لـمَّا كانت الغاية الـحقيقية من إنشاء التشكيلات الطائفية الـمارونية الـمسماة «باللبنانية» محاربة الـحركة السورية القومية الاجتماعية، كما بيّنا في الـمقال السابق (راجع العدد 16 من الـجيل الـجديد)، فقد اكتفت تلك التشكيلات في بادىء أمرها باقتباس بعض الأشكال التنظيمية عن هذه الـحركة، وبتغذية الشبان بالتعصب للانعزال اللبناني، وبكره القومية السورية التي خفقت بحبها قلوب الأجداد ووضحت بها مواهبهم وثبتت مفاخرهم، لينسخوها وينسخوا بنسخها آباءهم وأجدادهم، وبتشويه حقيقة النهضة السورية القومية الاجتماعية وإيغار صدور الأحداث ضدها. وهذا العمل التأسيسي العظيم كان يكفيها «في خدمة لبنان»، ويكفي الاحتلال الأجنبي الـمنتدب في عمله لتحقيق أغراضه الاستعمارية!
فجـأة زال الاحتـلال الفـرنسـي، وكانت قد سبقتـه إلى الزوال تشكيلتان من تشكيلات التعاون معه على توطيد استعماره وهما: تشكيلة «حزب الوحدة اللبنانية» وتشكيلـة «السباقـة اللبنانيـة»، ولم يبقَ من هذه التشكيـلات إلا تشكيلـة الشبـان الرياضييـن، الفلانـج أو «الكتائب» التي دعاها موفدوها إلى الـمهجر حين زاروا الـمكسيك «الطلائع». وكان يجب أن تبقى تشكيلة واحدة، على الأقل، من تلك التشكيلات لتكون شاهداً حياً على مبلغ نـجاح الاستعمار «الـحنون» في إنشاء أعداء للأمة من أبنائها! فلما رأت تشكيلة «الكتائب - الطلائع» أنّ الاحتلال الفرنسي الذي كان يسندها ويعدّها ربيبته والذي حوّرت نصوص «مبادئها» سنة 1939 للخروج بالتعاون معه من الباطن إلى الظاهر، ومن السر إلى الـجهر قد زال، وجدت هذه التشكيلة أنّ ما اقتبسته من أشكال التنظيم التي ظهر بها الـحزب القومي الاجتماعي ومحاولتها تقليد بعض تصريحات زعيمه ومعاونيه لا يكفيان أساساً وسبباً لبقائها بعد زوال الاحتلال الفرنسي الذي جعلت التعاهد معه في صلب غايتها - غاية وجودها وعملها. كان الفراغ الذي أحدثه زوال الاحتلال الفرنسي، في حياتها عظيماً جداً، فلم يكن بد من سد هذا الفراغ العظيم بشيء من «عقيدة» وإن تكن مزيفة، ومن هالة من الـمجد الـمزيَّف، فأخذ الـماهرون في انتحال الـمبادىء والتعاليم القومية الاجتماعية يفرغون جهدهم في صناعة «عقيدة وتعاليم» يتخذونها مبرراً لبقاء «الكتائب - الطلائع» بعد زوال الاحتلال الفرنسي ومستنداً لشبه دعوة توجه إلى الشباب للانضمام إليها على أساس «قضية» غير قضية الصداقة والتعاهد مع الدولة الـمحتلة!
بيـن الذين أخذوا على عاتقهم صناعة «عقيدة وتعاليم» لـ «الكتائب - الطلائع» الأستاذ الـمحامي عبيد عيسى عبيد والسيد جميل جبر يساندهما جوزف شادر. وقد أعلنت جريدة «الكتائب -الطلائع» العمل في عدديها الصادرين في 17 أبريل/نيسان وأول مـايـو/أيـار 1949،أنّ هذين الـمفكرين في صنـاعـة العقائـد يعـدّان كتابيـن: الأول منهما للأول موضوعه «الـحزب والإنسان»، والثاني للثاني موضوعه «الـحركة الكتائبية». والـموضوعان في حد تسميتهما يدلان على قفزة رياضية صناعية في ميدان الاقتباس، فـ «الكتائب - الطلائع» تعرف الآن باسم «حزب وحركة» بعد أن كانت تسمي نفسها «منظمة» أي تشكيلة، ترجمة للفظة «فورمسيون». وهذا النعت الـجديد يدل دلالة واضحة على أساليب الصناعة العقدية الـجديدة!
يـمكننا أن نرى، بوضوح أكثر، الـمجهود الصناعي العقدي الكتائبي - الطلائعي وخططه في ما نشر السنة الـماضية بالفرنسية ليقدم إلى مؤتـمر الـمؤسسة الثقافية في منظمة الأمـم الـمتحدة الذي عقد خريف السنة الـماضية في بيروت، وفي ما نشر مؤخراً في جريدة العمل. فقد أعد صناعي العقائد الـجديد الأستاذ عبيد خطاباً عقدياً ألقاه في حفلة حلف اليميـن لأفـراد انتموا مؤخراً إلى «الكتائب - الطلائع» ونشر في جريدة العمل في 3 أبريل/نيسان الـماضي. وفي هذا الـخطاب أوصى الـخطيب الكتائبييـن الطلائعييـن الوصية الـجوهرية التالية: «لا تدع حزباً إلا تتعرف إلى حقيقته. حاربه إذا كان فاسد الأساس، سيِّىء النيَّة، واقتبس من حسناته إذا وجدتها لا تتنافى وروح عقيدتك وتنظيم منظمتك.»
لا بدّ من الاعتراف للأستاذ عبيد ببعض اللباقة في جعل الانتحال الـمستند إلى أسلوب الاقتباس الإكلكتي (الاختياري) قاعدة عقدية ثابتة. ولكنها، في كل حال، لا تخرج عن كونها لباقة شفافة لا تقدر أن تغطي الزيف العقدي ولا أن تـحجب قباحة الانتحال الذي بلغ بالسيد عبيـد حداً أقدم عنده على انتحال عبارة الزعيم القائلة بتغيير وجه التاريخ! وقد التقى مؤخراً الأمين عبدالله قبرصي رصيفه الـمحامي عبيد فصاح الأمين قبرصي به: «ولو يا عبيد! أإلى هذا الـحد وصلتم، فلم تعودوا تكتفون بنقل الأفكار والأشكال، بل صرتـم تأخذون عبارات الزعيم كما هي، وتنتحلونها لأنفسكم! من هو الذي اضطلع بقضية تغيير وجه التاريخ وأنشأ رسالة غيّرت وجه التاريخ، أسعاده أم أنتم؟» فأجـابـه الأستاذ عبيد بالسذاجة عينها التي أعلن بها أنّ مهمة الكتائبييـن الطلائعييـن هي «تغيير وجه التاريخ» قائلاً «إنّ تفكير سعاده قد أصبح تراثاً إنسانياً فماذا يـمنع من الاقتباس والاستفادة منه؟» فردّ عليه الأمين قبرصي: «وأين تذهبون بالأمانة لـمصدر الأفكار؟» فقال السيد عبيد: «أيجب أن يقال دائماً عن الـمبادىء الـماركسية إنها ماركسيـة مثـلاً؟» فصاح به الأميـن قبرصـي: «نعم يجـب أن يقـال عن الـمبادىء الـماركسية إنها ماركسية، وعن الـمبادىء السعادية إنها سعادية لكي لا يغش الناس ويخدعوا بالتراكيب الزائفة.»
هذا الـحوار القصير بين الأمين قبرصي والسيد عبيد يكشف عن الناحية الهامّة من الـموضوع: ناحية الـحقيقـة وتزييفها وانتحـالها. فـلـو أنّ الكتـائبييـن الطـلائعييـن، الذين يتوصلون إلى حد تزييف إسم تشكيلتهم حسب الظروف، وتزييف مبادئهم ومقاصدهم الـمعلنة، كانوا يلزمون شيئاً من الأمانة للحقيقة كما كان يفعل أعضاء «حزب الوحدة اللبنانية» وجريدة الوحدة اللبنانية لهان الأمر. فإنّ جريدة الوحدة اللبنانية التي كانت تنشر أفكار تشكيلة الوحدة الـمذكورة كانت تعلن صراحة أنّ الشباب اللبناني (الـماروني خاصة) قد أخذ يتعلق بـمبادىء سعاده القومية الاجتماعية، ويريد تـحقيقها ويريد سعاده قائداً له بشرط أن يجعل قضيته مقتصرة على الدولة اللبنانية والفكرة الانعزالية.
كـان شبـاب «الوحـدة اللبنـانيـة» يعتـرفـون بالـمبـادىء السعادية، وبأنهم يريدون اتّبـاع سعـاده وتـحقيقهـا، ولكنهم كانوا يشترطـون حصـرها في لبنان فقط. أما شباب «الكتائب - الطلائع» فإنهم لا يذكرون لا سعاده ولا الـحركة القومية الاجتماعية مصـدراً لأفـكـارهـم ومبـادئهـم بـل ينتحـلـون التعـاليـم والأفـكـار والتخطيـط القوميـة الاجتمـاعيـة انتحـالاً،أي أنهـم يـزعمـون أنهـا تعـاليمهـم وأفـكــارهـم وتخطيطهـم ويـمسخونها لأغراضهم وهم لا يقفون عند هذا الـحد، بل يتعدونه إلى القول إنّ لهم حقاً في هذا الانتحال الـمعيب، وإنّ الأصول والقيم والـحقوق يجب أن تضيع بـمجرّد أنها صارت من «التراث الإنساني»! فيجب أن لا نعترف لروسو وفولتير وهوبز وكانت وهيغل وغيرهم بـما قدموا للفكر من قضايا، لأنّ ما قدّموه صار من «التراث الإنساني»! والغريب أنّ من يقول هذا القول مخرّج في الـحقوق ويدرس لينال درجة دكترة فيها!
هذا التفكيـر الغـريب الشـاذ هـو القـاعـدة العقـديـة في صناعـة العقائـد الـمزيفة، والأستاذ عبيد صار من أشد دعاة هذه القاعدة، لأنه بها يتمكن من الدخول في «التراث الإنساني»! وهو قد مارس هذه القاعدة بأمانة فأخذ يحتك ببعض القوميين الاجتماعييـن الـمطلعيـن في العقيـدة القوميـة الاجتماعيـة ويدرس حججهم «ليقتبس من حسناتها» وطلب أن يقابل الزعيم في صيف 1947 بواسطة الرفيق طالب الـحقوق إدمون كنعان. وقد كان هذا الرفيق يعتقد أنّ الأستاذ عبيد على وشك ترك الـحزبية الكتائبية الطلائعية لعدم وجود عقيدة لها، على ما فهم من بعض مباحثاته معه، وألحّ بضرورة السماح له بـمقابلة قد يكون من ورائها اقتناعه الأخير بأنّ الأصل أفضل من الانتحال والاقتباس ومحاولة تركيب «عقيدة» لـ «الكتائب - الطلائع». وبالنظر إلى هذا الإلـحاح من جانب الرفيق إدمون كنعان ضرب الزعيم موعداً لاستقبال السيد عبيد في مخيم ضهور الشوير فحضر برفقة الرفيق إدمون كنعان، وكان مع الزعيم الأمين فريد الصباغ والرفيقان هشام شرابي وفؤاد نـجار، وحضر أخيراً الأستاذ نقولا الشويري. وبعد كلمة أولى من الزعيم اتخذ الأستاذ عبيد صفة الـجدل والـمقارعة. وكان الزعيم يظن أنه لا يزال طالب حقوق فسأله ليتأكد فأجابه السيد عبيد أنه محام، فقال الزعيم: «إذن جدلك ينطبق على صفة الـمحامي فأنت تتكلم بأصول الـمهنة كأنك تدافع في دعوى موكلة إليك لا بضرورة الفهم والبحث عن الـحقيقة.» وكانت طريقة الـمجادلة التي سلكها الأستاذ عبيد سقيمة فمن حججه «أنّ لبنان أقدم من سورية لأنه مذكور في التوراة قبلها، وأنّ لبنان ينتسب إلى الفينيقيين.» أما الفينيقيون فقد نبّهه الزعيم إلى أنهم كنعانيون، وأنّ أصولهم وبقاياهم هي فلسطين، أرض كنعان، فقال عبيد «لـماذا نرجع إلى الوراء كل هذا الشوط؟» فأجابه الزعيم: «إما أن نبحث في الـحقيقة الإتنية التاريخية كلها وإما أن نتركها.» وأما قول السيد عبيد إنّ لبنان أقدم من سورية لأنه مذكور في التوراة قبلها فقد صعق له الزعيم ولم يكن يظـن أنه يصـدر عن شـاب درس شيئـاً من الـمنطـق والتاريـخ، ولذلك انقطع عن متابعة البحث مع السيد عبيد تـحاشياً من النزول إلى الدرك الـمحقر للمدارك الإنسانية. والأستاذ عبيد يتباهى بأنّ الزعيم ترك له الكلام وحده ولم يعد يجيبه، فهو يقول لبعض معارفه «إني ناقشت الزعيم نفسه وكانت الكلمة الأخيرة لي!»
مع كـل ذلك فإنّ القاعـدة الإكلكتيـة في البحث عن الـحسن عند الأحزاب الأخـرى لتركيب العقيدة الـجيدة، دفعت الأستـاذ عبيد إلى حضور بعض محاضرات الزعيم أوائل سنة 1948 وإلى تتبع كل ما يصدر عن الـحزب القومي الاجتماعي من نشـرات ودروس. وسنرى فيما بعد قيمة النتائـج التي بلغها الـمجتهـدون في صناعة العقيدة الكتائبية - الطلائعية.
للبحث صلة([1])