حضرة الرئيس الـمحترم، أيها الزملاء الكرام!
بين فينة وفينة، تـحدث ضجة في لبنان، في الـمجلس بين النواب، بين الـمتزعمين والـمتنفذين، أو بين الذين تناولهم أسباب تلك الضجة مباشرة. وغالباً عندما لا تـحدث ضجة من تلقاء نفسها، تفتعل ضجة، لأسباب جزئية أو تـحزبية، في سبيل غاية شخصية أو فئوية معينة، أو ملهاة للناس عن أخطاء يراد تـحويل الرأي العام عنها.
وبعد حين قصير تخمد الضجة، ويتناساها الناس، نواباً كانوا أم مواطنين. وسبب خمود تلك الضجة يكون إما تسويات ضمن أربع جدران، ترضى الأشخاص أم الفئات الـمحتجة، وإما عامل الزمن والنسيان والقبول بالأمر الـمفعول. وإذا اشتدت الأزمة مرة وفشلت محاولة التسويات، قد يؤدي ذلك إلى إسقاط الـحكومة، لتأتي حكومة بعدها من نوعها في الطائفية والأساليب والغايات التحزبية، وهكذا تكون كل هذه الـمناورات ملهاة للشعب لتبقى الدولة مكبلة، أسيرة، في قوالبها وأشكالها وأعرافها الطائفية.
منذ أيام بدأت ضجة جديدة في لبنان، هي الأولى من نوعها في العهد الـجديد وبعد تشكيل وزارتين كانتا تكريساً جديداً للطائفية التي حاولت أن تعصف بلبنان وتشطره إلى شطرين فعجزت، كما كانت اعترافاً بجدارة الطائفية بحل معضلة الطائفية في لبنان، وهذا أفظع خطأ سياسي يـمكن أن يرتكبه وضع كوضعنا، كأن الذين اعتقدوا هذا الاعتقاد الـخاطئ، وحاولوا هذه الـمحاولة اليائسة كانوا يرددون مع الشاعر «وداوني بالتي كانت هي الداء».
إن آخر فئة يحق لها أن تعترض على أعمال حكومة من هذا النوع هو الـمجلس النيابي. أليس هو الذي قبل بها في الـمرة الأولى والثانية وأعطاها صلاحيات الـمراسيم الاشتراعية، فأولاها ثقة شبه مطلقة. وإذا كانت له مبرراته الظرفية في الـمرة الأولى، عندما قيل أن هذه الـحكومة هي بالـحقيقة لـجنة تهدئة لا حكومة كاملة، فما هي مبرراته في الـمرة الثانية.
ما حدث قد حدث، ولا لزوم للعودة إلى الـماضي، فالـماضي عندنا هو نفسه، منذ أربعين سنة، وخطيئات الـحكومات هي دائماً جزئية بالنسبة إلى أخطاء سياسية ارتكبتها وما تزال ترتكبها الـمجالس النيابية في لبنان.
أعتقد أنه قد حان لهذا الـمجلس الكريـم أن يعود إلى الأساس في أعماله، يحتج نوابه على التشكيلات الأخيرة ويضجون منها، ويتهمون الـحكومة بتحيزها الطائفي، وهم أنفسهم يكرسون الطائفية في دستور البلاد وقوانينها ويولون ثقتهم لـحكومة موغلة في طائفيتها بطبيعة تشكيلها. يهاجمون الطائفية في الـحكومة ويحافظون على تكريسها في الدستور والقوانين. يهاجمونها في الأشكال والأساليب والأخطاء الـجزئية والشخصية ويحافظون عليها في الـجوهر، في الأساس. كأن حياة هذا الشعب قائمة على الأشكال والقوالب لا على الـجوهر.
الطائفية هي العلة
كانت الطائفية وما تزال علة العلل في لبنان تقف عثرة رئيسية في سبيل كل إصلاح وكل تقدم. تـجزئ الـمجتمع إلى دوائر مغلقة، تقيم حواجز فاصلة بين طائفة وطائفة، وتبعد أبناء الشعب الواحد بعضهم عن بعض كأنهم من شعبين مختلفين، متعاكسين، متعاديين. هذا في الشعب، أما في الدولة فأنها تـحقر الكفاءات وتقضي على التخصص، وتـجني على الـمواهب فتصبح شهادات الـمواطن وكفاءاته ومواهبه هي طائفته.
أضف إلى ذلك التحزبات الاقليمية، والترضيات العائلية، والـمحسوبية. متى أضفنا كل هذا إلى أمراض الطائفية الـمتنوعة، هل يـمكننا أن نرجو اصلاحاً من حكومة جمعت جميع هذه الأمراض في داخلها كأنها وجدت لتمارس هذه الأمراض الـمزمنة، لا لتصلح أي شيء.
ولقد عودت حكوماتنا الشعب منذ كانت لنا حكومات، منذ ما بعد الـحرب الكونية الأولى، على الأساليب الطائفية، ومرنته عليها حتى استساغها وانـجر وراء حكوماته الطائفية كأنه يريد حكومات تـمثل أمراضه لا تقدمه وتـحرره وتطوره ليوصل دولته إلى مستوى الدول الراقية، دول القرن العشرين.
أليس هذا ما تشعرون به أيها الزملاء الكرام، أليس هذا ما تلمسينه أيتها الـحكومة الكريـمة، أليس هذا ما ترون الشعب يتألم منه، ويريد التخلص من هذه الأوضاع وآثارها السيئة في الـمجتمع؟
قلت أن الطائفية سبب كل علة، وهي التي تخرب على كل مسؤول يريد الإصلاح طريقة! الشعب يشتكي من الطائفية، والـموظفون يشتكون من حيف الطائفية عليهم، والدولة كلها ترزح تـحت عبء الطائفية وتشعر أنها تختنق. وهي تظهر للعالم دولة متخلفة عن دول الأرض جميعها.
من يحافظ إذن على الطائفية، من يريد بقاءها؟
تعايش مشترك
الإصلاح يا سادة، الإصلاح يا زملائي الكرام، لا يبدأ عند رئيس البلاد الأول، ولا عند رئيس الـحكومة، ولا عند الـحكومة بأجمعها.
الإصلاح يبدأ هنا! عندكم! في هذا الـمجلس. إن من العار علينا جميعاً أن نقف في هذا الـمجلس، يطالب كل منا بحقوق وهمية لطائفته، ويحتج على حيف لـحق بطائفته. ألم تقرأوا في جريدة يشرف على سياستها وزير في هذه الـحكومة. هذا الكلام:
«لنفقأ الدمل ولنعمد إلى الإحصاء»
«ولنحدد حقوق كل طائفة وواجباتها»
إلى أن تقول الـجريدة بلسان الوزير الـمشرف على سياستها:
«وإن أساس الإصلاح الـحقيقي هو، برأيي، أن نـجبه الصعوبة بجرأة، ولذا يجب أن نحدد حقوق الطوائف ونوضح مفاهيمها بعد أن نـجرد هذه الـحقوق جردة حقيقية، وعندما أقول «الـحقوق» أعني الواجبات أيضاً».
إنه لـمؤسف جداً أن تكون عقلية الـحاكمين في لبنان هذه العقلية ومفاهيمهم الإصلاحية هذه الـمفاهيم الفقيرة!
ثم تتكلم الـجريدة التي يشرف على سياستها وزير الـحكومة عن «التعايش الـمشترك»! نحن شعبان أم شعب واحد؟ أنحن بلدان أم بلد واحد؟
نحن شعب واحد يحيا حياة واحدة في بلد واحد ولا يجوز بأية صورة من الصور أن نتكلم عن تعايش مشترك.
علينا أن نزيل الـخلل
التعايش الـمشترك قد يدوم وقد لا يدوم، قد يستمر وقد يستغنى عنه. ولكن حياة الشعب الواحد لا تقبل هذه الإحتمالات. بل الـحياة الواحدة هي محتمة علينا إلى الأبد، وإذا كان طرأ من خلل على هذه الـحياة الواحدة منذ أيام العثمانيين فإن علينا في هذا الـمجلس أن نضع القوانين التي من شأنها أن تزيل هذا الـخلل.
إن شعوباً عديدة في العالم، حتى في هذا العصر، منيت بتصدعات داخلية كانت أعمق من تصدعاتنا ولكنها أقدمت بشجاعة وبسرعة على اصلاح جميع التصدعات وعادت حياتها إلى طبيعتها الأصلية والأصيلة. أما التعايش الـمشترك فهو تعبير لشيء غير موجود في بلادنا، ولا يجوز إطلاقه.
الـحقوق والطوائف
أعود إلى حقوق الطوائف
مبدأ حق معين لطائفة معينة، أو لعشيرة معينة، يزيد أو ينقص عن حقوق الـمواطنين الباقين، هو مبدأ دفن مع الشعوب البدائية أو الامبراطوريات الفردية الاستبدادية. ولا يجوز أن نقبل به أو بتقاليده وأعرافه في بلد راق كلبنان.
وإذا كان دستورنا، الذي وضعته في الأساس إرادة أجنبية، قد صنف الطوائف في التمثيل النيابي، فلا يجوز في أية حال من الأحوال أن نقبل بأن يتعمق هذا التصنيف حتى يصل إلى الأساس، إلى الشعب، في جميع معاملاته مع الدولة.
إن الـحقوق هي حقوق الشعب لا حقوق الطائفة. هي حقوق الـمواطن بقطع النظر عن طائفته. هي حقوق الكفاءة والنزاهة والـمواهب والاختصاص!
ولا يـمكن أن يصل الشعب إلى هذا الـحق طالـما نحن في هذا الـمجلس نكرس الطائفية ونـجعل منها سلاحاً للمتنفذين أو للطائفيين أو للمرتزقة من الساسة.
إذا شئتم إصلاحاً يا نواب لبنان، ويا رئيسهم الـمحترم فلنبدأ بالأساس، ولنبدأ في هذا الـمجلس، ولنضع الشعب والدولة والـحكومة وكل مؤسسات الدولة على الـخط الصحيح، وإلا فإن كلامنا جميعاً يكون للكلام فقط ولـمهاجمة أشخاص معينين، لغاية معينة. الطائفية يجب أن تلغى! من لا يقبل منكم بإلغائها؟ لـماذا نحن نخاف من إلغاء الطائفية؟ أتكون الطائفية أساس هذه الدولة؟ وإذا كانت تطفلت في البداية، أنرضى نحن، بعد أن قاسينا مساوئها وويلاتها أن يستمر تطفلها الذي سيؤدي حتماً إلى تفكيكنا؟
من تـحمي الطائفية؟
من تـحمي هذه الطائفية؟ وما هي وسائل الـحماية؟ أتـحمي الـمسيحيين؟ أتكون الـحماية في نيل وظائف للأتباع والـمحاسيب، وفي مراكز معينة في الدولة؟ أتكون الـحماية في أن تعطى لهذه الدولة اللبنانية الـمحبة لـجميع شعوب العالم العربي والتي تؤلف جزءاً من هذا العالم العربي، صبغة دينية معينة، تـجعل من هذه الدولة دولة متخلفة عن الدول الراقية في العالم؟
هذه ليست حماية، حماية الدولة هي في الشعب، هي في الـمواطن، هي في العدالة السياسية والاجتماعية التي تؤمنها الدولة للمواطن وللشعب، وليست الطائفية جديرة بأن تؤمن أي عدالة، لأنها ظلم للمجتمع كله. إن دولة تثق بعدالتها نحو الـمواطن لا تـحمي نفسها بالألوان الطائفية، بل بالـمواطن. وشعبنا، متى وضعتم له الأنظمة والشرائع والقوانين قادر أن يطبقها.
أتكون الطائفية حماية للمسلمين، وما هي وسائل هذه الـحماية؟ أتكون برئاسة الـحكومة ورئاسة الـمجلس ونصف مراكز ووظائف هذه الدولة؟ وفي أي مفهوم سياسي أو اجتماعي تكون الوظائف حماية لفئة معينة، أو انصافاً لفئة معينة؟ هل الـمسيحي يتوجه فقط إلى الـموظف الـمسيحي لتتميم معاملاته مع الدولة، أم هل الـمسلم يتوجه فقط إلى الـمسلم؟ كلا ليس هناك شيء من ذلك. إن الـمواطنين يثقون ببعضهم بعضاً، ومتى ساعدتهم القوانين والأنظمة والشرائع، تزداد هذه الثقة، ويندثر، تدريجياً، كل أثر للطائفية في نفوسهم.
إن الطائفية فاشلة في أوساط الشعب، وفي تعامل جميع الـمواطنين مع بعضهم بعضاً، والشعب لم يسهم في تكريسها، ولم يكن له رأي مباشر بشأنها. هناك مراجع معينة ومراكز معينة، ومتنفذون معينون، تعاونوا فيما بينهم وجروا الدولة تدريجياً لتتجمد عند هذا الـحضيض الطائفي الضعيف والـمعيب في آن واحد.
الـحكومة والثقة
حضرة الرئيس الـمحترم، حضرة الزملاء الكرام،
أنا لا أعود بكم إلى معالـجة الأسس، مهيباً بكم للإسراع بالـمعالـجة لكي نبدأ ببناء الدولة اللبنانية الصحيحة، متوخياً تـحويل هجومكم على الـحكومة إلى شيء آخر. كلا أنا لا أتوخى ذلك. فحجب الثقة عن هذه الـحكومة، التي جاءت فقط لظرف معين قد انتهى، هو ضروري فقد آن للبنان بعد حوادثه الـمؤسفة أن يرى حكومة ينسجم أعضاؤها لا بالسلبية الطائفية، بل بالإيجابية التحررية البناءة، الـجديرة بالفعل بأن تعيد بناء دوائر الدولة وملاكاتها.
وذلك لن يكون طالـما الطائفية مكرسة في دستور الدولة وقوانينها.
ولـمصلحة الـحكومة وكل حكومة من نوعها أقول: أن مجرد مجيء رئيس حكومة أو وزير مـمثلاً لطائفة معينة هو إيقاع هذا الرئيس أو ذاك الوزير تـحت فعل مركب الضعف الطائفي. فهو لا يشعر نفسياً أنه يـمثل الشعب كله بل طائفة معينة، وهو يشعر بواجب مباشر نحو الطائفة، قبل شعوره بواجب عام نحو الشعب. هذه حالة نفسية خطيرة يقاسيها كل رئيس حكومة وكل وزير منذ كانت لنا حكومات في لبنان. والـحملة على الـحكومة وكل حكومة يجب أن تبدأ بحملة على أنفسنا، على الـمجلس النيابي الذي لا يجرؤ على إلغاء الطائفية.
هيا ننقذ شعبنا..
هيا بنا، أيها الـمجلس الكريـم، ننقذ دستورنا وننقذ شعبنا وننقذ حكوماتنا من الطائفية ومركباتها إذا كنا حقيقة نريد أن نبني دولة عصرية راقية، قادرة أن تصلح التصدعات الطارئة في لبنان وأن تواجه الأحداث الـمرتقبة في الـمحيط العربي العام الذي تـحيا فيه هذه الدولة اللبنانية.
إن لبنان لا يحيا إلا بالنوعية الـممتازة، ولا يستمر إلا بالتفوق، إن التيارات السياسية الـمتنوعة العاصفة في الشرق الأوسط تـحتم على لبنان أن يتخلص مـما يعرقل بنيانه من جديد. وإلغاء الطائفية من جهة، ووضع ثقة الـمجلس في الشعب لا في القوالب والأشكال من جهة أخرى هما أساس كل عمل إصلاحي جديد.
لا يقدر لبنان بعد اليوم أن يكون متفرجاً في الشرق الأوسط، ولا يقدر أن يتوهم أنه بلد حيادي، أنه يحيا في محيط يغلي غلياناً شديداً، فاعلاً ذا نتائج بعيدة الأثر.
وإذا لم نتمكن من تـحويل لبنان إلى دولة دينميكية فاعلة، فإنه سيحتم عليه الانفعال والامتثال والانـجرار القسري بفعل البيئة، وفعل البيئة هو ناموس لا تتغلب عليه أية قوة في الدنيا: ناموس البيئة يحتم إما الفعل أو الانفعال!
...للتخلص من الطائفية
ولكي نتمكن أيها الزملاء الكرام من الـخروج من هذه الدوائر الطائفية الـمغلقة التي وضعنا فيها الأجنبي منذ أربعين سنة، يجب أن نبدأ بالإصلاحات الأساسية التالية:
1.إلغاء الطائفية السياسية من الدستور وإهمال جميع التقاليد والأعراف الـمتفرعة عنها في مؤسسات الدولة العليا، وفي جميع الدوائر.
2.إعلان حرية الأحوال الشخصية وإقامة نظام مدني لـجميع هذه الأحوال.
.3تشكيل حكومة جديدة قادرة أن تـجعل من لبنان دولة دينميكية، حية، فاعلة، مؤهلة أن تواجه الأحداث الكبيرة الـمرتقبة وأن تشترك مع الدول العربية في تقرير مصير هذه الـمنطقة الكبرى من العالم العربي.
كلمة أخيرة
وكلمتي الأخيرة هي هذه:
ليست الطائفية من مصلحة أحد، حتى ولا الـمصلحة الشخصية، أكثرية العاملين في الـميدان السياسي في لبنان لهم من نفوذهم الشعبي ومن قيمتهم الذاتية ما يؤهلهم للإستغناء عن الـحماية الطائفية.
ثقوا بالشعب أيها السادة!
إن شعبنا هو واع، وذو وجدان حي، وقادر أن يتحرر من هذه القوالب والأشكال والدوائر التي أمست معيبة بسمعته في العالم.
ثقوا بالشعب، واعملوا لإنقاذه، والشعب هو دائماً لكل عامل مخلص للحق والـخير والعدالة الاجتماعية.
أسد الأشقر