في برقية صادرة عن بيروت في الثامن والعشرين من أبريل/نيسان الـماضي ومنشورة في جريدة غازيته، توكومان، في التاسع والعشرين منه، أنّ الـحكومة في بيروت أمرت بالقبض على عدد من «الـمشاغبين»، وأنّ مئة من هؤلاء أوقفوا وأنّ الـحكومة سيدة الـموقف وأنّ حظر التجول ليلاً يستمر!
لم نكن متفائلين بتلك الضجة التي أثيرت في الأثير لتوهم الناس أنّ رجال الرجعة والنعرات القديـمة الذين يتصدرون مجالس الـحكم في لبنان اليوم قد صاروا رجال قومية وثورة. وفي تعليقنا على الـحوادث السياسية الأخيرة في منطقة لبنان أثبتنا، في عدد سابق من هذه الـجريدة، أنّ الـحكومة اللبنانية الـحاضرة لا تـمثّل الرأي العام في لبنان ولا إرادة اللبنانيين، لأن الشعب قاطع الانتخابات التي أجريت في صيف السنة الـماضية فلم يتقدم إلى صناديق الاقتراع غير عدد لا يجاوز الثلث أو الربع من مجموع الناخبين.
وسرعان ما أثبت الـخبر الأخير، الذي لـخصناه في بدء هذا الـمقال، صدق نظرة الزعيم في الـحوادث اللبنانية من الوطن السوري - تلك النظرة التي كشف عنها في خطابه الأخير في توكومان، في حفلة مرور أحد عشر عاماً على نشوء النهضة السورية القومية الاجتماعية، وصواب تقديراتنا للشؤون السياسية في لبنان.
تقيم رقابة الأخبار والرشوة الإذاعية حاجزاً يحول بيننا وبين حقائق الـحالة الداخلية في جميع أنحاء الوطن السوري. والأخبار الوحيدة التي تصل إلى مجموع السوريين الـمغتربين هي الأخبار التي تنفرد بنشرها جريدة الضلال التي تسمّي نفسها جريدة الهدى البائعة ضميرها للشيطان، وهي أخبار موضوعة لغاية واحدة هي تبرير الـحالة الراهنة وجعلها مقبولة عند العامة. ولولا نتف من أخبار مشعثة كالـخبر الذي نقلنا فحواه كله إلى صدر هذا الـمقال لصعب كثيراً على الناقد الإتيان بدليل واحد على الغش الكبير الذي يـملأ الأخبار التي يجيز قلم الـمراقبة إرسالها إلى خارج الـحدود السورية.
إنّ الـخبر الأخير الـمعلن اعتقال «الـمشاغبين» في عاصمة «الـجمهورية اللبنانية» يدل، مع ما هو عليه من اقتضاب وعدم التفصيل، على أنّ الـحالة ليست حالة استقرار في لبنان ولا في الشام ولا في فلسطين ولا في أية بقعة أخرى من بقاع سورية.
إنه لـخبر خطير، مع كل التشويش الـمنطوية عليه بساطته. وتظهر خطورته عند إنعام النظر في عبارة واحدة من عباراته القليلة الـمثقلة بروح الإهمال واللامبالاة وهذه العبارة هي: القبض على مئة مشاغب من عدد مجهول الكمية من الـمشاغبين الذين أقلقوا راحة «أبطال» الاستقلال الثالث من استقلالات لبنان السخرية، التي كان أولها استقلال غورو وثانيها كاترو وثالثها بشارة الـخوري ورياض الصلح تـحت الـحماية البريطانية، والأول لبناني فينيقي متفرنس على عهد الفرنسيين ولبناني عربي متأنقل على عهد الاحتلال الإنكليزي، والثاني لبناني دائماً وسوري دائماً وعربي دائماً.
ما هي هذه الـمشاغبات التي حدثت مؤخراً في بيروت ومن هم الـمشاغبون الذين تعتقل الشرطة نحو مئة منهم؟
لا شيء في البرقية ينمّ عن سبب أو جماعة أو حادث معين. إعتقال مئة مشاغب في عاصمة «جمهورية» نالت مؤخراً ثالث استقلال، وهي من استقلالاتها الصبيانية، ليس شيئاً يستحق أن يوصف بأكثر مـما يوصف حادث جر مئة ثور هاجت هياجاً موقتاً في إحدى الـمزارع إلى حظيرتها. ولو أنّ عشرة من الـمشاغبين اعتقلوا في مدينة في فرنسة أو إيطالية أو تشكوسلوفاكية أو رومانية أو غيرها، لكان شيئاً رائعاً يستحق أن يوصف بكل تفاصيله وبكل تعظيم لأسبابه ونتائجه. أما في سورية، في بيروت، فما هي أهمية حصول شغب فيها واعتقال مئة من الـمشاغبين في آن واحد؟
ولكننا نحن، الذين يهمنا التنقيب عن الـحقائق الـمتعلقة بحالة وطننا ومصير أمتنا، لا نكتفي بـما توصله إلينا البرقيات ذات الـمصلحة بالطريقة التي توافق مصلحتها أو مصلحة ذوي الـمصلحة في الهيمنة عليها.
لا نـجد، بين جميع الأخبار التي وقفنا عليها في الـمدة الأخيرة، خبراً واحد يلقي نوراً على بعض ما يجري في لبنان.
في رسالة لـمراسل جريدة الضلال المسماة الهدى صادرة عن بيروت في 4 ديسمبر/كانون الأول الـماضي، خبر صغير في ذيل وصف أول جلسة للمجلس النيابي بعد إفراج الفرنسيين الأحرار عن رئيس الـجمهورية اللبنانية ورئيس وزارته والوزراء. عنوان الـخبر «اقتراحات» وهذا نصه: «واقترح النائب حميد بك فرنـجية، أخيراً، أن تضع الـحكومة مشروعاً لـمعاقبة الذين يتآمرون على سيادة لبنان، وعلى التفريق بين أبنائه. فحُوِّل اقتراحه إلى لـجنة الاقتراحات.» (وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام الـمباح)!
لو كانت «الـجمهورية اللبنانية» حقيقة، كما يصورها عشاقها وذوو الـمصلحة في وجودها، من متلبننين وأجانب، لكان يبدو اقتراح الأستاذ حميد فرنـجية غريباً، ولكن خبر وجود «متآمرين» داخليين على «سيادة» لبنان بعيد الاحتمال والتصديق. أما وحالة تلك «الـجمهورية» على غير ما يصورها أصحاب الـمنفعة من وجودها فاقتراح الأستاذ فرنـجية ليس غريباً. وليس غريباً على الإطلاق أن يكون الأستاذ فرنـجية، لا غيره، صاحب هذا الاقتراح غير الـمستغرب، لأنه كان في مقدمة الـمدافعين عن الـحزب السوري القومي الاجتماعي عند ظهور هذا الـحزب ومن أكثر العارفين اطلاعاً وإدراكاً لـمدى يقظة اللبنانيين وتنبّههم إلى خدعة «الاستقلال اللبناني» ورغبة أكثريتهم عن هذا الاستقلال الزائف التي قام برهانها في الإقبال الواسع على مبادىء النهضة السورية القومية الاجتماعية في لبنان.
والظاهر أنّ الأستاذ فرنـجية كان على اطلاع كثير في مبلغ تفاقم خطر «التآمر على سيادة لبنان» فلم يـمضِ على إعلان «سيادة» جديدة في لبنان وعلى تقديـم اقتراحه البليغ سوى أشهر قليلة حتى فاجأت الأنباء البرقية الـمغتبطين «بالاستقلال الثالث» للبنان بخبر القبض على مئة من «الـمتآمرين» على استقلال لبنان!
العلاقة بين اقتراح الـمحامي حميد فرنـجية وخبر القبض على مئة «مشاغب» في بيروت ليست غامضة ولا يحتاج إدراكها إلى اجتهاد كثير للعارفين بحالة الـجماعة اللبنانية في سورية. فليس في ذياك الاقتراح ما يفسح الـمجال للافتراض أنّ «الـمتآمرين على سيادة لبنان» الذين يعنيهم السيد فرنـجية هم الـجيش البريطاني أو طيارو الطيارات الروسية، التي تطير الآن بين روسية وسورية، أو جواسيس أو دعاة النصر لألـمانية واليابان، كلا، لا مجال لافتراض شيء من ذلك، ولا يحتمل أن يكون بلغ التوهم في مخيلة السيد فرنـجية حداً يحمله على الظن أنّ في استطاعة «الـحكومة اللبنانية» القبض على مئة بولوني أو يهودي وزجهم في السجن ومحاكمتهم بـموجب قانون تسنّه تلك «الـحكومة» التي يشبّه للناس أنها تنوب عن الـجماعة اللبنانية وتـحكم باسمها!
لا يرمي اقتراح الأستاذ فرنـجية إلا إلى استعمال جميع وسائل الـحالة الراهنة لاضطهاد اللبنانيين الذين يبشرون بأنه قد آن الأوان ليعلن اللبنانيون بصوت قوي أنهم ما قبلوا الانفصال عن جسم سورية إلا كرهاً وخشية أن لا يكون لبلوغ الـحقوق الـمدنية والسياسية غير هذا الطريق.
إنّ اضطهاد الـمبادىء الـحاملة عوامل حياة جديدة لم يولِّد غير الانفجار، ولم يغنِ شيئاً عن انتصار هذه الـمبادىء. هذه حقيقة أيَّدتها جميع حوادث التاريخ الـخطيرة في جميع العصور وجميع الأمـم، وسورية التي بعثت إلى الـحياة بواسطة الـحركة السورية القومية الاجتماعية ومبادئها، لن تكون إلا مؤيدة لهذه الـحقيقة مهما نشأت فيها من اقتراحات رجعية عمياء عن الـحقائق القومية الأساسية.
إنّ الذين تآمروا ويتآمرون على سيادة الـجماعة اللبنانية وسائر الـجماعات السورية، هم هذه الطائفة النفعية الـمؤلفة من رجعيين وإقطاعيين وزمنيين التي تداولت الـحكم في لبنان والشام وفلسطين وشرق الأردن، وتـحالفت مع الإرادات الأجنبية على تـجزئة البلاد وإقامة الـحواجز بين التلول والوهاد وبين السهول والأنـجاد.
قد قضت النهضة السورية القومية الاجتماعية على جميع الـمخاوف من فقد الـحقوق السياسية، وأعلنت انقضاء عهد الشك والتخوف على أنواعه فأخذت الفئات الـمستنيرة بأنوار هذه النهضة تتغلب على عوامل الضعف ودوافع الاستكانة والـخنوع، في لبنـان وجميـع أنحاء سورية الأخرى، وتعمل لإحباط خطط الـمتآمرين على وحدة الأمـة وحقوقها ومصيرها، هؤلاء الذين تداولوا الـحكم بالاتفاق مع الإرادات الاستعمارية وهم موجودون فيه اليوم وليس من حقهم إلا أن يقعدوا على مقاعد الـمتهمين لينظر العدل القومي في مبلغ مؤامراتهم ومظالـمهم وما يستحقون من عقاب على ما اقترفوا من آثام ضد وحدة الأمة وحياتها!
أما رجال الـحركة السورية القومية الاجتماعية العاملة على لمّ ما شعثوا، ورأب ما صدَّعوا، وتوحيد ما جزّأوا، فهم رجال ذوو نفوس جبارة لم تخشَ الاضطهادات الـماضية، ولن تخشى الاضطهادات اللاحقة.
لقد حاول الفرنسيون وعمالهم أن يصموا هؤلاء الأبطال بوصمة العمل بإيعاز ألـمانية أو إيطالية، فلما يئسوا من حفظ مراكزهم في البلاد أطلقوا أركان هذه الـحركة العظيمة من سجونهم ليكونوا شوكة في جنب من يحل محلهم. ثم بلغتنا أخبار ضئيلة، ولكنها موثوقة، أنّ عدداً من أركان هذه الـحركة أعاده الديغوليون والبريطانيون إلى السجن. ثم ذاع مؤخراً خبر إطلاق سراح بعض هؤلاء الأبطال. ولم يكد ينتشر هذا الـخبر حتى فاجأتنا الأنباء بإلقاء القبض على «مئة من الـمتآمرين على سيادة لبنان» وجعلتنا نخشى أن لا يكون الـمقصود بهذه الفئة والتهمة الـملصقة بها سوى أصحاب العقيدة السورية القومية الاجتماعية، الذين لا يفتّ في عضدهم اضطهاد ولن يلقوا سلاحهم إلى أن يتم لهم النصر وتعمّ سورية كلها مبادئهم الـمحيية. وكل آتٍ قريب.