عادت الـحكومة التي دبّرت الانتخابات الـمزيّفة إلى الـحكم، إلا بضعة من رجالها، اقتضت بعض الأسباب بقاءهم خارج الـحكم، بعد أن أمّنوا دخولهم الـمجلس النيابي.
وقد تولى وزارة الداخلية في الوزارة الـجديدة التي تألفت قبل التثبت من صحة الـمجلس النيابي الـجديد السيد كميل شمعون أحد أعضاء «الكتلة الدستورية» القديـمة الـمزاحمة لـ «الكتلة الوطنية»، في ذلك العهد، على التعاون مع الاحتلال الفرنسي لـما فيه مصلحة الاحتلال الفرنسي، ورئيس اللائحة الـحكومية الرابحة في الانتخابات الأخيرة الـمزيفة والـمعترف بزيفها في هذا العهد «الاستقلالي».
ويشعر السيد كميل شمعون، ويشاركه في هذا الشعور أكثر وأقوى أعضاء الوزارة الصلحية الرابعة، أنّ سوء حالة الدولة اللبنانية وقلق الشعب اللبناني على مصيره من جراء فساد الإدارة والتكالب على الـحكم الذي تـجلى بأروع مظاهره في التمهيد البارد الـمستمر للانتخابات وفي حوادث الضغط والإرهاب والشراسة والتزوير والتزييف التي أخذت مجراها قبيل يوم الانتخابات وفي ذاك اليوم التاريخي بصورة طبيعية تقشعر لطبيعتها أجساد النفوس الـحرة الأبيّة، قد يجرّان إلى حوادث تقلقل الـحالة التي بذلوا جهدهم لإيجادها وتهدم الوضعية الشاذة التي أرادوا ربط مصير الشعب بها بواسطة التهويل والإرهاب.
يحمل الشعور الـمتقدم وصفه السيد كميل شمعون، وقد قبض بيده الـمتقضبة على مقاليد وزارة الداخلية، على طلب «الهدوء والطمأنينة»، ليس بإزالة أسباب سوء الـحالة وقلق الشعب، بل بـمصادرة وسائل الدفاع عن الـحق والشرف من الشعب الـخائب الأمل في الـحكم والإدارة. فأذاع في العاشر من شهر يونيو/حزيران الـحاضر البلاغ الوزاري الآتي نصه:
«يلفت وزير الداخلية نظر الأهلين إلى ضرورة الامتناع عن نقل الأسلحة الـحربية واستعمالها مهما كانت الـمناسبات، مذكِّراً بالـملاحقات العدلية الصارمة (يعني القاسية) التي يستهدفها (يعني يستهدف لها) الـمخالفون أمام الـمحاكم العسكرية.
«لقد أعطيت التعليمات الـمشددة إلى مختلف قوى الأمن بـملاحقة كل مخالفة من هذا النوع بشتى الوسائل ومنتهى الشدة. فالأشخاص الذين بحوزتهم أسلحة حربية مدعوون إلى التصريح عنها (أي بوجودها) أو تسليمها فلا يستهدفون (يريد لئلا يستهدفوا) للملاحقات القانونية والعسكرية.
«يأمل وزير الداخلية من الـجميع أن يتفهّموا الغاية التي لأجلها عمدت الـحكومة إلى اتخاذ هذا التدبير القاضي بوضع حد نهائي لنقل الأسلحة الـحربية واستعمالها في بلد هو بحاجة إلى الهدوء والطمأنينة.»
وقد بلغنا من مصادر أنّ تعليمات حضرة وزير الداخلية لقوات الأمن، من جيش ودرك وشرطة وتـحرٍّ اشتملت على مصادرة الأسلحة ليس فقط في حالة نقلها واستعمالها، بل في حالة وجودها في دور الأهلين، وأنّ تدابير تـجري لـمحاصرة الـمناطق بالقوة الـمسلحة ودخول البيوت في الـمدن والقرى وقلب أساسها رأساً على عقب بحثاً عن سلاح محتمل الوجود.
يأمل حضرة وزير الداخلية «من الـجميع» أن يتفهموا الغاية من مصادرة الأسلحة وإننا نزولاً عند أمله فقط، نحاول درس الـحالة التي دفعت الشعب اللبناني الهادىء الـمطمئن الذي كان غافلاً عن قضايا الـحياة القومية، إلى اقتناء السلاح وتدفع الـحكومة اليوم إلى طلب تـجريده من سلاحه.
سكنت الأمة السورية واستكانت للسلطات الأجنبية التي استباحت حماها واحتلت بلادها، وكان أشد أجزائها سكوناً واستكانة شعب لبنان. فتعاظم الطغيان الأجنبي الذي أتاح لـجمال باشا التركي أن يشنق في سورية كل من فكّر في تـحرير أمته وإنهاض أمـم العالم العربي، وأن يسرح ويـمرح في طول سورية وعرضها غير هياب ولا وجل.
شيئاً فشيئاً أخذ الشعب يدرك أنّ فقْد السلاح وترك الـحرب يورث الطمع الأجنبي والذل القومي. وفي توالي حوادث الطغيان طلب الشعب سلامته باقتناء السلاح للدفاع عن حياته وكرامته فاقتناه من قَدِرَ وتركه من لم يكن له به قبل.
مع ذلك لم يستعمـل الشعب سلاحـه ليفتك بعضه ببعض. والـحالات التي استعمله فيها بصورة مجموعية كانت حالات الدفاع عن النفس تـجاه الطغيان للمعتدي على حقوقه.
ولم يكن وجود السلاح سبباً في وقوع حوادث الإجرام الاعتيادية التي لا تتمكن من دفعها مصادرة السلاح من الأهلين ولا يخففها غير ترقية نفسية الشعب وأخلاقه وتـحسين سلوكيته.
مـما لا شك فيه أنّ الـحكومة لا تقصد بتدبيرها الـمشار إليه وضع حد لـحوادث الانتحار والانتقام الفردي. فإن جميع هذه الـحوادث تـجري في العالم بصورة اعتيادية في جميع الـمناطق الـمسلحة والـمجرّدة من السلاح على السواء، ولم يُسمع أنّ تـجريد بلاد من السلاح قضى على هذه الـحوادث.
يعترف وزير الداخلية في بلاغه بأن البلد في اضطراب وقلق. وهذا الاعتراف واضح صريح في العبارة الأخيرة من بلاغه: «بلد هو بحاجة إلى الهدوء والطمأنينة» فإذا كان الأمر كذلك فهل حاول حضرته أن يتفهم سبب اضطراب البلد وقلقه، كما أوصى «الـجميع أن يتفهموا الغاية التي يتوخاها من تـجريد الشعب من السلاح عنوة.»؟
لا شك في أنّ سبب اضطراب البلد وقلقه ليس وجود السلاح في أيدي الأهلين الوادعين الـمحبين السلام والطمأنينة، بل هو شيء آخر: هو فساد الإدارة والتكالب على الـحكم. هو الأرض بور!، هو الفوضى تدور!، هو تسخير القضاء لأهواء حكّام تـمرنوا في عهد الاحتلال الأجنبي على الاستهزاء بالشعب واحتقار أمانيه! هو استصدار مذكرة توقيف وحجز حرية زعيم النهضة القومية الاجتماعية بلا موجب إلا مشيئة من يريدون إبقاء الـحرية القومية مكبّلة بالسلاسل عينها التي كبّلها بها الاحتلال الفرنسي، هو تعطيل الصحف الـحرة بالطريقة عينها الـخالية من الـمسؤولية التي كان يعتمدها الاحتلال الأجنبي، هو تعطيل حرية الناخبين بهذه الوسائل وألوف غيرها كالـمكر والغش والبرطيل والتزوير والتزييف، هو الادعاء بعد ذلك أنّ مجلساً يولد بهذه الطرق هو مجلس تـمثيلي صحيح يصح أن تستند إليه وزارة انبثقت منه قبل تـمام ولادته هو!
هذا هو، في رأينا وتفهّمنا، سبب اضطراب هذا البلد الهادىء بطبيعته وسبب قلقه. فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فالهدوء والطمأنينة لا يعودان إليه بـمحاولة تـجريده من السلاح الذي في حوزته بالقوة.
إنّ عملاً من هذا النوع هو أجدر، في هذه الظروف، بترويع أهله وزيادة قلقهم على مصيرهم ومصير حريـة جاهد مجاهـدو نهضتهـم القومية الاجتماعيـة في سبيلها سنين طويلة وقامت فئة استقلالية تستغلها بعمل مرسحي. بئس الاستقلال، إذا لم يكن مرتكزاً إلى ما هو أصدق تعبيراً عن إرادة الأمة منه!
إنّ سلسلة طويلة من الـحوادث أفقدت الشعب اطمئنانه إلى حكم قام عليه الرجال الذين تولوه حتى الآن وإلى أوضاع لا تزال تـحمل قيود الأجنبي وسلاسله. فالشعب يشعر أنّ حق الـحرية وحق مـمارستها مفقودان، وأنّ مسؤولية الـحكم مفقودة فقد جرحت القوانين الاستبدادية والتشاريع الاعتباطية والتدابير الـجامحة الشعب في شرفه وعزّه وحريته وإبائه فلا يـمكنه أن يثق بها ولا أن يطمئن إليها. وطلب تـجريده من السلاح بالقوة في هذا الظرف من جيشان النفوس لا يزيده إلا قلقاً على قلق واضطراباً على اضطراب.
إذا كانت الـحكومة تظن أنها بـمثل تدبير وزير داخليتها تأمن شر تفاقم حالة لم تـحسن تدبيرها فظنُّها يدل على مبلغ جهلها سياسة شعب حر قد أيقظته النهضة القومية الاجتماعية إلى حقيقته وحقه، وعلى مبلغ جهلها التاريخ!
طمئنوا الشعب إلى حقه وحريته يُلقِ إليكم سلاحه من غير طلب!