـجاه الوظائف، وقد وردنا بشأنها بيان يراه الـمطالع في موضع آخر[1]. وإذا نحن أثبتناه فذلك لا يعني أننا نريد إنـماء هذه الروح التي انتشرت الآن في الوطن انتشاراً كبيراً بفعل العادة والتقليد والـمباراة التي أرادت فرنسا إثارتها في الوطن لتتمكن من التفريق والتمزيق كما تشاء وكما تشاء مصلحتها.
من الغريب أن يجري الانتداب في البلاد شؤون الوظائف بـموجب الطوائف، وهو الذي جاء ليعلم البلاد الـحرية ويلقي عليها دروس الاستقلال. وكان الـمنتظر أن أول ما يبادر إليه إنـما هو إزالة الفوارق الدينية فيما يختص بالوظائف الوطنية. والأغرب من ذلك كله أن جمهور الشعب وجله من العامة كان على وجه الإجمال صوتاً واحداً محتجاً على هذا الشذوذ الغريب، طالباً أن لا يكون هنالك علاقة بين الوظائف والأديان. ولقد قامت جرائدنا في الوطن بواجبها وناصرت الشعب في مطالبه واحتجت على الـحكومة احتجاجاً شديداً، ولكن الـحكومة لم تعر هذه الاحتجاجات إلا إذناً صماء.
نعود الآن إلى البحث في هذا الـموضوع مرة أخرى لا لنلقي اللوم على طائفة دون أخرى، بل لندعو هذه الطوائف كلها إلى القيام بعمل ينقذها وينقذ الوطن من هذه الـمشاحنات والـمناقشات العقيمة التي يعرف القائمون بها عمقها أكثر منا.
إننا ندعو الـمسلمين من هذه الطوائف قبل سواهم، بصفتهم الأكثرية عدداً، ليقفوا موقفاً وطنياً بدل هذا الـموقف الطائفي، ويدعو مـمثلي الطوائف الأخرى للإتفاق وإياهم على تقديـم طلب لرئيس الـحكومة والـمفوض السامي يطلبون فيه إلغاء الـمادة القاضية بأن تكون الوظائف بـموجب الطوائف. وهذه الفرصة من أّول الفرص لهذا الغرض لأن الدستور اللبناني سيطرأ عليه تطور وتـحويل. فالوقت الـحاضر أنسب وقت لهذا الغرض، وبدلاً من أن تتبارى الطوائف في الـحصول على وظائف يجب أن تلتئم كلها لإلغاء هذه الـمادة من صلب الدستور.
نشعر بالـمثبطات التي تقف في هذا الطريق الوعر الـمسالك، وندرك ما يقوم بوجه القائمين بهذه الـحركة الوطنية الـخطيرة من جانب الطوائف والـحكومة والانتداب معاً. ولكن القيام بهذه الـخدمة الوطنية واجب من الطراز الأول، فالقضاء على الوظائف بـموجب الطوائف ركن من أركان نهضتنا القومية ودعامة راسخة من دعائم حياتنا الوطنية.
لا يكون هنالك وطنية صحيحة مخلصة إلا إذا أزيل تداخل الدين في السياسة والأحكام والإشتراع إزالة كلية، إذ كيف يشعر الوطنيون أنهم أخوة طالـما يشعرون بأن فواصل في حياتهم القومية تقف بينهم والواجبات الوطنية.
يتخذ الإستعماريون والـمحتلون هذه الذريعة الـمنكرة وسيلة لزرع بذار الشحناء وإلقاء الشقاق والـخصام بيننا نحن أبناء الوطن الواحد حتى لا تقوم لنا قائمة ولا تكون لنا وحدة. يضعون هذه الأسافين بين طوائف الوطن ويطرقونها بـمطارقهم حتى تنفصل الواحدة عن الأخرى تـمام الإنفصال ويشعر الإخوان أبناء الوطن الواحد أنهم غرباء في ديارهم بعضهم عن بعض، وأن هنالك قوة روحية تفرق بينهم فلا سبيل إلى الوفاق والإئتلاف.
من الغريب أن العادة جعلت هذا الـمظهر الوطني القبيح أمراً عادياً صقل الاستمرار نواتئه وخشونته، فأصبح من الشؤون الطبيعية التي لا نراها قبيحة لـمجرد رؤيتنا لها كل يوم. والدولة الـمحتلة تبدي كل ما في وسعها لتسعير نيران التعصبات الدينية لأنها النار الأكيدة الوحيدة التي تأكل الوطنية الصادقة الـحقة دون أن تشعر أنها تقوم بجريـمة فظيعة، بل تعتقد أنها تقوم بنصيبها هي من الوطنية الـمقدسة، لأن دستور الوطن يقدس الطائفيات، والـحكومة نفسها تـحرق البخور في مجامرها وتوقده بكل ما لها من قوى تشريعية وقضائية وتنفيذية وتـحمل مشعله بيدها متقدمة الـجماهير لأنها اعتادت ذلك منذ قرون متطاولة من الدهر ولأن مصلحة الـمحتلين تقضي وتأمر بذلك ولأنها هي في صدر صنائع الـمحتلين.
ترون يا سادتي مـما تقدم أن لا أمل بأن يقوم الـمحتلون بشيء في هذا السبيل على الإطلاق، ولا أمل أن تقوم الـحكومة أيضاً بشيء من ذلك لأنها صنيعة الـمحتلين الـمطيعة لإرشاداتهم وأوامرهم. والشعب نفسه لا يدرك الأخطار التي تتهدده من وراء التعصب الديني، وإذا أدركها فليس هنالك قوة منظمة تدير حملة على هذه الأمور الـمنكرة وتعرف كيف تسير بها في طريق الفلاح.
بقي أن الـمسؤولية واقعة على قواد الشعب وزعمائه وأصحاب الكلمة النافذة فيه، أعني قادة الطوائف وزعماءها وأصحاب الكلمة النافذة فيها، أعني نفس الزعماء الـمسلمين القائمين الآن بتقديـم عريضة بهذا الصدد إلى الـحكومة ونفس الزعماء الـمسيحيين وسواهم الذين قدموا عرائض سابقاً وسيقدمون عرائض في الاستقبال. فمن واجب هؤلاء جميعهم أن يقوموا بنصف دورة عسكرية حتى تصير ظهورهم في الـجهة التي ولوها وجوههم، ويضربوا صفحاً عن حقوق الوظائف الطائفية. وبدلاً من إرسال عرائض إلى الـحكومة يوجهون إلى إخوانهم من أصحاب الطوائف الأخرى لعقد اجتماع يكون الغرض منه إلغاء هذه الـمادة من صلب الدستور ووضع حد لهذه الألاعيب الـمخجلة التي يقوم بها الاحتلال جرياً على سياسته «فرّق تسد» وهو الذي جاءنا ليعلمنا مبادئ الـحرية ويدربنا على أصول الاستقلال.
من البديهي أن تخصيص طائفة دون أخرى بالقيام بهذا الواجب الوطني ظلم فاحش، فالاتفاق يجب أن يكون برضى الـجميع، وعلى الطائفة التي هي أكثر عدداً أن توجه هذا النداء وتقوم بهذه الدعوة التي غرضها وضع حد لتعيين الوظائف بـموجب الطوائف مـما لا يتفق والوطنية الـحقيقية والـحرية العصرية.
ومهما يكن من الأمر، فحيث وجدت الإرادة وجدت الطريقة. فإذا كان هنالك رغبة صادقة من الشعب وميل أكيد من الزعماء للتملص من هذا الـحجر الذي يضعه الاحتلال في أعناقنا، فالطريقة جلية واضحة. إن الـمباراة في الشكاوى إلى الإحتلال وتدبيج العرائض إلى رئيس الـحكومة والـمفوض السامي، فإنـما ذلك معاونة الـمحتلين على أنفسنا وإدخال الأسافين بين طوائفنا مـما يفضي أخيراً وسط هذه الـمشاحنات والـمناقشات والـمباراة إلى الاعتقاد بأننا أعداء بعضنا البعض.
يجب وضع حد لهذه الـحال العقيمة الـمحزنة التي لا تنتهي بالـخير إلى أحد، بل يترتب عليها شر عام وخلق سيئ وشعور عدائي بعضنا نحو البعض الآخر، فهي عبارة عن وباء وطني مفروض علينا أن نحتمل شروره ومساوئه وعواقبه الوخيمة دون تذمر ودون شكوى.
من واجب كبار الـمفكرين وزعماء الوطنيين من الطوائف كلها على اختلاف مشاربها ونزعاتها السياسية أن تتفق وتعمل يداً واحدة لوضع حد لهذه الـحالة الـمحزنة التي استسلم إليها وطننا بفعل العادة وتأثير التقاليد، وأن تقوم كلها بنهضة واحدة وطنية صادقة لإلغاء تلك الـمادة التي لا تتفق قط وصدق الوطنية وإخلاص الـمبدأ وإعلان الـحرية في تلك الربوع الـجميلة التي ظلت حيناً من الدهر تـحت نير الاستبداد ونير العبودية.
خليل سعاده
[1] طالب رئيس جمعية إتـحاد الشبيبة الإسلامية في بيروت الـحكومة اللبنانية بالـمحافظة على حقوق الطوائف الإسلامية باعتبارها نصف سكان البلاد. كما عرضت الـجمعية الإجحاف الواقع على الطوائف الـمسلمة ووجوب إنصافهم ورفع كل حيف عنهم].