كان من ذيول الانتخابات أنّ بعض الـمرشحين الذين منّوا النفس بكثير أو بقليل ولم تتح لهم فرصة للفوز، نقموا على الوضع وعلى الشعب وعلى الفئات الأخرى وتـجاوزوا في النقمة هذا الـحد، حتى أنهم أخذوا ينحون باللائمة على الـحزب السوري القومي لأنه لم يقف بجانبهم. وعزوا موقف الـحزب السياسي إلى أمور حاولوا أن يشيعوها كأنها حقيقة، فقالوا إنّ هذا الـحزب قد ارتشى وأنه مالأ الائتلاف أو الـحكومة، لأنه قد بُذلت وعود لبعض أركانه. وقالوا أشياء كثيرة غير ذلك، كالقول إنّ الـحزب السوري القومي قد ابتدأ يتخلى عن مبادئه وقضيته ويـماشي الأغراض السياسية العجلى.
إنّ الذين راقبوا سير هذا الـحزب في الطور التحضيري للانتخابات يدركون حراجة الـموقف الذي كان يقفه. وفي ذلك الوقت كانت الوطنية كل الوطنية، لذوي الـمنفعة، في محاربة الـحكومة والسير ضدها. وكان من البديهي لهؤلاء أن تكون مجاراة أهوائهم مرادفاً للوطنية والـخدمة العامة. وبين فئتي الـحكومة والـمعارضة الـمتناضلتين فتش الـحزب السوري القومي عن الـمبادىء التي يـمكن أن تتفق مع مبادئه فلم يجد منها شيئاً.
والذي يدركه العميان، فضلاً عن الـمبصرين، أنّ الـمشادة السياسية في لبنان لم تكن صراع مبادىء وأحزاب، بل صراع كتلتين تتنازعان الـحكم. والكتلتان تتألفان من رجال لا يقيدهم نظام حزب ولا عقيدة قومية معينة ولا برنامج عُرفوا فيه بين الناس. ولم يكن هنالك وجه من هذا القبيل لتفضيل هذه الفئة على تلك الفئة أو العكس. والذين يدّعون أنّ الـحزب أخطأ لأنه لم يكن في جانبهم، يؤسسون دعواهم على نظرتهم الـخصوصية في الأمر وعلى ادعاء ما ليس فيهم من البطولة والوطنية.
إنّ هؤلاء الأفراد الذين يظهرون غيرة فجائية على مبادىء الـحزب السوري القومي ويأسفون «لـخروج الـحزب عنها» هم أنفسهم كانوا في عداد الذين حاربوا الـحزب السوري القومي سراً وجهراً. وبينهم من تـحامل على الـحزب في أيام محنه فلما قاربت الانتخابات أخذوا يتظاهرون بالغيرة على الـحزب ومبادئه.
يقولون إنّ الـحزب السوري القومي قد والى في الانتخابات هذه الفئة دون تلك الفئة، وإذا رجعنا إلى تصريح رئيس الـمكتب السياسي للحزب الذي نشرته النهضة في عددها الصادر بتاريخ 22 أكتوبر/تشرين الأول الـماضي وجدنا أنّ الـحزب السوري القومي لم يوالِ فئة ما ولم يحالف فئة ما وأنه يتخذ «موقفاً سياسياً» لا موقفاً مبدئياً. واختيار الـحزب للموقف السياسي الذي يكون في مصلحته هو مقدرة سياسية عظيمة يجب أن تسجل بـمداد الفخر لهذه الـمنظمة القومية التي وقفت لها الصعوبات والعداوة بالـمرصاد. فإن «غلمان» النهضة القومية قد أظهروا، بـموقفهم السياسي، فهماً عميقاً للحالة السياسية في لبنان ومرونة عظيمة في معالـجة الـحالة لم يظهر مثلهما من «فطاحل» السياسة الذين أبدوا عجزاً فاضحاً في إدراك حقيقة الـموقف ومتطلبات الـحالة.
مـما لا شك فيه أنّ الـحزب السوري القومي كان يكون مسروراً جداً بغيرة جماعة من خارجه على مبادئه وموقفه حين كانت اعتقالات أعضائه بالـمئات. وهو كان يكون مسروراً جداً لو أنّ هؤلاء «الغيورين» تقدموا إلى الـحزب بتأييد أهدافه ومظاهرته في أي موقف مستقل يريد أن يقفه. أما أن تكون غيرتهم عليه من أجل أن يكون مُظاهراً لهم فقد ظهر أنّ الـحزب أقوى وأبعد نظراً مـما يتصورون.
الـحقيقة في الأمر أنّ الـحزب السوري القومي هو صاحب الرسالة القومية وهو الـمنظمة القومية العاملة على تنظيم العقائد والفكر والعمل في مجموع الأمة. ومؤسساته هي التي تضبط أعمال الأفراد فتربطهم بـمبادىء وبرامج وقوانين وصلاحيات ومسؤوليات من شذّ عنها فقد برهن على عدم كفاءته للاضطلاع بالـمبادىء والـمسؤوليات. ومن هذه الـجهة ينتظر أن يكون الـحزب السوري القومي حَكَماً على الأفراد لا أن يكون الأفراد، مهما كان شأنهم، حَكَماً على هذه الـمنظمة القومية التي لها أهداف واضحة ومؤسسات فنية تعيّن الـخطط التي يجب أن يتمشى عليها مجموع الـحزب.
لقد برهن الـحزب السوري القومي على بطولة في تـحمّل الـمشاق والصعوبات ودهاء في السياسة لم يكن يتوقعه الذين نعتوه بـ «حزب الغلمان» أو «حزب الأولاد».
أما الذين لم يتمكنوا من جر الـحزب وراء غاياتهم وتوريطه في مغامرات خطيرة من أجل شخصياتهم فقد كانت هنالك ظروف سابقة عديدة لإظهار غيرتهم على الـحزب السوري القومي ومبادئه.
إنّ الـحزب السوري القومي أعلن بـمناسبة الانتخاب أنه لن يكون له موقف مباشر منه بصدد الـمجلس النيابي. وكان زعيمه قد صرّح في خطب علنية في جهات متعددة من الـجمهورية اللبنانية تشاؤمه من الـمجلس النيابي والانتخابات النيابية وأساليب تـمثيل الشعب الـمتبعة. وهو دليل على أنّ الـحزب لم يكن يأبه للمجلس والانتخابات، وأنّ الزعيم لم يكن يعلق أي أمل على فوائد الانتخابات الـجارية، ولذلك ظل موقف الـحزب بارداً وفضّل أن يكون موقفه «سياسياً» لا انتخابياً. وساء فأل الـمستغلين.