نترك الـموقف العصيب الذي أوقفنا فيه «زعيم الـمعارضة» ونُعرض الآن عن الهذر الذي فاه به في «أدق الساعات» حول ظروف البلاد ورفع الـمسؤولية عن الـحكومة والـمجلس ودار الانتداب في صدد ما آلت إليه البلاد من حالة سيئة وفقر مدقع، ونقترب من الـموقف الفاصل في هذه «القضية الـخطيرة» وهو دفاع الـحكومة الذي فاه به حضرة وزير الداخلية [حبيب أبو شهلا] واستغرق نحو ساعة ونصف.
في دفاع وزير الداخلية تـجد الـمحامي أمام محكمة البداية بدلاً من أن تـجد الوزير أمام هيئة الـمجلس ومحكمة الرأي العام.
يقول حضرة الوزير إنه يجد في تقدم الـحكومة إلى الـمجلس النيابي «للمحاكمة» دليلاً «على رسوخ الـحياة الدستورية التي تـجعل الـحكومة مسؤولة فقط أمام الـمجلس النيابي.»
وفي هذه العبارة دليل على أنّ الـحكومة كانت تخشى أن تكون مسؤولة تـجاه هيئة غير هيئة الـمجلس. ولعلها هيئة مدرسة الـحكمة هي التي كانت تخشى الـحكومة أن تكون مسؤولة تـجاهها. فنهنىء الـمطران مبارك على عظيم صولته وامتداد نفوذه.
ثم ينتقل وزير الداخلية إلى مداعبة في غير محلها مع السيد شارل عمون وإلى كلام كثير اختلطت فيه الـحكومة بشخصية الوزير، ثم انتقل إلى شرح طويل حول تبرير موقف الـحكومة وتدابيرها في مظاهرات الـحادي والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الـماضي. وتطرّق إلى ذكر الأسباب التي دعت الـحكومة إلى حلّ الأحزاب الببغائية فقال «أنتم تعرفون أنّ لبنان له وضعية خاصة... وقد أتيح له أن يستقل وتنشأ فيه أمة. ولكنها «أمة متفرقة.»»
ويظهر أنّ الوزير فخور بأنه «قد أتيح للبنان أن يستقل» بقدر ما يسهو عن الاعتراف بأن الاستقلال لا يزال معلقاً على إبرام الـمعاهدة في البرلـمان الفرنسي وموافقة الـجمعية الأمـمية وأنّ الـحكم الـحاضر موجود بنعمة الانتداب. وأما قوله «وتنشأ فيه أمة» فالـمقصود منه في قلب الشاعر.
ولكن الوزير يعترف بجرأة «أنّ الـجهود طائفية» وأنّ جهود الـمنظمات كانت ذات صبغة طائفية، أي أنه لم يكن لها هدف قومي، بل أنشئت لـمحاربة القومية التي جاء بها الـحزب السوري القومي. وقول الوزير مدعوم بكلام السيد توفيق عواد الذي أعلن أنّ الظروف قضت أن تكون هذه الأحزاب الببغائية في جهة «وأخواننا الـمسلمون في جهة أخرى.»
ولو أنّ وزير الداخلية تكلم نحو عشر دقائق أو ربع ساعة لكان أقرب إلى الـمتانة والرصانة من كلام ساعة ونصف جمع أفكاراً تليق بالـمقام وكلاماً غير موافق الـمقام.
ومهما يكن من الأمر فنحن لا نرى في تدابير حل الـحكومة الأحزاب الببغائية ما يوجب تهديدها بالسقوط. وفي الوقت نفسه لا نرى في دفاع الـحكومة أي مبدأ يبرّر التدابير العديدة التي اتخذت في ظروف متعددة لم يظهر منها سوى مبدأ واحد: قهر كل روح شعبية تتجرأ على رؤية قضايا ومسائل لا تراها الـحكومة أو لا يراها الرجال القائمون على الـحكم وكسر كل نفس أبية تتجاسر على أن يكون لها رأي مستقل في مصير الأمة والوطن.
إنّ النتيجة الوحيدة للعمل بهذا الـمبدأ هي: إذلال الشعب وقتل معنوياته، فلا يقاوم عبودية ولا ينهض لـحرية، وتفشّي روح الـخضوع والـخنوع في مجموعه فيستسلم لكل حالة راهنة ويتعود الاستسلام إلى حد لا يبقى عنده رجاء بنهوضه.
من الأمور التي لا يختلف فيها اثنان عاقلان أنه إذا كانت «للحكومة» خطيئتها، كانت حين أخذت تـحارب الأفكار والـمعتقدات الأصلية، وتساعد على إقامة فزاعات تلبسها الـحكومة لباس القادة ويقف رجالها إلى جوانبها، فتحسب هذه الفزاعات أنها قد أصبحت شيئاً خطيراً في الدولة حتى إذا استفحل أمرها ارتدّت على الذين أوجدوها وأخذت تبدي دلائل الغطرسة والشذوذ، فساء الـحال من جهة الشعب وساء الـحال من جهة الـحكومة، فلجأت الـحكومة إلى هدم ما بنت وحلّ الأحزاب الببغائية.
ومهما كان الـحال سيئاً فواجب الـحكومة ألا تنسى أنها من الشعب لا فوق الشعب، وأنّ قهر الشعب سياسة لا تفيد إلا الأجنبي، وأنّ تعويد الشعب الاستسلام قتل لروح الـحرية فيه، وأنّ قتل روح الـحرية والإباء لا يـمكن أن يكون وليد سياسة حكومة وطنية.
لا نعتقد أنّ الـحكومة تعمد في ظرف من الظروف قتل روح الـحرية، ولكن بعض التدابير التي اتخذت كانت لها هذه الصفة خصوصاً حادث بكفيا، فإن الـجندرمة هاجمت جمهوراً من اللبنانيين العُزّل مهاجمة العدو للعدو فدقت الرؤوس ورضت الـجسوم وسال الدم، لأن الشباب الـمتجمع لاستقبال الزعيم الذي كان سجيناً لم يكونوا أنذالاً يقبلون الانكسار ودوس الكرامة.
وبعد فما هي تظاهرات الـحادي والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الـماضي؟ ولـماذا لم تترك تأخذ مجراها الطبيعي؟ وما هي الـجناية والـخطيئة التي لا تغتفر في أن يقوم جمهور من الشباب بـمظاهرة سلمية لا ينوون منها قلب حكومة ولا تغيير نظام؟ وعلى افتراض أنهم رموا إلى قلب الـحكومة فهل تعتقد الـحكومة أنه يمكن قلبها بـمثل هذه الـمظاهرات؟
إنّ الأجدر بحكومة تعتقد مثل هذا الاعتقاد أن تستقيل.
ماذا كان حدث لو تركت الـحكومة الشباب يشفون غليلهم بـمظاهرة؟ ولـماذا يجب أن تكون الـمظاهرات مـمنوعة؟
بل لـماذا يجب أن تكون الاستقبـالات مـمنوعة كاستقبـال زعيـم الـحزب القومي في بكفيـا؟
هل القصد من ذلك قتل كل روح شعبية وكل مظاهر شعبية تـجعل الشعب يحس وجوده وقوّته؟
وإذا كان يجب عد منع الـمظاهرات في الـحادي والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني خطيئة حكومية فليست هذه أكبر خطيئة حكومية ولها بعض الـمبررات العائدة إلى حداثة عهد بعض الوزراء في اختبار الـحكم وسياسة الشعب. ولكن الـخطيئة الكبيرة هي الصبر على مطران مولع بالـخطب الـمثيرة وتهييج الغوغاء. فلو أنّ غير الـمطران مبارك ألقى مثل الـخطاب الذي ألقاه هذا الـمطران قبيل الـمظاهرات هل كانت وقفت الـحكومة مكتوفة اليدين تـجاهه؟
لنفرض أنّ سعاده وقف يخطب في الـجمهور ويحمل على الـحكومة ورجال الـحكم، أما كانت الـحكومة تأمر حينئذٍ بحشد قوات الشرطة والدرك والتحري وبالقبض على «مقلق الأمن» أو على «مهدد سلامة الدولة» أو على «الـخائن الأعظم» أو على «مرتكب الـخطيئة الـمميتة»؟ فما هو السر في الضغط على أبناء الشعب وترك رجال الدين يسرحون ويـمرحون يهيجون الشعب ساعة يروق لهم الهياج ويهدئونه ساعة يأتيهم الوحي بالتهدئة؟
أما بلاغ وزارة الداخلية إلى الصحف بعدم نشر شيء عن الـمظاهرات، فما رأي وزير الداخلية في هذا التدبير؟
أيدري معالي الوزير خطورة إصدار أمر بـمنع نشر الـمعلومات التي تهمّ الشعب؟ أيدري الوزير أنّ إصدار مثل هذا البلاغ لا يكون إلا في ظروف حرجة تهدد الدولة أو شكل الـحكم؟
أيدري أنّ مجرّد إصدار مثل هذا البلاغ يدل على خطورة أمر؟
أكانت الـمظاهرات خطرة إلى هذه الدرجة؟
ليست هذه أول مرة يحظّر فيها على الصحف إعطاء الشعب الـمعلومات التي تتصل بها في صدد بعض الأمور التي تهمّ الشعب، فقد صدر مثل هذا الـحظر في اعتقالات الـحزب القومي الأخيرة بحجة «سلامة التحقيق» فمنع عن الشعب معرفة أخبار مئات الـموقوفين والـملاحقين ومجرى التحقيق، فظل الشعب مدة طويلة جاهلاً مصير أبنائه الذين لم يكن لهم ذنب سوى نبالة القصد القومي وحرية الفكر.
إنّ مثل هذه التدابير متى أصبح عادة تلجأ إليها «الـحكومة» في كل كبيرة وصغيرة كان قضاء على أساليب الـحكم وعلى النظام السياسي القائم الذي يسمونه «النظام الديـموقراطي» وهو النظام الذي يتغنون به ليل نهار.
الـحقيقة أنّ الشعب قد سئم هذه التمارين العضلية التي يقود الإكليروس و«الـمبتدئون» قوات الشعب إليها، وعسى أن ينفضّ عقد زمر الشباب القائمين على خطط رسمها لهم رجال الدين وينضوون تـحت لواء النهضة القومية، وعسى أن تكون «تدابير» الـحكومة تـجاه الشعب آخر التدابير من نوعها فتكون خاتـمة الأحزان السياسية كما كان خطاب وزير الداخلية خاتـمة الأحزان الـخطابية.