إنّ أوّل مشكلة واجهتني، يـوم وصـولـي إلى الوطن عائداً من أميركة الـجنوبية حيث اضطرتني ظروف الـحرب إلى البقاء عدة سنوات، كانت مشكلة الـحرية.
فقد تـحررت حكومات الدول السورية من الاحتلال الأجنبي العسكري، والانتداب، ولكن الشعب بقي تـحت أساليب الاستعباد الأجنبي ليس فقط في سياسة الـحكم، بل في العقلية التي غرسها الأجانب في أقسام من ناشئة الأمة، وتـحت عقلية مؤسسات القرون الوسطى.
ألقيت يـوم وصـولي خطـاباً أعلنت فيه أنّ الـحزب القومي الاجتماعي لم يكن وليس عدواً للكيان اللبناني، مع أنه سوري في عقيدته القومية. وهذا الإعلان لم يكن شيئاً جديداً بل منطبقاً على تصريحي في موقف الـحزب القومي الاجتماعي من الكيان اللبناني سنة 1937. ففي هذا التصريح أوضحت موقفنا العقدي وموقفنا السياسي وكيف نـجمع بين الاثنين في انسجام تام. ولـما لم يكن خطابي الـمذكور خطاباً سياسياً بل عقدياً موجهاً إلى أعضاء الـحزب القومي الاجتماعي الذين يؤمنون بحقيقة سورية قومية اجتماعية، ويعتقدون بوحدة النفسية السورية والـحياة السوريـة والـمصير السوري، ويعرفون التاريخ السوري والأرض السورية، ولـما كانت مهمة الـحزب القومي الاجتماعي إيجاد نهضة ثقافية واحدة في جميع الدول السورية، التي تـجمعها في الأخير رابطة الـمصير الواحد ووحدة الـمصالح الاقتصادية والسياسية، فقد أبرزت في خطابي فكرة العمل القومي الاجتماعي، الثقافي، العام، في هذه العبارة: «إنّ الكيـان اللبنانـي يجب أن يكـون نطـاق ضمان للفكر ولانطـلاق الفكر في سورية الطبيعية كلها» .
هذه العبـارة التي اشتمـلت على فكـرة توطيـد لبنـان في نشـر فكـرة ثقافيـة مدنيـة واحدة في سورية الطبيعية (وسورية الطبيعية هنا ليست «سورية الكبرى» ولا «الهلال الـخصيب» اللذين يعنيان مشروعيـن سياسييـن معينيـن، بل هذه الـمنطقة الـجغرافية الواحدة التي عرفت في التاريخ باسم سورية، والتي تبقى منطقة جغرافية واحدة مهما نشـأ فيها من دول، ولا يغيِّر شيئـاً من حقيقتها استبدال تسمية استعمارية جديدة «كاللوان» مثلاً باسمها الذي عرفها بها التاريخ) - هذه العبارة لم تثر فقط رجالاً في الـحكومة لذلك العهد، بل أثارت الفئة الـمثقفة سياسياً في ثقافة سياسة الاحتلال الاستعماري التي تقوم على الاستسلام للأمر الـمفعول وعلى مبدأ الـخوف والانعزال.
لم يتخذ هرج الـخوف ومرجه في الفئة التي قامت على علاقة واضحة، ثابتة مع الأجنبي الـمحتل وعلى أساس الصداقـة والتعاهد معه - هذا الأساس الشائن الذي اتخذته تلك الفئة دستورها الثابت - لم يتخذ شكل حرب فكرية تقوم على حرية الفكر وتوخي الـحقيقة والرجوع إلى الشعب، لأنّ الأمر يعني الشعب الذي له وحده حق تقرير مصيره ومصير حكومته، بل اتخذ شكل حرب ضد الفكر، ضد حرية الفكر وضد الـحقوق الـمدنية والسياسية لأعضاء الدولة الذين هم جميع أبناء الشعب!
لـماذا لـجأت تلك الفئة، الغريبة بتفكيرها النايو رجعي الـمستحدث عن الفكر اللبناني الأصلي الصحيح، إلى هذا النوع من الـمحاربة الـخسيسة،البعيدة عن حرية الفكر؟
لـماذا لا تزال طريقة محاربة الفكر بالدس والتحريض ومطالبة الـحكومة باستعمال الإرهاب هي الطريقة الوحيدة الـمتبعة عند تلك الفئة التي نشأت تـحت رعاية الأجنبي الـمحتل على أساس الصداقة والتعاهد معه، ورأينا مثالاً باهراً منها في مطالبة جريدة الأوريان الـحكومة بسجن الذين لهم رأي في مصير البلاد غير الرأي الذي كونته فئة قليلة في الوطن وضمن الكيان اللبناني منها جماعة الأوريان وأكسيون([1])؟
إنّ السبب الأول الواضح هو يقين تلك الفئة بعجزها عن محاربة الفكر الـحر بالفكر الـمستعبد، وعن مقاومة الرأي الصحيح بالرأي الأخرق. إذ لو لم يكن هذا هو السبب الـحقيقي لـما أظهرت ذاك الارتياع، ولـما لـجأت إلى ذياك التهويل، ولـما تعلقت بأذيال بعض رجال الـحكم متوسلة إليهم أن ينقذوها من ورطة العجز عن مقابلة الفكر بالفكر، وأن يقوها فضيحة اضمحلال الكتائب الـمكتتبة أمام خطاب واحد يفيض بالـحق ويحرر النفوس من التدجيل وأوهام الباطل.
والسبب الثاني هو كره مبدأ الـحرية ونور الـحق الاجتماعي، وبغض مصلحة الشعب في لبنان التي لا تكون في العبودية، بل في الـحرية. إنّ الشعب في لبنان يريد الـحقيقة ويريد الـمعرفة الصحيحة، والـحقيقة والـمعرفة الصحيحة تظهران بالبحث الـحرّ لا باضطهاد حرية الفكر.
ومن أشد الأدلة وضوحاً على كره فئة التفكير الدخيل على الفكر الأصيل وعلى حقيقة اللبنانييـن ما أعلنه بعض الـمنتميـن إلى التشكيلة الـمعادية لـحرية الفكر أنّ إدارة التشكيلة «العليا» قد حرَّمت بقرار، على الأعضاء، الاتصال بقومييـن اجتماعييـن والـمباحثة معهم في العقائد القومية!
يتضح مـما تقدم ومـما سبق أنّ مشكلة الـحرية في لبنان ليست مشكلة تختص بالـحكومة، بل هي مشكلة في الشعب. إنّ تزوير الانتخابات هو بلية بعض الطامعيـن في النيابة والاستثمار كما هو بلية أصحاب القضية الـحرّة الصحيحة. ولكن هنالك بلية أعظم من هذه هي بلية تزوير العقائد وتزييف الـمبادىء والتدجيل وغش الشعب!
إنّ الكيان اللبناني قائم وقد أعلن الـحزب القومي الاجتماعي احترامه هذا الكيان «باعتباره تعبيراً صادقاً عن إرادة الشعب»، ولم يصدر عن هذا الـحزب أي عمل أو تدبير يرمي إلى إزالته، بل بالعكس اعتبره «نطاق ضمان». أما أن يعتبر العروبيون لبنان عربياً، وأن يعتبره السوريون القوميون الاجتماعيون سورياً وأن يحاول الرياضيون «الكتائبيون» إنشاء أمة وقومية جديدة فيه، فمن الأمور الـمتعلقة باصطراع العقائد ولا علاقة لها بأي عمل سياسي يتعلق بالكيان اللبناني كدولة. فإذا سيطرت العقيدة السورية القومية الاجتماعية في لبنان فلا يعني ذلك مطلقاً أنّ الكيان الذي يعبّر عن إرادة اللبنانييـن سيسلّم للتعبير عن إرادة غيرهم.
إنّ الكيان اللبناني هو «نطـاق ضمان للفكر ولانطلاق الفكر» والقوميون الاجتماعيون مستعدون لـحماية هذا النطاق. فلتصطرع فيه العقائد بحرّية ولنبتعد عن مشاكل السياسة ودسائسها.
إنّ القوميين الاجتماعيين اللبنانيين هم أشد الناس حرصاً على لبنان وغيره، وهم أبعد الناس عن الـمجازفات الاعتباطية.
إنّ مشكلة العقائد في لبنان هي مشكلة الـحرية، ومشكلة الـحرية لا تـحل إلا بالـحرية!
إنّ لبنان يحيا بالـحرية ويندثر بالعبودية! إنّ الـحركة القومية الاجتماعية هي حركة الـحرية، وهي أيضاً حركة الواجب والنظام والقوة، وبانتصارها يجد لبنان كل الـخير وكل العز.