ما أشرف عام 1947 على الانتهاء، حتى كان الـجو قد تلبد بفصول مأساة فلسطين الدامية وانهمر رصاصاً وناراً في تلك الأرض التي قرر اليهود اغتصابها، تعاونهم قوات دولية كبرى.
وقررت القيادة إرسال الـمجاهدين إلى ميدان القتال في فلسطين وكان الـملازم غسان جديد يتولى مهمة التدريب في الكلية العسكرية، فطلب اعفاءه لينضم إلى صفوف الـمقاتلين في خط النار. وكان فؤاد جديد أخو غسان قد سبقه إلى ميدان القتال في فلسطين في مفرزة أديب الشيشكلي. غير أن مصلحة الـجيش قضت أن يبقى غسان جديد مدرباً. وأصرّ وألحّ أن يكون في ميدان القتال وقد لـمعت في عينيه ميادين الشرف والعز وكأنها تنتظره على أحرّ من الـجمر!.
وشكّل غسان سرية من مواطنيه وأهله وانتخب معاوناً له في هذه السرية الرئيس جودت أتاسي وذهبوا إلى فلسطين.
هنا يبدأ تعامله مع اليهود!!
يبدأ تعامل غسان جديد مع اليهود!!
أنه تعامل الـحديد والنار والرصاص وتدمير الـمستعمرات اليهودية ودكها في معارك ستبقى أنفاس ضحاياها تعطر تاريخنا الـحديث ودوي قذائفها يصم آذان الذين حكموا على غسان جديد ورفقائه بالتجسس والـخيانة!
إن تنويه الفريق طه الهاشمي بني على أعمال بطولية قام بها غسان جديد في معارك دامية في فلسطين.
السائق الذي هدم مستعمرة يهودية
وتبدأ القصة الـمشرفة الدامية:
تبدأ في مستعمرة الزراعة اليهودية حين تدخل سيارة قائمقام بيسان الأستاذ اسماعيل فاروقي ولم يزل حياً يرزق، تدخل سيارته الـمستعمرة اليهودية. ومن كان يقود سيارة القائمقام يومها متنكراً بزي سائق بسيط؟ كان غسان جديد نفسه قد تنكر بهذا الزي ليقدم على أعنف وأجراً مغامرة. فيتعرف على مواقع اليهود الـحربية وأسرارها وخنادقها ويعود ليقدم تقريره إلى آمر فوجه بحضور كافة ضباط الفوج.
وتدور معركة «الزراعة» الـمستعمرة اليهودية، معركة من أعنف الـمعارك وأشدها ضراوة، ويخوضها الـمجاهدون السوريون في شباط 1948 قبل دخول الـجيوش العربية النظامية.
ويتساقط القتلى والـجرحى من سرية غسان جديد، ثلاثين جريحاً وخمسة وعشرين شهيداً. يشهد الذين حضروا تلك الـمعركة وفي مقدمتهم العقيد صفا كيف تناثرت الذخيرة والأسلحة والقتلى والـجرحى في أرض الـمعركة تـحت سيول الأمطار، وطلب يومها من غسان جديد أن يقوم بعمل فدائي جديد وطلب من سريته متطوعين. فتطوعت السرية كلها- لنصرك يا سوريا، لـمجدك يا سوريا- انقضت السرية وعلى رأسها غسان جديد، فجمعت الأسلحة والذخيرة والسيارات الـمتروكة في ساحة الـمعركة وأنقذت الـمعدات- وهي كل معدات الفوج الاحتياطي. تـحت سيل من رصاص العدو وناره وسلمتها كلها لآمر الفوج محمد صفا. ووقف العقيد صفا يهنئ البطل غسان جديد ويهديه سيارة «بيك أب» عربوناً على التهنئة الصميمة ويهدي غسان السيارة بدوره إلى الرئيس جودت أتاسي.
هو وأخوته في أقسى الـمعارك
وفي مشمار «هايـمك» وفي زرعين قاد غسان جديد سريته إلى خط النار وأبلى البلاء الذي خلدته تلك البطاح بالـحديد والنار!
ترى هل نسي ميشال عفلق وصلاح البيطار زيارتهما للضابط غسان جديد في الـجبهة ونزولهما ضيفين عليه؟ هل نسيا أن غسان جديد كان يحارب بضراوة في الـمعركة وكانا يتطلعان إلى الـمعركة بالـمناظير من على سطح مدرسة زرعين؟
وبينما كان غسان يقود الـمعارك كان أخوته يتلقون الرصاص في معارك أخرى. ففي معركة بيت هاتكفا قاد فؤاد جديد، شقيق غسان، والـمحكوم مؤبداً في الـمزة اليوم، قاد الـمعركة وسقط صديق الثالث جريحاً. إن الدكتور أمين رويحه يذكر أنه جبر يد صديق جديد في تلك الـمعركة الضارية.
مذكرات القاوقجي تشهد
وفي مذكرات القائد فوزي القاوقجي موقعة حربية مثبتة لا ينساها القائد الكبير ولا ينساها شهود آخرون منهم صلاح البزري أخ عفيف البزري) رئيس الأركان العامة اليوم(، كما يذكرها العقيد زياد الأتاسي والرئيس جودت الأتاسي. وهذه هي تفاصيل الـموقعة الكبرى:
قبل أن تدخل جيوش الوطن، والـجيوش العربية إلى فلسطين انتدب غسان جديد للقيام بعمل عسكري بطولي سماه بعض الذين عرفوا بخطته أنه عمل جنوني.
كانت الـخطة- والبريطانيون ما زالوا في فلسطين- أن تغزو قوة من الـمجاهدين أحد الـمعسكرات البريطانية في حيفا عن طريق يافا وأستأذن غسان جديد قائده فوزي القاوقجي فأذن له.
تنكر غسان مع مئة وعشرين مجاهداً منهم زياد الأتاسي، وابراهيم فرهود، وعلي ماجد، تنكروا بألبسة الـجنود الأردنيين، واخترقوا الطريق من جنين إلى حيفا، والـمعسكرات البريطانية. والـمعسكرات اليهودية على جانبي الطريق، وساروا في قلب حيفا واجتازوها إلى ما تـحت قرية «الطيرة» وقاموا بالـمهمة العسكرية. وقاد غسان جديد هذه القوة منفذاً العمل الـجنوني، فسقط الـمعسكر المليئ بالذخائر في أيدي القوة التي لم تزد كثيراً عن الـمئة فدائي بقيادة غسان جديد.
ملحمة «النبي يعقوب»
وإذا كانت هذه الـمعارك الدامية تضيء طريق غسان جديد إلى قمم البطولة فهناك معركة تنزل فخمة في تاريخنا: معركة هي مبعث التندر الطويل حين تقص قصص البطولات في فلسطين.
كانت مستعمرة «النبي يعقوب» الـمستعمرة اليهودية الـمنيعة الـحصينة بين رام الله والقدس، تعترض الطريق العام وتـمنع الـمجاهدين من الوصول إلى نـجدة القدس. كانت شوكة في حلق القوات الزاحفة تـمنع عن القدس امدادات الـمؤون ونـجدات الـمجاهدين، واشتبكت قوة من جيش الانقاذ بقيادة العقيد مهدي العراقي مع حامية «النبي يعقوب» اليهودية وتراجعت القوة الـمهاجمة أمام عنف الـمقاومة والتحصينات، وكان غسان جديد في قرية «النبي صموئيل» الـمشرفة على مستعمرة «النبي يعقوب» على بعد سبعة كيلومترات منها. ودون أن يتلقى أمراً أنـجد قوة الانقاذ، وكان الـمقدم عفيف البزري مرابطاً على بعد ثمانـمئة متر من الـمستعمرة يقذفها بقذائف الـمدفع الوحيد الذي كان على الـجبهة.
واندفع غسان على رأس حفنة من الفدائيين إلى الـمستعمرة التي أعجزت الـجيوش.
واندفع غسان جديد إلى الـمستعمرة الـحصينة والتف بـمناورة بارعة حولها واستمر تبادل النار بين الـمستعمرة وقوة جيش الانقاذ الـمهاجمة بينما كان غسان يقود فدائييه إلى العمل الـخطير..
وما رمى الفجر بخيوطه الذهبية على الـمروج الـممتدة حتى اهتز الـمكان بالدوي الـمتتابع وأصبحت الـمستعمرة اليهودية الـحصينة أنقاضاً وخرائب وما فيها بين قتيل وجريح وأسير.
وانفتحت طريق القدس وتدفقت عليها النجدات بأمان، هل يذكر اللواء عفيف البزري ذلك اليوم الـمحجل ويذكر فتى ذلك اليوم؟ هل ينسى كيف ارتبط مع غسان، ولـماذا ارتبط إذا احتل غسان الـمستعمرة؟ لقد نسف يومها غسان جديد بنفسه الـمستعمرة اليهودية في أروع عملية فدائية شهدتها الـحرب الفلسطينية فكسب للجندية السورية شرفاً أثيلاً وللبطولة الأصيلة في أمتنا ميداناً فسيحاً!
غسان بين 1954-1951:
قصة صراع الجيش على الحدود وفي هيئة الأمم
كيف منع غسان جديد اليهود من تجفيف الحولة
تتناثر أخبار اعتداءات اليهود على مخافر الـحدود السورية وفتكهم الـمريع بعشرات من الـجنود والضباط: تتناثر اليوم هذه الأخبار لنقابلها بالشكوى الـمستعطفة وبالضعف الـمحتج في مجلس الأمن والهيئات الدولية نفسها التي اعترفت بالاعتداء اليهودي على أرضنا وسلامة وطننا! أما عام 1952-1951 فقد كانت أخبار الـجبهة السورية غير ما هي اليوم. كانت يومها الـجبهة زاخرة بالأهبة والاستعداد وكان على رأس الـجبهة قائد أقسم أن لا يجعل العدو يـمر...!
وكان عام 1951 عاماً حاسماً في الـجبهة فقد صمم يومها اليهود على تـجفيف الـحولة واحتلال الـحمة الـمشهورة بينابيعها الـمعدنية، وخططوا لهذا التصميم وبدأوا بالتنفيذ ظانين أن الـجبهة الشامية لا تـحرك ساكناً. فقد خرجت الدول العربية كلها ومن بينها الـجمهورية السورية من حرب 1948 مدماة الـجناح مكسورة الـجانب!
ولكن خاب فأل اليهود، فقد كان يتولى قيادة الـجبهة، قيادة الفوج الثامن الـمتمركز على الـحدود مقابل البحيرة، ضابط حارب في فلسطين ونكل باليهود ودك مستعمراتهم يوم كان ملازماً متطوعاً في جيش الانقاذ وهو اليوم قد رفع خلال ثلاث سنوات- وهذا رقم قياسي- إلى رتبة مقدم: أنه الـمقدم غسان جديد رئيس الوفد الشامي للجنة الهدنة الـمشتركة وقائد الفوج الـمتمركز على الـحدود مقابل الـحولة!
وحاول اليهود عبثاً تـجفيف الـحولة، حاولوا مدة تزيد على الشهرين ولكن نيران الرشاشات الشامية كانت تصليهم ناراً حامية. وفي موقعة واحدة، حاول اليهود فيها احتلال أكمة، سقط منهم عشرات القتلى دفعة واحدة.
وبلغت خسائر اليهود خلال الشهرين مئات القتلى والـجرحى ونسفت جراراتهم وورشهم كلها وتساقط عمالهم وجنودهم قتلى وأبى القائد البطل أن يسمح لليهود أن يـمروا فقد نصب لهم سياجاً من النار على طول الـجبهة..يومها كنا نرفع الـمسألة إلى الـمجلس الدولي ونحن أقوياء..لم يجرؤ يهودي واحد يومها على مهاجمة أي مخفر سوري على الـحدود: كان دفاع الـجبهة الشامية دفاعاً هجومياً..
ويومها رفعت مسألة الـحولة إلى مجلس الأمن وكنا أقوياء حصدنا مئات القتلى من العدو واحتكما إلى الهيئة الدولية بعد أن احتكمنا إلى قوتنا وفرضنا الـحل بقوة جيشنا.
واهتمت القيادة الشامية أن ترسل عسكرياً يكون مستشاراً للوفد الشامي في هيئة الأمـم الـمتحدة، ومسألة الـحولة قد انتقلت من هشيم الـجبهة إلى الـمحافل الدولية الكبرى: ولم تر القيادة يومها أفضل من بطل الـحولة الذي منع اليهود من تـجفيف البحيرة بالقوة فإذا بها تعهد إليه هو نفسه منعهم من تـجفيفها بالـحنكة والفكر والـمخطط فانتدبته مستشاراً عسكرياً للوفد الشامي إلى هيئة الأمـم الـمتحدة.
ونثبت هنا شهادة آمر المنطقة الوسطى عن إمكانيات غسان.
الـجمهورية السورية
الـجيش- قيادة الـمنطقة الوسطى
رقم 1872/م و/ س ص.
وصف الـمقدم غسان جديد مدير مدرسة ضباط الاحتياط الذي انتخب رئيساً لأركان اللواء الرابع في مناورات الـجيش العامة في الكسوة خلال شهر تـموز 1954.
قائد مـمتاز علماً وعملاً ثقافته العامة والعسكرية متينة جداً، ذكي، سريع الـخاطر، قوي الإرادة. جلود، يعمل بدون كلل يتفانى في مصلحة جيشه وبلاده، غيور في وطنيته ولذلك فهو موضع احترام مرؤوسيه، أظهر جدارة وأقداماً في تنظيم مدرسة ضباط الاحتياط وإدارتها وقيادة التدريب فيها محاولاً تـجهيزها بأحدث الامكانيات بواسطته الـخاصة ومستحثاً التبرعات قدمها للمدرسة طلابها بغية تسهيل التدريب. تـمكن خلال انتدابه رئيساً لأركان اللواء الرابع بثقافته الـممتازة وتفكيره الناضج وأسلوبه الـمتين من تـحسين العمل في شعب أركان اللواء مـما أدى إلى نتائج مـمتازة في الـمناورة التي كان فيها موضع ثقة وحب من آمر اللواء وأمار القطعات.
الـخلاصة: قائد له مستقبل باهر. من العناصر التي يعتمد عليها، مندفع عن إيـمان راسخ وعقيدة قومية ووطنية وإخلاص لرؤسائه كل ذلك يضاف إلى إمكانياته الواسعة وجرأته وشجاعته مـما يؤهله للترفيع لرتبة أعلى.
طبق الأصل
54/11/11
قائد الـمنطقة الوسطى
شهادة لغسان
جاءت إمرأة فلسطينية إلى غسان، رئيس أركان الجبهة الشامية يومها، تشكو من أن اليهود سرقوا لها بقرتين وبعض الغنم، فما كان منه إلا أن أنذر اليهود بواسطة لجنة الهدنة بارجاع ما سلبوا وإلا سيعاد بالقوة، ورضخ اليهود أمام التهديد العنيد.