(نشر القسم الأكبـر من هذا الـمقال الهامّ في مجلـة كل شيء الغراء في تاريخ 25 آمارس/آذار 1949 وحالت ظروف الـمهنة دون نشر القسم الباقي. ولـما كان هذا الـمقال، ككل، بـمثابة كشف صريح واضح شامل لعلاقة جريدة الأوريان الفرنسية بالـمنتدب الفرنسي ولسياستها الـمعبّرة عن إرادة ورغبات الـمنتدب، وبتنصيبها نفسها منبراً للدولـة الـمنتدبـة وللدفـاع عنها في أعمـال خنق الـحريـة والرأي التي ذهب ضحيتها بالفعـل، وبفعـل الاضطهـاد الـجسـدي، بضعـة من خيـرة شبـاب الـحركة القومية الاجتماعية، والتي تناولت بالاضطهاد والتشريد والسجن مئات الشباب القومي الاجتماعي في عهد الإنتداب، كان من الضروري نشر هذا الـمقال كاملاً لإطلاع الرأي العام على ماضي هؤلاء الذين ينادون بالويل والثبور على خنق الـحرية والرأي بالاضطهاد والسجن!)
في التاسع عشر من شهر آذار/مارس الـحاضر، أصدرت محكمة الـمطبوعات حكماً في قضية صحيفة تصدر باللغة الفرنسية في هذه الـمدينة وتسمى الأوريان (الشرق). وقد قضى حكم الـمحكمة على صاحب الـجريدة وأحد مديريها، السيد جورج نقاش بالسجن ثلاثة أشهر، وعلى الـمدير الثاني للجريدة السيد كسروان لبكي بالسجن شهراً واحداً، وعلى جريدة الأوريان بالتعطيل ثمانية أشهر، لمـقالة كتبها مدير الـجريدة الأول السيد جورج نقاش وصدرت في عدد 15 مارس/آذار الـحاضر، من جريدته عنوانها: «نفيان لا يكوّنان أمة!» فجعل نزاع الـحزبيتين الدينيتين الـمذكورتين قائماً في (نفييـن): «لا الغرب ولا التعرب»، وقال إنّ هذين النفييـن أو الرفضيـن هما أساس التحالف الـمسيحي - الـمحمدي ضمن الكيان اللبناني. وتدرَّج الكاتب في تطوير فكرة مقالته إلى الـحملة على الـحكومة اللبنانية، حملةً جعلته تـحت طائلة قانون الـمطبوعات الـجديد، واتخذ من حملته على الـحكومة واسطة للانتقام لزوال السلطة الفرنسية من هذه البلاد ولـمحو بعض النفوذ الفرنسي الذي يسميه محو (كل نفوذ فرنسي أو لاتيني في الشرق الأدنى).
سبَّبت قضية الـجريدة الصاخبة لزوال بعض النفوذ الفرنسي من حصته في معاهدة سايكس - بيكو، ضجة كبيرة في جميع الأوساط الرجعية والـمتفرنسة، التي كانت على تـحـالـف مع الاحتـلال الفرنسي للبـلاد، والتي كـانت تنعـم بالاستنـاد إلى السلطة الاحتلالية الفرنسية، وتنعم السلطة الاحتلالية الفرنسية باعتمادها لتوطيد تسلطها على هذا الـجزء من منطقة نفوذها التي سمتها «اللوان» [Levant] تـجريداً لها من شخصيتها التاريخية الثقافية ومن صفتها القومية وإلـحاقاً لها «بفرنسة عبر البحار». فبعد أن نعمت تلك الفئة الانعزالية الاحتكارية بـمبادىء الظلم والطغيان، في عهد الاحتلال الفرنسي، وبقوانين خنق حرية اللبنانييـن الأحرار الذين رفضوا التفرنس و«اللوان» وحماية الـخونة من اللبنانييـن، وفي ذيول عهد ذلك الاحتلال الـمشؤوم، ارتاعت عندما رأت تلك الأصفاد عينها التي كانت تصفّق اغتباطاً لإطباقها على رجال نهضة الـحرية ونسائها في لبنان - رجال النهضة القومية الاجتماعية ونسائها - تطبق هي عينها على معاصم أستاذين من أساتذة اللغة الفرنسية وعقلية الثقافة الفرنسية الاستعمارية الناعمة، الـمرفَّهة، التي يكاد يجرحها لـمس «طربين الـحبق»! ارتاعت لأنها رأت بأعينها الـمفتحة، وهي تكاد لا تصدق لفرط الدهشة، أنّ السلاح الذي طالـما مجدت استعماله ضد الأحرار الـمعبرين عن نهضة أمتهم وحريتها وسيادتها والـمحاربين في سبيل إقامة مساواة في الـحقوق الـمدنية والسياسية لـجميع أعضاء الدولة، قد أُشهر في وجوه أبطال مبدأ هذا السلاح أنفسهم! فقامت تولول وتستغيث وتظهر تعلقاً بـمبدأ الـحرية الذي داسته بأقدامها، ودنّست أقداسه بـمكائدها وتآمرها عليـه وعلى أبطالـه من عهد طغيـان «الباب العالـي»، إلى عهد قـرارات «الـمفوض السامي»، وعهد النفسية الـموروثة من ثقافة القرن الذهبي وقصر الصنوبر و«البتي سراي»! وقد بلغ ارتياعها معظمه عندما أيقنت أنّ الأصفاد لم تكن لعبة مرسحية للهو، بل كانت جداً يقود إلى السجن، والسجن يقود إلى الـمحكمة، والـمحكمة تتجرأ وتـحكم على أبطال مبدأ الأصفاد والـمحاكمة على الفكر والقول أنفسهم! فقد أيقنت أنّ السحر قد انقلب أخيراً على الساحر!
إني أرى في قضيـة الأوريــان قضيتيـن لا قضيـة واحـدة: القضيـة الأولى هي قضيتهـا وقضيـة عقليتهـا ومبـادىء سيـاستهـا وأهـدافهـا التي تشتـرك فيهـا صحـف وأقـلام معروفـة في الدولـة اللبنانيـة، وهذه القضيـة تختـص بـمحكمـة الشعــب ومبـادىء الـحــق العـام والـحريـة؛ والقضيـة الثانيـة هي قضيتهـا تـجـاه قانـون الـمطبوعـات وقرار (الـمفوض السامي) أمـام محكمـة الـمطبوعـات. وللقضيتيـن روابـط تربطهما ربطـاً وثيقاً في الأسبـاب والنتائـج وفي الـمبــادىء والقواعـد والنظـر إلى الـحيـاة. فمـن حيث الـحـق العـام ومبـدأ الـحـريـة في لبنـان، كمـا مثّـلـت جـريـدة الأوريان وأضرابها الـحق العام ومبدأ الـحرية في هذا البيان، منذ أن وجد، كانت الـمعـاملـة التي عـومـل بها مديـرا الـجـريـدة النائحـة على زوال التسلـط الفرنسي معاملـة مرفقـة لطيفـة كثيـرة السهولـة والرفـق، بالنسبـة لـمـا كان ينـزل بالقومييـن الاجتماعييـن من ضروب الظلـم الـمؤيـد من تلك الصحـف، وكـان الـحكـم أقـل بكثير مـما يتوجب أداؤه لـمن أيد الطغيان وناصر مبدأ خنق حرية الفكر والقول كما فعل مديرا جريدة الأوريان وأضرابهما! ولكن لنترك لـمحكمة الـمطبوعات القضية التي تخصها ولنتجه إلى القضية التي تهم كل اللبنانييـن على اختلاف مذاهبهم السياسية والاجتماعية والقومية والدينية.
عاش اللبنانيون، ولا أقول حيوا، كما عاش غيرهم من أبناء أمتهم، بعد اندحار تركية في الـحرب العالـمية الأولى وحلول نعمة الاحتلال الأجنبي الأوروبي العصري عليهم، محرومين من حرية الفكر وحرية القول وحرية الاجتماع، محرومين من حق الـحياة والنمو والتطور وفاقاً لنفسية أمتهم الأصلية ولتفكيرهم الـمستقل في قضايا أمتهم الأساسية، فلم يكن جائزاً لأحد أن يفكر في تأليف حزب أو إنشاء صحيفة أو إلقاء خطاب أو نشر كراس إلا ما كان لتأييد الأم الـحنون في «ضم «اللوان» إلى أملاك «فرنسة عبر البحار»» وإلا ما كان اعترافاً بالأوضاع التي فرضتها فرنسة فرضاً على الشعب بالعنف الأجنبي الاستعماري وإقراراً لها، وإلا ما كان تسبيحاً بـمجد الدولة الفرنسية وحمداً لها على منحها قطعان البشر في منطقة «اللوان» حق التنفس وعلى شملها إياها بنعمة حمايتها.
في ذلك العهد نشأت جـريـدة الأوريان على أساس تناقض في وجودها فلم يكن لها خيـار في البقاء ضمن مبدأ التنـاقض الذي منه ولـدت وبه تعيش: فقد سمـاهـا مؤسسوها الأوريان أي الشرق، وسيّراها في خطط العنف الأجنبي والاستعمار الفرنسي وزعموا أنّ هذا التسيير الـمارق من حقيقة الشعب هو «أخذ بنهج الغرب»! فإسم الـجريدة يدل على أنها شرقية ونهجـها يدل على تخبط في الغربية. ولم تنجُ الأوريان، في وقت من الأوقات، من التناقض بين عقليتها الشرقية وشكليتها الغربية. فقد سبَّحت الأوريان بحمد الاحتلال الأجنبي على الطريقة الشرقية البديعة وأيدت كل تدابيـر العنف الفرنسي في هذه البلاد وكل الأوضاع التي أنشأها ذلك العنف، وأراد الاحتفاظ بها إلى الأبد ضمن نطاق «الصداقة التقليدية والعلاقات التاريخية والقـداديـس القنصـليـة»، وحـاربـت مع الفـرنسييـن النهضـة القـوميـة الاجتمـاعيـة التي نشـأت من صميـم الشعـب نهضـة عنـف قـومي اجتمـاعي في وجـه عنـف أجنبي استعبادي! هذه النهضة القومية الاجتماعيـة العظيمـة التي كفـى مجـرّد ظهـورها ليحمـل الـمفوض الأجنبي الـمنعوت بالسامي على اتخاذ تدابير خارقة العادة من الوجهة العسكرية واضطره إلى إعادة الوضع الدستوري في لبنان بعد أن كان «علّق» الدستور إلى أجل غير محدود!
لازم التناقض الأساسي في طبيعة الأوريان كل مواقف تلك الـجريدة في القضايا الـحقوقية والسياسية الأساسية، فهي أرادت أن تكون شرقية وغربية في آن واحد، وأيـدت جميع أعمال العنف الأجنبي وجميع أعمال العنف التي أجرتها حكومات العهد الأجنبي العنيف لتقوم اليوم تستنكر العنف الذي قامت به «الفئة التي استولت على السراي» وأقصت عنها الفئة العنيفة التي كانت الأوريان من الـمحظيات عندها ومن أنصـارها. فهي ترضى بالعنف وتقـول بـمبدأ العنف، وهي في الوقت نفسه، ترفض العنف ومبدأ العنف، ليس لسبـب مبـدأي صريـح تتمسـك به الأوريان بل لـمجرّد أنّ «الفئة التي ظلت مقصيَّة عن الـحكم مدة عشرين سنة» اغتنمت الفرصة ووثبت على الـحكم ضد الذين كانوا في الـحكم وحاولوا بكل الوسائل العنيفة البقاء في الـحكم الذي عهد به إليهم الـمستعمر الـمباشر الذي كانت الأوريان تسبّح بحمده بكرة وأصيلاً!
يقـول مديـر الأوريـان الأول في مقالتـه، التعيسـة على الرغـم مـما فيهـا من اعتـراف ببعـض الـحقائـق الهامـّة، إنّ اللبنانييـن قد حققـوا فلاحـاً في مختلـف حقـول النشـاط والإنتـاج، كانـت الدولـة تـود (وهـو يريـد الـحكومـة ولكنـه يقـول الدولـة زيادة في تعقيد سطحيـة معرفـة الشكليات الغربية) أن تعزو الفضل فيـه إلى نفسها. وبعـد هذا الاستنتـاج الـذي اهتـدى إليـه نبـوغ السيـد نقـاش الـخـارق، يظهـر هـذا الكـاتـب الفـذ بأحـرف بـارزة بـروزاً غير اعتيادي، خشيته من نـجاح «ظروف إنترناسيونيـة مساعدة» في قصـدها «إقصاء الوصاية الفرنسيـة على «اللـوان» بوحشية وإزالة كل نفوذ فرنسي أو لاتيني، في الشرق الأدنى.» فإذا صح ما ينسبه السيد نقاش إلى الـحكومة، كان ذلك دليلاً على استمرار تقاليد الاستعمار الفرنسي التي كانت تعزو كل تقدم عمراني في منطقة «اللوان» من البلاد السورية إلى نعمة ذلك الاستعمار لا دليلاً على زوالها!
ولا بد لي، في هذه العجالة، من تهنئة مدير الأوريان الأول بوجود قرار «الـمفوض السامي» 115 ر.ل. في جملة مستندات الـحكم تطميناً لصاحبها بأنّ بقايا نعمة الاحتلال الفرنسي لا تزال موجودة ومنتشرة في أماكن عديدة ومعمولاً بها أيضاً، إذا لم يكفـه تطمينـاً وجـود خمس صحـف أو أكثـر في بيـروت تصـدر بلغة «النفوذ الفرنسي»! فليس أحق من الذين أيدوا تدابير الاحتلال الأجنبي وتشريعاته من التمتع بنعمة تلك التدابير والتشريعات!
لا يجوز لفئة عملت، ولا تزال تعمل، على إقامة الظلم والطغيان، وعلى خنق الـحرية ودوس مبدأ الـحرية بالأقدام في كل سانحة أن تتذمر وتـحتج وتصخب، لأن خنق الـحرية الذي كانت تنعم بفيئه الـماضي قد تـحوّل إلى خنق تعسفها وفوضاها هي نفسها، أو لأن ما طلبت إنزاله بأعضاء في الدولة لهم ما لغيرهم من الـحقوق قد نزل بها هي نفسها أخيراً!
ما كـادت كل شـيء تنشـر مقالـي «.. والانعزالـية اللبنانيـة أفلسـت!» حتى اختـارت الأوريـان في تعليقـات مديرهـا الثانـي بعض عبـارات الـمقـال واختصرتهـا هكـذا: «ففـي هذه الدولـة الصغـرى من الـدول السوريـة توجـد فئـة نايـو رجعيـة متلبننـة تلبننـاً فرنسيـاً ترمي إلى فصـل اللبنانييـن الـمسيحييـن خاصـة عن بقية السوريين» وبدلاً من أن تلجـأ إلى الصراحـة وتذكـر صاحب العبارة وتناقـش القــول والـحجـة بغيـة الوصـول إلى الـحقيقــة، عمـدت إلى الـمواربـة والـدسّ وطلــب سجـن صاحب هـذا القـول الـحر ومحاكمتـه بتهمـة «الـخيانـة العظمـى!» هـذا ما طلبه مدير الأوريان الثاني، كاتب «حـوادث اليـوم» في الأوريـان في عدد 13 من فبراير/شباط الـماضـي ‘’K’’ أي كسـروان لبكـي، مدير الأوريـان الثـاني. ولم يصـادف هذا الـدس والتحريـض على اضطهـاد حريـة الفكـر والقـول أي احتجـاج من مديـر الأوريـان الأول ولا من غيـره من الذين يتشدقـون بالغيـرة على حريـة الفكـر والقـول، وهـم يقصــدون حريــة الفكــر الانعـزالـي والاحتكــاري لـحـق الشعـب ومصيره وخنق مبدأ حرية الفكر العامة([1]).
ولم يكد يجف حبر تعليق الـجريدة على عبارتي الـمشار إليها، حتى انبرى السيد جورج نقاش يعلن في مقالته التي أوجبت محاكمته حقائق اجتماعية سياسية أعلنها غيره قبله، ويستخدم هذه الـحقائق بعد تشويهها لـمهاجمة الـحكومة التي سبق لـجريدته وطلبت منها استعمال القضاء لزج أنطون سعاده في السجن ومحاكمته، استبداداً وطغياناً، بتهمة «الـخيانة العظمى»! ومن أغرب متناقضات الأوريان الشرقية ضد الغرب، والغربية ضد الشرق، أنه بينما مديرها الثاني يطلب من الـحكومة أن تضطهد حرية الفكر وأن تستعمل القضاء لـمحاربة حرية الفكر يقوم مديرها الأول بـمهاجمة الـحكومة في ما نسب إليها من تدخل في شؤون القضاء!
ماذا كان موقف الأوريان وأضرابها أمثال العمل من حرية الفكر والقول يوم وصلت عائداً من أميركة في 2 مارس/آذار سنة 1947، وألقيت خطابي الأول على القوميين الاجتماعيين الذي أعلنت فيه تأكيدي أنّ القوميين الاجتماعيين ليسوا أعداء للكيان اللبناني، وأنّ هذا الكيان يجب أن يعني «نطاق ضمان للفكر ولانطلاق الفكر في سورية الطبيعية كلها»؟ كان موقف تلك الصحف الصخب والتهويل وتـحريض الـحكومة على منع حرية القوميين الاجتماعيين الذين يعبّرون التعبير الصادق عن حقيقة اللبنانيين وإرادتهم في الـحياة ويحاربون الفكر الـمستعبد بالفكر الـحر، لا بالتحريض على الإرهاب وخنق الـحرية! ومن أغرب غرائب عقلية الاستغراب الشرقي التي تتصف بها فئـة الانعـزاليـة اللبنانيـة أنّ جماعـة أكسيون أو العمل نقلت عبـارتي القائلـة بانطـلاق الفكر فقالت في إحدى افتتاحياتها إنها تريد لبنان انطلاقاً فكرياً إلى ما حوله! وفي عرفها أنه يجوز للمتلبنن تلبنناً انعزالياً ما لا يجوز للبناني الصميم!
وفي افتتاحية العمل لعدد 2 مارس/آذار الـماضي يخاطب كاتب الافتتاحية بلسان تلك الصحيفة، العروبيين الذين تناظرهم جماعة الانعزالية اللبنانية قائلاً: «إسمحوا للآخرين أن يفكروا غير تفكيركم وأن يكوّنوا لهم رأياً سياسياً غير رأيكم.» فبأي حق تطلب جماعة الرجعية الانعزالية أن تكون لها حرية فكر تنكرها على أحرار اللبنانييـن التقدميين، وبأي حق تنكر على اللبنانيين الذين حاربوا الاحتلال الأجنبي، الذي نشأت تلك الـجماعة على أساس التعاقد معه، الـحق الذي تطلبه لنفسها؟
شوَّهت جماعة أكسيون خطابي يوم وصولي إلى الوطن، ونسبت إليّ ما لم أقله، وطلبت من الـحكومة استعمال القوات الـمسلحة لـحجز حريتي ولـمحاكمتي بتهمة باطلة: إني أحاول اقتطاع أرض لبنانية وضمها إلى دولة أجنبية! وهذه الـجماعة التي صخبت لـمجرّد قولي بانطلاق الفكر في سورية الطبيعية ونسبت إليَّ محاولة اقتطاع أرض لبنانية لم تصخب ذاك الصخب، ونزلت حرارتها إلى ما يقارب الصفر، عندما اقتحم اليهود الـحدود اللبنانية واقتطعوا أرضاً لبنانية محاولين إلـحاقها «بدولة إسرائيل!»
تلك الفئة النايو رجعية الـخارجة على حقيقة اللبنانيين، بصحفها الفرنسية والـمتفرنسة، وتشكيلتها الفلنجية أو الكتائبية التي كانت تقول، إنها ليست سوى مجرّد جمعية رياضية تريد الدفاع عن لفظة لبنان، ثم قفزت بالانتحال والتقليد إلى حزب سياسي عقدي له «نظرة إلى الـحياة والكون»، تلك الفئة الـمؤلفة من أخلاط شرقية بنفسيتها، مقلدة ببعض الشكليات الغربية، شاذة عن حقيقة أمتها، كانت ولا تزال ترى أنه يجب محاربة تفكير اللبنانييـن الـمعبِّرين عن حقيقة لبنان وسكانه بالطغيان والإرهاب، فلما أحاق بها ما تسميه عدلاً عندما ينزل بغيرها وظلماً عندما ينزل بها هي فقط، وحلّ بتعسفها ما تطلب أن يحلّ بأحرار الفكر في لبنان - برجال النهضة القومية الاجتماعية ونسائها الذين نهضوا لـمحاربة كل طغيان أجنبي وداخلي - أخذت تندب مصير الـحرية في الـجمهورية اللبنانية لأن السلاح الذي تطلب استعماله ضد الآخرين قد ارتد عليها!
إنّ الـحرية التي يندبها اليوم أبطال القزمية الـمجعجِعة قد ماتت خنقاً بأيديهم هم من زمان، وتدنست أقداسها بنايو رجعيتهم وعقليتهم الشرقية الـمستغربة! إنّ نقمتهم كان يجب أن تكون على أنفسهم لا على القضاء الذي أرادوه ملاحقاً لغيرهم ظلماً وعدواناً.
إنّ الأوريان قد رأت العنف في وثبة «فئة مقصية عن الـحكم مدة عشرين سنة» ولم ترَ العنف حين قبض الاستعمار الفرنسي على أعضاء مجلس إدارة لبنان سنة 1920 ونفاهم إلى جزيرة كورسكة، لأنهم ارتكبوا جريـمة مخالفة خطط الاستعمار الفرنسي والنفوذ الفرنسي، وقرروا التفاهم مع إخوانهم في الشام على لا مركزية سورية! كما اتهمهم الـمفوض الفرنسي حينذاك، إنها لم ترَ العنف في دوس الفرنسيين مبادىء الديـموقراطية التي يتبجحون بها ووضعهم أيديهم على نواب الشعب الذين لم ينالوا نيابتهم في 25 مايو/أيار ولم ترَ لا هي ولا أضرابها، العنف في تعليق الدستور اللبناني إلى أن أعاده ظهور العنف السوري القومي الاجتماعي!
إنّ صاحب الأوريان قد خرج في مقالته، التي أدت إلى توقيفه، عن حدود الرأي وخلط بعض الـحقائق بأحقاده وأحقاد جماعته على الذين تسلّموا الـحكم منذ سنة 1943 وشوّه بعض الـحقائق الأخرى. فاستحقت أحقاده الـمتفجرة العقوبة التي طبقت الـمحكمة مبادئه هو أيضاً بإصدارها.
قال صاحب الأوريان في الـمحكمة: «إذا كنا في لبنان 1949 لا نستطيع أن نعبّر عن رأينا بحريّة فلنحطم أقلامنا.» وقد سها عن الـحقيقة أنّ حبر جريدته الـمطالبة بخنق الـحرية وبـملاحقة من يعبّر التعبير الصحيح عن إرادة اللبنانيين الذين لم يثقفوا في النفوذ الفرنسي الاستعماري، لم يكد يجف!
إنّ الأقلام التي عملت طوال حياتها على تـحطيم الـحرية يجب أن تـحطم!
قد انقلب السحر على الساحر! وقد ظهرت بطولة جبابرة الـحرية القزمية بكل سخفها وتعاستها!
إنّ مأساة الـحرية الكبرى ليست الـمحاكم ولا السجون! إنها أقلام العبودية في معارك الـحرية!
[1] الـجيل الـجديد - بهذه الـمناسبة تقضي الـحقيقة بأن يعلن أنّ السيد كسروان لبكي أعلن اعتناقه مبادئ الـحزب السوري القومي الاجتماعي سنة 1935 أو 1936، وهو بعد طالب علم وقَدِمَ إلى الكوخ القائم في رأس بيروت الذي كان الـمركز الأول الـمستقل للحزب مع طلبة آخرين ليتمم معاملة الانتماء. فتولت عملية القبول لـجنة توخت إكساب الانضمام صفة رهيبة، عميقة، فأطفأت الكهربـاء وأنـارت شمعـة، وأخـرج أحـد أعضائها مسدساً ليفهم طـالبي الانضمام أنّ الـحـركـة في حربها مع الاحتلال الأجنبي تطلب مواجهة الأخطار والاستعداد للتضحية. ويوجد شهود يعلنون أنّ كسروان لبكي أصيب بـوجـل وارتـجاف لدى رؤيته الـمسدس وأشباح الرفقاء في ضـوء الشمعة وكاد يغمى عليه فلم يتمكن من أداء القَسَم في ذلك الـمساء ولم يحاول مرة أخرى!