في مقالي السابق «العروبة أفلست» أظهرت أنّ الفئة العروبية من فئات الـ NEO رجعييـن أقامت بعقليتها «النايو رجعية» (الرجعية الـجديدة أو الـمتجددة) أوهاماً في الأمة السورية أبعدتها عن حقيقتها فبذلت قواها، بقيادة «العرب» والتفكير العربي في معارك حياتها وصراع تقرير مصيرها، في قضية جمع الـمتفرق وتفريق الـمجتمع وتوحيد ما لا يقبل الوحدة وتـجزئة ما هو واحد - قضية الـخلط بين تقارب أمـم العالم العربي في تعاطف شعوبها بعامل الدين واللغة وفي تقارب أقطارها في مواقعها الـجغرافية، على تباينها في أجناسها وتباعدها في مجتمعاتها واختلافها في نفسياتها وأمزجتها وتراكيبها السلالية، والوحدة القومية التي هي وحدة حياة الـمجتمع في بيئته - في قطره الطبيعي الـجغرافي، فكان من وراء ذلك صرف قوى الأمة السورية عن الـحقيقة إلى الوهم وما نتج عنه من الإبقاء على التفسخ الروحي في الأمة بسبب الـحزبيات الدينية وشلل العمل القومي الصحيح وخسارة كيليكية والإسكندرونة وفلسطين، ولم يخطر في بالي قط أنّ الرجعيين الـمستعربين ومستغلي العروبة سيتعظون بالـحقائق التي أوردتها ويعتبرون بـما حلّ بالأمة السورية من نكبات من جراء ما أطلقوه في الشعب السوري من تيارات التضليل. فهم لو فعلوا ذلك لبرهنوا على أنّ القومية والوطنية تعنيان شيئاً حقيقياً لهم!
ليسـت الفئـة العروبيـة الفئـة «النايو رجعية» الوحيدة في سوريـة الطبيعية ودولها، ففي هذه الدولة الصغرى من الدول السورية فئة نايو رجعية لا تقل عن الفئة العروبية، تهديـماً للحقيقة وتهديداً لـمصير الأمة السورية ومصير الـجماعة التي تدّعي تـمثيلها. هي الفئة الـمتلبننة تلبنناً فرنسياً القائلة بـ «القومية اللبنانية» التي ترمي من ورائها إلى فصل اللبنانييـن الـمسيحييـن خاصة وكل من أمكن من غير الـمسيحييـن عن بقية السورييـن، فصلاً لا يقتصر على الناحية السياسية التي يؤمّنها الكيان اللبناني أو الدولة اللبنانية، بل يتعدى الناحية السياسية إلى صميم الوحدة الاجتماعية - إلى صميم الوحدة القومية السورية، فيعزل اللبنانيين روحياً وثقافياً عن الحياة السورية العامة وعن التفاعل القومي الروحي الثقافي ويجعل منهم مجموعاً مناقضاً للوجود السوري القومي، بل معادياً لهذا الوجود ومقاوماً لاستمراره.
إنّ فكرة الانعزال اللبناني التام روحياً واجتماعياً - فكرة إنشاء أمة لبنانية وقومية لبنانية - تدل على مرض الداعين إليها مرضاً نفسياً يشوه العقل السوري والإدراك والـمنطق. إنها فكرة مخالفة للواقع الاجتماعي والـحقيقة.
كما لبست الـحزبية الـمحمدية - أقول الـمحمدية لا الإسلامية لأنني كما أعلنت سابقاً أعتبر الإسلام شاملاً الـمسيحيين وأهل الـحكمة أيضاً - في الرجعية الـجديدة لباس «القومية العربية» وارتكزت على مرتكزين أساسيين، هما: اللغة العربية والدين الـمحمدي، اللذين نشرهما الفتح العربي الـمحمدي، كذلك لبست الـحزبية الدينية الـمسيحية في الرجعية الـجديدة لباس «القومية اللبنانية» واتخذت لنفسها مرتكزين أساسيين هما: الدين الـمسيحي ونظام جبل لبنان تـحت السيادة التركية، الذي وُضع عقيب الـحرب الأهلية الدينية الـمعروفة «بحركة سنة الستين» التي جرت فيها سنة 1860 مذابح دينية منكرة. وكما ترفض الـحزبية الـمحمدية الإقرار بأنّ العروبة - عروبة «الأمة العربية والوطن العربي» - هي اللباس أو التجسيد السياسي للحزبية الدينية الـمحمدية كذلك ترفض الـحزبية الـمسيحية الاعتراف بأنّ التلبنن - تلبنن «القومية اللبنانية والوطن اللبناني» - هو اللباس أو التجسيد السياسي للحزبية الدينية الـمسيحية.
لا جـدال في أنّ السبب الـمـوجـب، من الوجهـة الداخليـة، لوجـود الدولة اللبنانية هو الـمنازعـات والـحـروب والـمذابـح الدينية التي حدثت بسبب الـحزبيات الدينية ونفسية صراع الأديان. وكان يكفي الـمسيحيين أن يطلبوا الاستقلال الإداري أو كياناً سياسياً يقيهم شر الفتن الدينية من غير لـجوء إلى الانفصال النفسي الثقافي القومي. والواقع أنه لم يخطر قط في بال أحد من قدماء السياسيين في لبنان، حتى ولا في بال الـمؤسس الفعلي الأول والأكبر للانفصال اللبناني، السيد شكري غانـم، الذي عاش مدة طويلة في فرنسة واكتسب الـجنسية الفرنسية، على ما هو معلوم وشائع، وتنقّل في عمله السياسي في فرنسة بين جمعية سورية طوراً وجمعية لبنانية تارة، أن يكون الانفصال اللبناني انفصالاً قومياً. فقد استمر غانم يشعر بسوريته، حتى بعد إعلان «لبنان الكبير» من قِبل قائد جيش الاحتلال الفرنسي، الـجنرال غورو ونشر من الكتابات ما يثبت بقاءه سورياً وحسبانه لبنان جزءاً مستقلاً من أجزاء سورية الطبيعية (إقرأ مقدمته لكتاب الدكتور جورج سمنه LA SYRIE الـمطبوع في باريس 1921). ولكن الـمدارس الفرنسية وسياسة الاحتلال الفرنسي نحو ربع قرن أنشأت لنا طائفة من الشبان الـمتنكرين لسوريتهم الـموجَّهين توجيهاً استعمارياً. وقد دفعت هذه الطائفة الطائفية الـمتفرنسة إلى الانتظام في تشكيلات محاكية لتشكيلات الفرق القومية الاجتماعية بقصد محاربة النهضة السورية القومية الاجتماعية التي، مع اعترافها بكيان لبنان السياسي، لا ترى أساساً اجتماعياً أو جغرافياً أو إتنياً أو تاريخياً «للأمة اللبنانية» التي جُعلت هدفاً للفلنج التي تقول الـمادة الأولى من «قانونها الأساسي» إنها منظمة وطنية للشباب غايتها السعي الـمتواصل إلى إنشاء أمة لبنانية (غير موجودة طبعاً) تدرك واجباتها وحقوقها وتعتني بها في دولة ناجزة الاستقلال، كاملة السيادة ضمن دائرة التعاهد والصداقة مع فرنسة (المحتلة).»
إنّ الفقر الـمالي والتقهقر الاقتصادي اللذين ينحدر فيهما لبنان نحو القطيعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أساس «القومية اللبنانية» التي تسيّرها الدعاوة «الـمصنوعة في فرنسة» التي تنشر غالباً باللغة الفرنسية في الصحف والكتب اللبنانية الأرستوقراطية، وأحياناً مترجمة عن الفرنسية في الصحف التي ترى سياسة الدعاوة وجوب إخراجها بلغة البلاد لكيلا تـحرم العامة أيضاً في لبنان من نعمة الدعاوة الأجنبية! - أقول إنّ الفقر الـمـالي والتقهقـر الاقتصـادي اللذين يصيبان لبنان بسب اتـجاه عوامل الانعزال التام فيه نحو القطيعة النهائية قد نزلا على الغالب بالـمسيحيين الذين تدّعي سياسة الانعزال التام أنها وجدت لتحميهم وتقدم لهم وسائل الـخير والعز، فسكان الـجمهورية اللبنانية جميعهم، إلا أفراداً وعائلات مستغلة، يشكون اليوم نتيجة القطيعة الاقتصادية والروحية.
أما الأخطار العظيمة التي أصبحت محيطة بلبنان، خصوصاً بعد كارثة فلسطين وبسبب استفحال الأحقاد التي توغر سياسة الانعزال التام الصدور بها، فهي تنذر بأشأم الكوارث وأسوأ أنواع الاستعباد.
إنّ الـحزب القومي الاجتماعي استطاع بجهد جهيد رفع كوارث حروب دينية في عدة مناسبات أثيرت في لبنان خاصَّة وسورية عامة، وما تزال الـحزبية الدينية تلعب في كل خفية من خفايا الشؤون السياسية الداخلية في الـجمهورية اللبنانية.
إذا كانت الرجعية العروبية تـمتاز بإبقاء التفسخ الداخلي على حاله وتبذير القوى السورية في محاولة جمع ما كوّنته الطبيعة متفرقاً، فإنّ الرجعية الـمتلبننة تـمتاز بالإمعان في التفسيخ الداخلي الذي يزيد الأمة تفككاً وضعفاً.
لم تـكـن الرجعيـة الـجديدة الـمتلبننة أقل إفلاسـاً في فلسطيــن ولبنــان من الرجعية الـجديدة الـمتعربة، ونكبة اللبنانيين بالتلبنن الـمتفرنس ليست أقل من نكبة الفلسطينيين بالتعرب.
إذا كان هنالك سبب موجب للاستقلال الإداري أو السياسي فليس هنالك ما يوجب الانفصال عن القومية السورية التي هي نتيجة الواقع الطبيعي والاجتماعي السوري والتي ينادي بها اللبنانيون الـمستقلون عن الإرادات الأجنبية!