عقد الـمجلس النيابي أول أمس جلسة تأجلت عن الـخميس الـماضي بسبب الاضطرابات التي ولدتها العناصر الاستغلالية بـمناسبة حل الأحزاب التعصبية في الـجمهورية اللبنانية. وقد انحصرت أعمال الـمجلس في هذه الـجلسة على النقاش في تدابير الـحكومة في صدد الأحزاب الـمشار إليها. وكانت جلسة حامية نوعاً. وقد نشرت النهضة معظم الوقائع في عدد أمس وأجّلت القسم الهامّ ليكون موضوع بحث اليوم وغَدٍ وما بعده.
الـحقيقة أنّ ما دار في هذه الـجلسة يستحق الدرس، ويجدر به أن يجعل للناس عبرة واختباراً يجب أن يسجلا لكيلا يذهبا بدون جدوى لشعب يدخل في طور جديد من حياته السياسية.
الظاهر من وقائع جلسة الـمجلس أنّ بعض النواب اتخذوا من حوادث حل الأحزاب الطائفية سلاحاً ليظهروا بطولة يندر أن تظهر منهم في غير ميادين السياسة الطائفية أو البيتية، وكان في مقدمة أبطال الهجوم توفيق عواد وشارل عمون و[إبراهيم] العازار، وكان أبلغهم بلا مراء توفيق عواد فإنه أورد في فقرات قليلة ما يوجب أن تخصص للشرح عليه الـمقالات الطويلة لأن فيه إعجاز البلاغة وسحر البيان، وكانت له هجمات دونها هجمات «دون كيخوط» على جبابرة الطواحين.
وكدون كيخوط لا يحلم توفيق عواد إلا بالألوف ولا يتكلم إلا بالألوف؛ فأعلن في بدء خطابه الباهر أنه يتكلم «باسم الألوف من الشباب» فهو لا يريد أن يتخلى عن خيال الـخمسة والعشرين ألف لبناني الذي جعلته قائداً لهم جريدة الوحدة اللبنانية ولا يحب إلا أن يكون محافظاً.
وبعد أن عرفنا خطورة مقامه «بالألوف» الـممثلة في شخصيته العظيمة تطرّق إلى إعطاء لـمحة تاريخية عن نشوء الأحزاب التي حلتها الـحكومة مؤخراً، فذكّر النواب كيف أنّ «في ربيع 1936 ابتدأ الـحزب السوري القومي يضم عدداً كبيراً من الشباب، حتى في الـمناطق اللبنانية الصرف»، فذكر حقيقة كانت تتجاهلها الصحف البعيدة عن معرفة الـحقائق، ولا تزال جريدة البشير الـجزويتية تنكرها، وهي أنّ الـحزب السوري القومي تغلغل في جميع مناطق الـجمهورية اللبنانية وأنه ضم عدداً كبيراً من الشباب الذين تنعتهم هذه الـجريدة الأجنبية «بالغلمان».
وقد أفادنا السيد عواد من فيض علمه أنّ في لبنان مناطق لبنانية صرف ومناطق لبنانية غير صرف. ولعل السيد عواد أول لبناني يعترف بهذه الـحقيقة الباهرة التي اجتهد كثيراً ذوو الـمصلحة في سترها عن الرأي العام والتمويه عليها بتعابير وأصبغة متعددة. وإننا نقترح على الأستاذ زكي نقاش أن يثبت عبارة السيد عواد هذه في أول طبعة جديدة من تاريخ سورية ولبنان المدرسي.
ولكن الـحقيقة الأعظم خطورة مـما تقدم هي في اعتراف السيد توفيق عواد بأنه «حتى في الـمناطق اللبنانية البحتة» تغلغل الـحزب السوري القومي واكتسبت عقيدته القومية ومبادئه الإصلاحية أنصاراً كثيرين من الشباب، وهذه هي الـحقيقة الـمجرّدة، ففي ربيع السنة التي يذكرها الـخطيب كان الـحزب السوري القومي قد اكتسح طرابلس والكورة وابتدأ يـمتد في زغرتا بالغاً إلى إهدن وبشري من الـمناطق «اللبنانية الصرف»، ومع أنّ الـخطيب لا يعيّن أية مناطق هي «الـمناطق اللبنانية الصرف» فإننا نزعم أنه لا شك في بلاغته وبيانه ونـجرؤ على القول إنه يعني بالـمناطق اللبنانية الصرف الـمناطق الـمارونية الصرف.
أما بلاغة عواد التي ليس بعدها بلاغة فهي قوله:
«إنّ حزب الوحدة اللبنانية تأسس ليوقف تيار هذا الاتـجاه الذي هدد استقلال لبنان (يعني انفصاله لا استقلاله) وإنّ الأحزاب الأخرى تبعت حزب الوحدة اللبنانية في هذا الغرض النبيل.»
فهو يعترف صراحة بأن إنشاء «حزب الوحدة اللبنانية» لم يكن لـمبدأ أساسي أو لـحاجة قومية، بل لـمجرّد مقاومة امتداد الـحزب السوري القومي ومحاربته.
وكلام السيد عواد في الـمجلس يوافق كلام السيد بيار الـجميّل في خطاب تلاه في بكفيا يقول فيه إنّ هذه الأحزاب «اللبنانية الصرف» التي عجزت عن أن تؤلف حزباً واحداً وعن أن تعمل لقضية صحيحة، تتضامن لـمقاومة سعاده وقضيته القومية التي نعتها «بالسخيفة».
ولم يلبث عواد أن عاد إلى لهجته «الدون كيخوطية» الساحرة فقال: «سرنا وسارت وراءنا الألوف في سبيل تعزيز قوميتنا داعين اللبنانيين إلى التآخي والوحدة»، وكان من سحر بيانه أنه لم يحتج هنا إلى تكرار لفظة «صرف» الواردة آنفاً فلم يقل «اللبنانيين الصرف» لعدم الـحاجة إلى تكرارها.
وبدون أن يحمرّ له وجه أو يندى له جبين يقول السيد عواد: «استقبَلَنا الشباب اللبناني بحماس أينما ذهبنا» وأظهر في هذه العبارة تواضعاً نادراً فلم يشر بنوع خاص إلى حرارة الاستقبال في بنت جبيل ولا في حصرون!
يبلغ السيد عواد سمة الإبداع في هذه العبارة التاريخية: «نعلن بفخر أننا في أيام عصيبة قمنا بواجبنا نحو بلادنا ومستقبل بلادنا.»
الـحق أنه إذا كان قتل البلاد ومستقبل البلاد يعدّ واجباً على السيد عواد وأتباعه والـمتشبهين به فيحق للسيد عواد أن يعلن بفخر أنه هو وأتباعه قد قاموا بواجبهم في أيام عصيبة، كتلك التي جلبوها على البلاد في الـخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني السنة الـماضية خير قيام. فإنه قلّما أسلم خائن وطنه إلى التعصب والفوضى والتقتيل كما أسلم حزب الوحدة اللبنانية وطنه إليها.